دائما أزعم أنّي أكتبُ الشِّعر بأنواعه، ولإنْ وُصِفتُ لدى من يعرفني بأنّني شاعر عمودي، وقد كان هذا الوصف يحتِّم عليّ كتابة الشّعر، وليس الكتابة عن الشِّعر، على اعتبار أنّ المرء لا يُمكن أن يكون "خصما" وحكما في ما يراه ويسمعه من أشعار غيره، حتّى وجدتُ نفسي أخوض في التّجارب الشعرية في بحثي لنيل شهادة "الماستر" في موضوع بعنوان "القصيدة العمودية وأشكال الحداثة الشعرية المعاصرة". وقد أذهلني أن الشعر الأكثر انتشارا كمكتوب و "إبداع" هو ما يمكن أن نسميه من حيث المبدأ "شعر النّثر"، أقول ما يُمكن أن نسمّيه لحجم الأشكال التي تمخّضت عن تجارب الكتابة فيه، والتي صارت اليوم منفتحة على كلّ شيء تقريبا، إنْ على مستوى الأشكال أو على مستوى المضامين.
وقبل أن أوغل في إبداء رأيي أودّ أن أأكّد ما بدأتُ به الموضوع من أنني كتبتُ في شعر النّثر، ولطالما أُعجِبتُ بالكثير منه، ولستُ ممّن يسحب منه جنسيته الشّعرية، أو ممّن يسمّي قائليه بالمُستَشعرين، بل أنّني أجزم أن بعضه يحمل من روح الشعر الجميل ما لا يحمله بعض الشعر العمودي والتّفعيلي ذاتيهما، فبعض الأقلام العمودية لا تكتب الشعر بقدرما تنظمه، وطبعا هناك فرق كبير بين أن تبدع شعرا عموديا وبين أن تقول كلاما موزونا لا روح فيه، وحتى في أشهر القصائد قد تجد نظما ولا تقرأ شعرا، وهذا –بالمناسبة- لا يعيب الشاعر الذي يتعمّد ذلك في ابتغائه التعليم والتلقين مثلا، فألفية الإمام مالك ليست شعرا يمكن أن يطرب له سامع، ولا يمكن أن يجد فيها قارئ أو سامع ما يجده من عذوبة قول نزار مثلا:
وإذا وقفتُ أمــام حسنِـكِ صامتـا
فالصّمتُ في حرمِ الجمالِ جمالُ
وإذا كانت روح الشعر تغيب عن الرّديء من العمودي والتفعيلي اللذين يلتمسان الوزن والمضمون بما في ذلك من تقنيات التصريع والتدوير وغير ذلك من حسن التخلّص والتقفية بأنواعها وما إلى ذلك، فكيف بالشعر النّثري عندما يكون رديئا؟ وأي حال نحن فيه عندما يكون بوصفه هذا منتشرا كالفِطر فقط للاعتقاد بسهولته؟ إن ذلك ما يمكن أن نسميه الظاهرة "الشِّعرية" التي لم يعد الصّمتُ أمامها مبرّرا بحال، والتي انتحلت صفة الشِّعر بكلّ إصرار وترصّد، فبدا المشهد خرجا عن السّيطرة، وربّما كان حضور هذا النّوع من "الإبداع" في بعض الملتقيات إساءة للملتقيات، وللشعراء الحقيقيين، وللمُستشعرين أنفسهم، وللمشهد الثقافي العام بطبيعة الحال.
وعلى الرّغم من أن القصيدة النّثرية "التّقليدية" لم تحمل وزنا ولا قافية في الأصل، فقد انطلقت قوافل من الشعراء في العالم الإلكتروني، والورقي، وفي الصالونات والملتقيات، يقرأون شعرا مقفّى غير موزون، وهو كلام أقصى ما يُمكن أن يقال فيه أنه "سجعيات" يمكن تقبّلها كإبداع حينما تكون فيها الصور الجميلة والسّلاسة المطلوبة، وحين يكون الفاعل فيها مرفوعا، والحال منصوبا، وهو الأمر الذي لمسته في ما جادت به قرائح بعض ممّن طربتُ شخصيا لهم، وقلتُ لهم ذلك.
والكثير من هذه المحاولات كان التماسا "للسهولة" وهروبا من الوزن، وهذان أمران من حق أي شاعر أن يلتمسهما، بشرط حضور الشاعرية التي لا يُعتبر العمودي بالضرورة دليلا عليها، وبشرط وجود قدرة مقبولة على اللغة السّليمة، أقول مقبولة على الأقل مادام أنّ لا أحد فوق الخطأ.
إنّ بعض هؤلاء يحمل من القدرة على قول الشعر ما تستشفه حتّى في كتاباته السّردية، وربّما من كلامه العادي، لكن تجد الكثير ممن يحمل هذه القدرة المكبوتة لا يجرؤ على التفكير في تعلّم مبادئ الشّعر، لا أقول العموديّ منه، ولا حتّى التفعيلي، بل على الأقل في تمظهره النّثري ذاته.
وفي الأخير أودّ أن أقول أنّ الظاهرة ليست خاصة بنا في منطقة الصحراء، بل هي "صيحة" اجتاحت كلّ العالم العربي، حتّى في أقطاره الأشدّ التصاقا بالشعر الأصيل، كما أودّ أن أعيد التأكيد على أنّ لدينا شعراء نثريين من الطراز الجميل، ومحاولات سجعية ساحرة، ولولا خشيتي أن أذكر أحدا دون أحد لأوردتُ هنا أسماء لنخبة من مبدعينا النثريين والسجعيين الذين نفخر بهم