«عيش المحموص».. قصة عمرها ألف عام إيمان الشايب - القطيف 10 / 9 / 2019م - 12:35 م
ما إن يهل هلال شهر محرم الحرام حتى تنتشر روائح الطعام الزكية التي ترتبط بهذه الأيام العاشورائية؛ فترى الكثير من أهالي المنطقة يستعدون لإيقاد النار وتجهيز الأواني ذات الأحجام الكبيرة ويتنافسون في المشاركة في اعداد وتقديم «عيش الحسين» أو «البركة» ومن ثم توزيعها حبًا بالإمام الحسين .
ويشتهر موسم عاشوراء في القطيف بتقديم بعض المأكولات التي أصبح توزيعها تراثًا حسينيًا مرتبطًا بمناسبة عاشوراء أشد ارتباط ومن ضمنها «عيش المحموص» الذي أصبح إرثًا ومحطة يقف عندها الجميع من داخل أبناء منطقة القطيف وخارجها وذلك لما له من خصائص فريدة تميز بها.
لذا ارتأت صحيفة «جهينة الإخبارية» أن تسلط الضوء على تفاصيله، فما هي قصته؟ وما هو تاريخه؟ وكيف هي بدايته؟
«المحموص» قصة من 1000 عام
يذكر الباحث علي الدرورة بأن عيش المحموص ارتبط بعاشوراء الحسين منذ أمد بعيد ولا يمكن ربطه بزمن معين، مشيرًا إلى أن الإطعام الفعلي في الحسينيات بدأ بسقاية الماء وتقديم التمر والخبز في القرن الثالث الهجري.
وقال بأن تقديم الأرز وخاصة المحموص لعله بدأ في القرن الرابع الهجري أي منذ ألف سنة تقريبا.
ونفى من جهته ارتباط المحموص «بالفقر وبالبحارة قديما» مؤكدًا عدم صحة ذلك حيث لم يقل به أحدٌ أبدًا.
وأشار إلى أن أبرز الأماكن المشتهرة به في مناطق القطيف هي تاروت وسنابس التي عرفت بزراعة الارز والبصل والفلفل والليمون حيث كانت محاصيله تصدر إلى خارج القطيف في القرن التاسع الهجري.
المحموص ومنتصف القرن الرابع الهجري
ولفت الدرورة إلى أن تاريخ المحموص يعتبر اليوم مرتبطا تاريخيا منذ تأسيس الحسينيات في منتصف القرن الرابع الهجري أي منذ العصر البويهي حدود سنة 350 للهجرة.
ونوه إلى أن القطيف كان يطلق عليها يوم ذاك «القطيف المقدسة» لكثرة العلماء فيها حيث كانت مرجعية دينية على مستوى الخليج والعراق.
وتابع القول أنه بعد 50 سنة أُنشئت حوزة النجف الأشرف لتكون المرجعية فيها لأهل العراق فقط ثم توسعت، لتنتشر في القرن الرابع الهجري الحسينيات على امتداد مدن وقرى الخليج.
المحموص وتزامنه مع أيام عاشوراء
وبين بأن تقديم الأطعمة يعد حسب المواسم وتقليد تلك الدول حتى في زمننا المعاصر، منوهًا إلى وجود "المحموص" في جزيرة تاروت حصرا.
وأضاف «ولكن بدأ ينتشر في مختلف مناطق القطيف في العقدين الاخيرين وبشكل شامل، حتى أن بعض المناطق لم تبدأ بتحضيره إلا منذ سنوات قريبة جدا».
وأوضح بأنه على الأرجح معروف في بعض مناطق البحرين تزامنا مع أيام عاشوراء.
وأشار إلى أن الوعظ والإرشاد واختتامه بذكر مصيبة الإمام الحسين كان في الحسينيات نفس النمط المعاصر أي مضى عليه أكثر من ألف سنة، مبينًا بأن العزاء لم يكن داخل الحسينيات وانما كان في الساحات والعرصات.
تاريخ الأرز الأحمر «الهندية»
من جانبه، قال الباحث التاريخي عبدالرسول الغريافي أن "المحموص" عرف منذ القدم في القطيف ولعله من قبل عصر الجريش.
ولفت إلى أن أكثر الوجبات السائدة في القطيف هي الجريش إذ كانت تعتمد على الأرز في البداية على ما تنتجه الأرض القطيفية من أرز وهو الأرز الأحمر والمعروف «بالهندية».
