فريدريك شوبان (Chopin Frédéric) مؤلف موسيقى كلاسيكي بولندي من أصول نصف فرنسية (والده كان فرنسيا). تميزت أعماله (مازوركا، البولنديات، ليليات) بمسحة من الرومانسية، الرقة أو الكآبة أحيانا، كانت موسيقاه السبب في تجديد أسلوب العزف بالبيانو، سواءً من حيث الإيقاع أو من حيث الناحية الجمالية التنميقية. ارتبط شوبان بعلاقة صداقة مع الكاتبة والروائية الفرنسية جورج ساند.
بيت شوبان ولد فريديريك فرانسوا شوبان Frederic Francois Chopin عام 1809بإحدى ضواحي وارسو ببولندا، من أب فرنسي وأم بولندية. كان أبوه مدرسا وأمه من سلالة ارستقراطية، أما الطفل فريديريك فقد ولد مخلوقا رقيقا، بعد ثلاث بنات سبقنه إلى الحياة.
انتقلت العائلة لتقطن في العاصمة وارسو بعد تعيين الوالد “نيكولاس” في وظيفة أستاذ بالجامعة، وكانت هذه فرحة للأطفال للبدء في تلقي دروس العزف على البيانو.. منذ البداية أظهر فريديريك موهبة خارقة وغير عادية شبهت وقورنت بعبقرية موتسارت المبكرة المعجزة..
إلا أن فريديريك المسكين كان يتميز مظهره بالهزال والضعف والشحوب، وأيضا كانت له قدرة غريزية هائلة على التقليد الكوميدي للشخصيات (التمثيل الصامت)، حتى أنها كانت لتمكنه من العمل كممثل “ميميك” من الطراز الأول.. كل هذه الصفات كانت تلفها نظرة حزن وأسى، حيث كان فريديريك الصغير ذا قابلية لمرض السل الرهيب.. تلك القابلية التي كانت تعني على أقل تقدير .. الموت المبكر.. وكان لاعتلال صحته أثر رئيسي كبير على نفسه وشخصيته .. وسبب في متاعب كثيرة لأسرته.. فكان المسكين يسمع طوال الوقت التعليمات الطبية والصحية خاصة فيما يتعلق بالتدفئة من برد بولندا القارس.
كان عليلا، ولكنه كان مغرورا يملؤه الكبرياء والارستقراطية، وعندما بلغ سن المراهقة كان يكره رائحة الدخان ولا يميل إلى الملذات .. ولا يقرب الخمر.. كما كان يهتم بالمظاهر الرقيقة الناعمة ويبتعد عن الخشونة والرجولة وينفر منهما، بينما يهتم بإرضاء النساء.. “إن عزفي على البيانو يلقى قبولا وتجاوبا من السيدات” .. “كنت أحيي الجمهور برشاقة ورقة، فقد علمني “براندت” كيف أنحني بجمال..”. كانت هذه الصفات هي غروره واهتمامه بنفسه .. وكانت نتيجة لإحساسه بعلته وقرب أجله.
وعندما بلغ العشرين من عمره كان قد كون اعتقادا فطريا بضرورة الأحزان.. فارتسمت على ملامحه مظاهر الإرهاق والعصبية، وقد كان مرض السل قد أخذ ينشب مخالبه في صدره الرقيق.. كانت أحزانه غير عميقة وغير محددة الدوافع.. ولكنه كان حزينا حالما.. يعلم بموته المبكر.. ويتخيل حياته القصيرة ومرضه الميؤوس من شفائه.. ويصارع محاولا أن يستمتع بما تبقى له من سنوات في الحياة.. أحب المغنية الشابة “كونستنتينا جلاد كوفسكا” ولكن علاقتهما انتهت بعد فترة قصيرة. ولكن العاطفة القومية.. كانت هي التي تمكنت من نفسه وارتبطت بها وحولت رقته وعذوبته إلى صيحات وطنية إيجابية.
كان البولنديون يئنون تحت نير الاستعمار الروسي الذي استبد بهم تحت اسم “معاهدة فينا” التي كانت قد وقعت بعد حروب نابليون .. وكانوا قد وحدوا كلمتهم ودعوا للجهاد حتى يحققوا الحرية لبلادهم. فأصبحت بولندا في هذه المرحلة بركانا يغلي وليست بالمكان الملائم لفنان يعمل في هدوء.. وتجمع الأصدقاء حول شوبان يطلبون منه الرحيل إلى أي بلد أوروبي آخر، حتى يتمكن من الثورة والحرب بوسيلته الموسيقية، حاملا اسم بولندا وقضيتها إلى أقاصي أنحاء العالم، بينما هم يحملون عنه السلاح لتحرير البلاد.. كانت هذه الفترة تسودها الروح القومية المتطرفة الهستيرية، وأصبح الناس لا يفكرون في التأمل والإبداع الفني أو الإنساني، فقد تبلور وتركز الشعور الثوري في حركة إيجابية شاملة..
