لماذا مكة؟ هذا هو السؤال الذي نبدأ به، لماذا لم يُبْعث الرسول في فارس أو الروم أو في فلسطين ككثير من الأنبياء؟ أو في مصر كسيدنا موسى ؟

لماذا ينزل الوحي في مكة، وتجري أحداث قصة الرسول في المدينة والجزيرة والطائف وغيرها؟

ليس هناك نقطة واحدة في حياة الرسول عشوائية، بل كل نقطة بحساب، فإن الرسول سيصير قدوة لكل المسلمين؛ لذا لا بد أن تكون كل خطوة في حياته محسوبة بدقة.

إذن كان الوضع في جزيرة العرب هو الوضع المناسب لقيام الدعوة الإسلاميّة.

من الواضح أن التجربة الإسلاميّة الأولى كانت تجربة ناجحة تمامًا، ومن الواضح - أيضًا - أن البيئة التي نشأت فيها الرسالة، وخطت فيها خطواتها الأولى كانت بيئة صالحة؛ لأننا رأينا الإسلام ينتشر بسرعة عجيبة وبثبات أعجب، ففي غضون سنوات قليلة لا تحسب في التاريخ بشيء وصل الإسلام من أقصى الأرض إلى أقصاها.

ليس هذا فقط، بل دخل الناس في دين الله أفواجًا، راغبين غير مكرهين، مختارين غير مجبرين.

نريد أن ندرس هذا السؤال لنعلم المقومات التي أنجحت هذه الرسالة. نعم إن الرسالة من الممكن أن تحقق نجاحًا ذاتيًّا، لأنها عظيمة في ذاتها، وتصلح لكل زمان ومكان، ولكن من منظور هذه السطور نحن نقول: كيف نبني أمة؟ وأول البناء وضع الأساس.

نريد أن نعرف لماذا اختار الله هذه الرقعة من الأرض لوضع الأساس لهذا المشروع الناجح (الإسلام)؟ ما مواصفات هذا المكان؟ ما ظروفه؟ ما طبيعته؟ فإذا عرفنا ذلك فإننا قد نستطيع أن نستخرج قواعد في غاية الأهمية لإعادة بناء الأمة الإسلاميّة على أساس صحيح، وسندرك بعدها أي بيئة ستكون أصلح لنشأة هذا الدين وتمكينه.

ونحن ندرك أنّ الحكمة الكاملة وراء اختيار المكان لا يعلمها إلا الله ، ولكننا في المقالات التالية سنبحث قدر الاستطاعة، ونسأل الله التوفيق.

إيمان أهل مكة بالله

لعل من الحكمة من وراء نزول الرسالة في هذا المكان أنّ أهل هذه البقعة من الأرض كانوا يؤمنون بالله ، ويعلمون أنه خالق، ولكنهم حكموا غيره في حياتهم، واتخذوا إليه شفعاء، قال الله U في كتابه الكريم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزُّخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزُّمر: 3].

فالذي يؤمن بالله، ولكن هناك اضطراب في فهمه، وقصور في إدراكه أقرب من الذي يؤمن بإله آخر، أو لا يؤمن بوجود إله أصلاً.

لم يكن في الأرض وقت البعثة النبوية الشريفة من يفقه هذه الحقائق إلا أقل القليل.. كان هناك من يعبد المسيح ، وهناك من يعبد النار، وهناك من يعبد بوذا، وفي الهند كان هناك من يعبد بقرةً أو شجرةً أو فأرًا أو قردًا.

أولويات اختيار المدعو

لكنّ الله يعلمنا أن ندعو الأقرب فالأقرب:

- فندعو الذي يؤمن بوجود الله قبل الذي ينكر وجوده.

- وندعو الذي يعظِّم الله U قبل الذي لا يعظمه.

- كما ندعو الذي يحب الدين ولكن لا يتبعه قبل الذي لا يحب الدين أصلاً.

وأولى الناس بدعوتنا في هذا الزمان هم المسلمون.

وأنا لست ضد دعوة اليهود والنصارى، بل على العكس هذا أمر عظيم وعظيم جدًّا، ولكن ابدأ بالأقرب فالأقرب: لا تترك جارك في السكن أو في العمل أو في النادي أو في غيره دون دعوة وهو مسلم وتتجه إلى دعوة غيره من غير المسلمين.

أَمَّا إن انتهيت من الدائرة الأولى حولك، فانطلق منها إلى غيرها مع مراعاة الأولويات.

الوضع الثقافي في الجزيرة العربية

الوضع الثقافي في مكة المكرمة خاصة والجزيرة العربية بصفة عامة، فلم يكن فيها فلسفات، ولم يكن فيها تشريعات مركبة، ولم يكن فيها قوانين مفضّلة، إنما هي حياة بسيطة إلى أبعد درجات البساطة، بينما كانت الحضارات المعاصرة ذات أفكار مرتبة، وفلسفات خاصة، وتاريخ طويل، على الوضع التالي:

1- الدولة الرومانية الغربية والشرقية

كان لديها قوانين وتشريعات في مختلف المجالات، بالطبع كان فيها ظلم وإجحاف، ولكنها في العموم قوانين تغطي مجالات الحياة.

2- اليونان

كانت جزءًا من الدولة الرومانية، كما ظهر فيها فلاسفة كبار لهم فلسفات خاصة كسقراط وأفلاطون وأرسطو.

3- الدولة الفارسية

ظهر لديهم فلاسفة كمزدك (صاحب فكرة الشيوعية) وزرادشت.

4- الهند

كان لديهم الكثير من حكمائهم طبقًا لأفكارهم.

5- مصر الفرعونية

وكان لديهم تاريخ طويل، وقوانين وتشريعات عديدة.