وقال الغريافي بأنه لا يكاد يفي بالحاجة حيث كانت مزارع أرض البذراني قبل أن تغطيها رمال صحراء الدهناء كلها مزارع للأرز والنخيل والتي امتدت من سيهات وحتى القديح ثم مرورا بالعوامية وصفوى وذلك لما فيها من كثرة أراض مغمورة بالمياه إذ تفوق عيون السيح في منطقة البذراني عن ستين عينا.
وتطرق في حديثه قائلًا بأن الأوجام هي آخر منطقة في القطيف زرع فيها الأرز الأحمر حيث كانت آخر عائلة تزرعه هي عائلة الناصر وآخر من زرعه هو المرحوم محمد بن دخيل الناصر، مؤكدًا على أنه بوفاته انتهت زراعة الأرز الأحمر عام 1425 هـ جرية.
المحموص والأرز الأحمر.. علاقة وطيدة
وتشير الدلائل إلى أن الأرز الأحمر هو المعلم الذي قاد إلى طبخ المحموص إذ أن إضافة البصل إليه بشكل طبيعي يزيد من شدة درجة احمراره.
وأضاف القول «لعله بعدما أصبح استيراد الأرز الهندي متواترا فقد الناس مزية اللون الأحمر فحاولوا أن يعوضوا ذلك بإضافة كميات أكبر من البصل مع زيادة تحميصه لكي يصلوا إلى أعلى درجة للون الأحمر فجاء المحموص».
وبين بأن البعض من الكبار كانوا ينسبون طريقة اكتشاف طبخ عيش المحموص إلى هذه القصة.
وذكر الغريافي بأنه إذا كان هذا الأمر ثابتا فالعلاقة بين المحموص والهندية «العيش الأحمر» تعد وطيدة.
للمحموص خمسة أنواع
وأشار الغريافي إلى أن المحموص لم يعرف إلا في القطيف وكذلك في البحرين والتنافس في التفنن في طبخه بين مناطق القطيف مستمرا وعلى خمسة أنواع باللحم وبالدجاج وبالسمك وبالربيان الساده وبالربيان المموش «أي بالماش» أو بالعدس.
وأوضح أنه بين فترة وأخرى كانت تبرز مناطق في التفوق في طبخه على مناطق أخرى من حيث إتقان طبخه حسب الظروف وتواجد الطباخين.
وقال بأنه كلما برزت منطقة في إتقان طبخه نسبوا اكتشافه لهذه القرية أو الحي على إنهم هم أول من طبخوه وهكذا.
وتابع «أنه من المعروف بأنه كان هنالك طباخون متخصصون ومهرة في طبخه يزداد الطلب عليهم في أيام عاشوراء وفي مناسبات الزواج وليس كما هو الآن فقد أتقنه الكثير بفضل ممارسة طبخه».
البحّاري توأم المحموص
وتحدث الغريافي عن طبخة «البحّاري» التي كانت توأما للمحموص مضيفًا «دائما ما نسمع أنهم يوزعون محموص وبحّاري، والبحّاري هي طبخة أخرى للأرز لونها أصفر ولها توابلها الخاصة بها ولعل البحّاري كان يطبخه البحارة والغواصون فوق السفن على السريدان أي مطبخ السفينة فسمي بهذا الاسم».
ولفت إلى أن المحموص والبحّاري تعدان طبختان قطيفيتان ملازمتان لمناسبتين هما أيام عاشوراء ومناسبة الزواج.
وبين بأن المحموص والبحاري كانا يقدمان للضيوف في مناسبة الزواج مع اللحم كوجبة عشاء فقط ولم تكن ضيفة الزواج في وقت الغذاء مطلقا، لذا كان دائما يقرأ في بطاقات الزواج «وتناول وجبة العشاء».
وتابع القول «أيضا كانت هناك طبختان أخريتان في الزواج وهما ”القاورما“ و”القيمه“ ولعلهما عراقيتا الأصل، ولكن مناسبات الزواج اتخذت فيما بعد مسارا مختلفا حيث التحسينات والتطويرات السريعة التي طرأت على مراسيم الزواج وخصوصا في الضيافات».
وأوضح بأنه تم الاستغناء عن المحموص والبحّاري وغيرهما فأصبح طبخهما مقتصرا على أيام عاشوراء وبقية الوفايات، كما وقد حلت الكبسة وغيرها محل البحاري وأصبح البحاري في عداد المنسيات.