حاول شوبان أن يبقى ببلاده ويحمل السلاح.. ولكنه أيقن أنه بظروفه الصحية لا يستطيع أن يحقق لبلاده مجدا عسكريا، فاقتنع بما طلبه أصدقاؤه.. وقد تجمعوا حوله يودعونه قبل سفره وأهدوه لفافة بها تراب بولندا، يذكر به وطنه وسعادته وأحلامه.. وطلبوا منه أن يجعل بولندا تحيا في أعماله وتتمجد ثورتها وقضيتها في موسيقاه.. “لا تنس أبدا القضية القومية.. والقومية فقط.. حقا، فإنه يوجد لحن قومي كما يوجد مناخ وطني.. لا تنس أن جبالنا وغاباتنا ومياهنا وودياننا .. كلها تتحدث وتغني بالبولندية القومية”..
كانت الألحان الشعبية البولندية مصدر إلهام قومي لشوبان. بعد أن اختبر صداها في نفسه، وكان يعرف جيدا ألحان الحقول والغابات، ويردد أغاني الفلاحين البسطاء.. ويعلم كيفية معالجتها بأسلوب علمي راق متطور وفي مؤلفات عذبة تتغنى بالقومية البولندية.. وتحث وجدان العالم على التشكل وفقا لقضيتها..
سافر إلى فينا واستمع هناك إلى أصوات العاصفة مدوية في بلاده .. فقد سحق الروس ثوار بولندا واحتلوا العاصمة وحولوا ضواحيها إلى رماد.. وجد شوبان نفسه وحيدا أعزل من كل سلاح إلا من موسيقاه. .. وعاش القلق والحسرة والغربة والمرارة بعيدا عن الوطن والأهل والأصدقاء، فرحل إلى باريس مدينة الحياة والفن والنور.. التي كانت تدور حولها الأساطير ويجتمع فيها المفكرون والفنانون والشعراء..
وبالفعل التقى هناك بالفنانين الرومنتيكيين: “الفريد دي موسيه” - “هكتور برليوز” - “فكتور هوجو” - “بودلير” - “بلزاك”، وكان هؤلاء الفرنسيون على اتصال دائم بالفنانين القادمين من ألمانيا أمثال: “هايني” - و “فرانزليست” - “هيلر” - و”مندلسون”. أمام هؤلاء العظماء جلس الفتى البولندي الحزين إلى البيانو - يعزف في اعجاز.. وأمام هؤلاء العمالقة كان يطلب المزيد من الدراسة والعلم .. وتلقفه أستاذ مغرور يدعى “كالبرينر” إدعى أنه سيجعل منه معجزة موسيقية في بحر ثلاث سنوات.. وانخدع شوبان .. إلا أن “فرانزليست” - أعظم عازفي البيانو في التاريخ - أنقذه واحتضن موهبته وقدمه للجماهير وللنقاد وللعالم كعازف ومؤلف ناضج تماما.. لا يجاريه ند آخر.. وهنا تبرز إحدى المواقف العديدة النبيلة في حياة “فرانزليست”.. فعندما استمع إلى شوبان وجد فيه منافسا أوحد.. ولكنه نحّى جانبا كل المشاعر الشخصية في مقابل اكتشاف نجم تاريخي معجز.. وأصبحت علاقتهما صداقة متينة لم تنقطع.. رغم أن شخصية “ليست” كانت تختلف في أنه ديموقراطي يحب الجماهير، بينما كان شوبان أرستقراطيا يخشى الناس ويتجنب الزحام..
بدأ المال يتدفق على شوبان، بعد أن ذاع صيته وتعددت حفلاته وأصبح نجم المجتمع الباريسي.. وانتقل إلى مسكن فاخر، وتعرف بعدد من النساء كن يشفقن عليه لمرضه ويمنحنه كل حب وأمومة ورعاية.. وكان في عزلته لا يفارق عطر البنفسج، حتى أنه كان يحس بالوحدة بدونه..!
في هذه المرحلة من حياته، وقبل أن يبلغ الثلاثين من العمر كانت له عاطفة الأمومة تجاه الأطفال، فقد وجد فيهم البراءة والصفاء والعزاء .. وكان يكتب الموسيقى للبيانو فحسب.. مكتشفا إمكانياته وأسراره الغنائية والعلمية الهائلة.. ورغم نصائح أصدقائه بأن يكتب في القوالب السيمفونية والأوبرالية.. فإنه وجد نفسه في القوالب البسيطة .. التي تمجد بلاده وتنتمي إلى تربتها وبيئتها.. كتب في القوالب التي تعبر عن قضايا بلاده.. والتي تحمل اسم بولندا مثل “البولونيز” و “المازوركا”.. وأحس بالحاجة إلى دفء الحب ليشعل في قلبه نيران العواطف الرقيقة الباكية..