ورغم كل هذا نشأت الرسالة في مكان يعتبر بلا تاريخ ولا وضع ثقافي يُذكر، اللهم إلا الشِّعر، لكن حتى الشعر لم يكن له دور فعال، أو أهمية خاصة في إنشاء الأمة الإسلاميّة، بل إن رسول الله r لم يكن يعرف نَظْم الشعر رغم بلاغته وفصاحته r، وقد قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. أي لا يصح له أن يقول الشعر، وليس ذلك لأن الشعر حرام، ولكن لكي لا يختلط على الناس الأمر، فيعتقدوا أن القرآن نوع جديد من الشعر ساقه الرسول r من عنده.

وكذلك كان المهاجرون -على فصاحتهم- لا يقولون الشعر إلا قليلاً، فأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير، كان معظمهم لا يقول الشعر، ولم يظهر للمسلمين شعراء إلا بعد تثبيت أركان الدولة الإسلاميّة في المدينة، فظهر من الأنصار شعراؤهم: كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة وغيرهم.

نقاء رسالة الإسلام

كل ما ذكرناه آنفًا لم يكن إلا لشيء واحد، هو من الأهمية بمكان، ألا وهو: نقاء الرسالة؛ حتى لا تختلط الرسالة بأفكار أخرى سابقة، وهنا قد يتهمها الناس بأنها مجرد تطور لمعتقدات معينة، وقواعد خاصة وضعوها منذ آلاف السنين، قد يحث بعضها على معنى أو فضيلة معينة يحث عليها الإسلام أيضًا، ولكن مع شيء من التحويل والتغيير، فقد يحث بعضهم على الصدق، أو الزهد في الدنيا والأمانة، فإذا جاءت هذه الأفكار في الإسلام فقد يعتقد البعض أنها مجرد تطور لأفكار الفلاسفة.

وقد ادعى بعض أعداء الإسلام هذا الادعاء رغم بُعد الرسول عن هؤلاء الفلاسفة، ورغم كونه r أُمّيًّا وقت نزول الرسالة، فكيف تكون الحال إذا نزلت الرسالة في بلدٍ مملوءٍ بالفلاسفة والمفكرين؟!

كما أنّ هناك أمرًا آخر مهم أيضًا هو ضمان عدم تسرب بعض هذه الأفكار والفلسفات إلى الإسلام شيئًا فشيئًا دون دراية المسلمين بذلك، فيختلط الصواب بالخطأ، والحق بالباطل.

إن الجزيرة العربيّة رغم خلوها من الفلسفات والأفكار القديمة، فإن مجتمع المسلمين فيها احتاج جهدًا كبيرًا لإلغاء عادة مثل التبني، فقد استلزم الأمر طلاق الصحابي الجليل زيد بن حارثة t من زوجه زينب بنت جحش رضي الله عنها، ثم زواج النبي r منها، كل ذلك لإحداث هزة في المجتمع لإلغاء هذه العادة، فكيف لو كان البلد حافلاً بالفلسفات وأصحابها؟!

إن الله يريد أن يحفظ نقاء الرسالة، ولعل هذا هو السر -أيضًا- في عدم نزول الرسالة في فلسطين، وذلك حتى لا تصبح الرسالة مجرد امتداد لليهودية أو النصرانية.

نعم أصول التوحيد واحدة، ولكن الإسلام أتى بتشريع كامل متكامل يحكم الدنيا والدين، كما أن اليهودية والنصرانية قد حُرِّفَتا بدرجة كبيرة جدًّا، ولم يعد أحد يدري أين الصحيح من المزوَّر؟

أراد الله I أن تنزل الرسالة في مكة ليس فلسطين، حتى لا يدّعي أحد أنَّ الرسول قد مزج بين التوراة والإنجيل، وحرَّف فيهما قليلاً وغيَّر، وصنع منهما الإسلام.

إن كفار مكة قد ادعوا ذلك على الرسول الكريم r فادّعوا أن الرسول يأخذ القرآن من غلام نصراني، فكيف لو نزلت الرسالة في بلدٍ مملوءٍ بأهل التوراة والإنجيل كفلسطين؟

لذلك نزلت الرسالة في بلد ليس فيه أي نوع من الثقافات السابقة أو القوانين أو التشريعات. كل هذا ليبقى الدين في النهاية نقيًّا خالصًا {أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ} [الزُّمر: 3].

من هنا نفهم موقف رسول الله r من عمر بن الخطاب t عند رؤيته يقرأ صحيفة من التوراة. روى أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t أَتَى النَّبِيَّ r بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ r فَغَضِبَ (وفي رواية: أن عمر هو الذي كان يقرأ)، فَقَالَ الرَّسوُلُ r: "أَمُتَهَوِّكُونَ[1] فِيهَا يَابْنَ الْخَطَّابِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى u كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي".

هذا الحديث وإن كان فيه أحد الضعفاء (مجالد بن سعيد) إلا أنه ورد من طرقٍ شتى يقتضي مجموعها أنّ لها أصلاً كما قال ابن حجر في الفتح.

ومن هنا -أيضًا- نفهم النهي المتكرر الصريح والجازم الذي جاء في القرآن الكريم بخصوص قضية اتباع الآباء.

لا شك أنه ستكون هناك تقاليد معينة في مكة، ومعتقدات خاصة عند السابقين، فلو اختلطت هذه المعتقدات (وإن كانت قليلة) بالإسلام، فإنّ ذلك لا يضمن بعد ذلك وضوح الرؤية ونقاء الرسالة، قال الله U: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].

د. راغب السرجاني

[1] متهوكون: أي متشككون أو متحيرون.