«اللي يعزي واللي ما يعزي يأكل عيش الحسين»
وقال الغريافي بأن المحموص يعرفه كل القطيفيون حيث يشتهر في بعض المناطق كأهالي تاروت وبعض المناطق كان يعرف عندهم «بالمبزر»، لافتًا إلى أنه الآن أصبح يعرف في كل مكان بالمحموص.
وذكر بأنه أصبح عنوانا للضيافة الخاصة بالإمام الحسين وذلك لكل الناس وبدون استثناء وأصبح يدخل في كل بيت، مشيرا إلى أن المثل الشعبي القائل: «اللي يعزي واللي ما يعزي ياكل عيش الحسين» جاء من هذا المنطلق أي لكثرة ما كان يوزع في كل مكان من مناطق القطيف.
ولفت إلى دخوله كل بيت من بيوت كل حي سواء أكان صاحب البيت قد شارك أم لم يشارك في العزاء ذلك اليوم. حيث لا زال مضيف الحسين يعم الجميع.
«بركة» المحموص لكل العالم
وتطرق في حديثه لاشتمال تناول المحموص اليوم حتى على الوافدين من العمال والأجانب كما وقد كان يشمل الجيران بمختلف أطيافهم وهم يتبادلون مع جيرانهم نفس الشعور على أنه «بركة من عند الحسين بن علي» لدرجة أنه لو تأخر عليه جاره لطالبه به أو ذكره بالبركة.
انطلاق المحموص من القطيف
وأكد الغريافي على أن طريقة طبخ المحموص جاءت من القطيف ولم تأتي من أي منطقة أخرى، منوهًا إلى أن القطيف لا تزال متربعة على عرش حقوق طبخه وإن بدأ في التسرب لبعض المناطق عن طريق المطابخ والمطاعم وأيضا عن طريق توزيعه الذي بدأ ينتشر في الشرقية وحتى في الرياض.
وأشار إلى أن البعض من أهالي الأحساء بدأ تعلمه، مبينًا بأنه من الظريف أن بعض المآتم التي تقام في أمريكا بدأت تطبخه وتوزعه فيما بين مستمعيها.
10 سنوات من الخدمة
ومن جانبها، تطرقت انتصار محمد وهي إحدى الخادمات الحسينيات في الحديث عن عملها بطبخ المحموص لمدة عشر سنوات في أماكن متفرقة من المآتم الحسينية.
وتحدثت عن تعلمها لطريقة طبخه الذي أحبته عن طريق والدتها رحمها الله والتي كانت تطبخه لمأتمهم الحسيني.
واستطردت تحكي عن ما يخالجها أثناء الطبخ للمأتم من مشاعر وطعم خاص ليس له مثيل بأي عمل آخر، متمنية من الله القبول.
المحموص واختلافه بين المناطق
وأشارت انتصار محمد إلى أن المحموص يعد طبخة قديمة جدًا وتختلف طريقتها من منطقة لأخرى، موضحة بأن المشهور بها منطقة تاروت.
وذكرت بأنها قد تطبخ باللحم أو الدجاج أو الربيان أو السمك، مشيرة لتفضيل أهالي منطقة القطيف طبخها باللحم.
سر طبخ المحموص
وقالت بأن المحموص يعتمد على البصل كجزء أساسي لطبخه حيث يقطع البصل شرائح وتقريبا يحتاج كل كيلو رز لكيلوين من البصل.
وبينت بأنه يفضل استخدام أنواع معينة من البصل للمحموص وافضلها الهندي ثم المصري.
ولفتت إلى أن البصل يحمص بكمية مناسبة من الزيت باستمرار إلى أن يتغير لونه للبني الغامق.
وأكدت انتصار محمد على ضرورة وجود الخبرة في هذا الوقت لدرجة اللون حيث يصب فوقه الماء قليلا ويترك حتى الغليان قليلا ليذوب البصل كليا تقريبا ويأخذ اللون ثم يوضع اللحم أو الدجاج والبهارات حتى النضج ثم يرفع الدجاج أو اللحم ويغسل الرز وتكون الكمية مناسبه له ويوضع في الماء حتى النضج.
وأوضحت اختلاف طبخ الربيان قليلا حيث أنه وبعد أن يتحمر البصل يتم وضع الربيان فوقه وتحريكه جيدا إلى أن يأخذ الربيان لون البصل ثم يوضع البهارات والماء، وفورًا يوضع الرز معه إلى أن يستوي الرز.