في باريس، كانت تعيش الأديبة “أورور ديديفان” التي كان يعرفها العالم باسم “جورج صاند” التي كانت تكتب روائع الأدب والحكمة وتشتهر بعلاقاتها بالفن وبالرجال.. وكانت لها شخصية رجل .. تشرب الخمر بكثرة، وتدخن السيجار الأسود، وتحب مثل الأمراء.. وكانت أما لطفلين .. في الرابعة والثلاثين وكان وقوع شوبان في حبها نذير خطر في حياته المهدمة.. فقد كان هو يمثل الموت وهي تمثل الحياة والإيجابية..
عاشت جورج صاند مع طفليها إلى جوار شوبان.. وساءت صحته.. وتعذب من قسوة الأطباء حتى كتب لصديق له يقول: “إنهم يعاملونني كالحيوان.. فيقول أحدهم إنني سأموت ويقول الثاني إنني على وشك الموت، أما الثالث فيقول إنني ميت فعلا”. وكانت جورج صاند قد أخذته لقضاء شهر عسل بالجزيرة الساحرة “مايوركا” بالبحر الأبيض المتوسط.. بعد أن وعدت بالتضحية بحياتها لتمريضه وفي سبيل استعادته لصحته..
كان شوبان شاعر البيانو.. يفضل الجمل الموسيقية البسيطة الهامسة المشحونة بالشاعرية والانفعال .. فقد كان هدفه هو أن يمنح الروح لآلة البيانو ويجعل منها آلة قادرة على الغناء بروح وعاطفة، بعد أن كان الاهتمام بشاعرية الصوت وغنائيته مركزا في الآلات الأخرى. كان يهدف إلى جعل البيانو أوركسترا كاملا مستقلا، له طابع وإمكانيات خاصة متكاملة لا يستطيع حتى الأوركسترا الكامل أن يجاريه فيها.. وكتبت جورج صاند “إنه لمن الممتع حقا أن يرى الإنسان يدي شوبان الصغيرتين وهما تمتدان لتسيطرا على مفاتيح البيانو.. ولكل إصبع من أصابعه الرقيقة صوت مميز..” “يجلس إلى البيانو ويحوله إلى حياة.. حياة حزينة كنفسه ومثل بلاده”.. كانت حياته تذوب في موسيقاه .. وكل من موسيقاه وحياته تتحدان مع بلاده بولندا وشعبه بأمانيه وآماله الحزينة.. طالما نزف دما وهو يعزف أمام الجماهير ليجمع المال لبلاده.. في ميدان المعركة التي كان يستطيع أن يخوضها بينما يحمل رفاقه السلاح في قلب بولندا..
وبعد أن عادا إلى باريس بدأت جورج صاند تتبرم بالحياة معه.. فقد بدأ أطفالها يكبرون وبدأت هي تذبل وتبحث عن الحياة.. وكانت قد كتبت قصتها وأفشت أسرار نفسها في رواية انتهت من كتابتها تناولت فيها حياتها مع شوبان.. وتضحياتها من أجله.. وبقسوة متناهية أعطت مسودات الكتاب لشوبان لقراءتها وتصحيحها .. ولكنه فهم أنها ستهجره.
عاش سنتين فقط بعد رحيلها عنه.. في وحدة ومرض وعذاب.. تحرك جسده كالظل في قاعات الكونسير بباريس.. ولم يكن يحيا منه سوى عقله وأصابعه، يرددان أغاني بولندا الحزينة.. ويعكسان معاركها في ميدان الفن والدماء والألم.. عقله كان المؤلف .. وأصابعه العازف.. وهما معا حياته.. التي خلقت مدرسة في الكتابة والأداء الشاعري للبيانو.. مدرسة أكملها “فرانزليست” من بعده.. وانتقلت إلى الأجيال التالية عبر “ليست” إلى “رحمانينوف”.. وحملت معها ملامح الموسيقى القومية البولندية لتصبح ملامح عالمية بإيقاعاتها وهارمونياتها.. ورشاقتها وعاطفيتها..
وفي الساعة الثانية من صباح 17 أكتوبر سنة 1849.. لفظ أنفاسه الأخيرة شهيدا في معارك تحرير بلاده.. وكان بجواره عدد من أصدقائه الثوار البولنديين وأخته “لويز” .. وشيع جثمانه من كنيسة مادلين بباريس حيث عزف جناز موتسارت الشهير ونثر على قبره تراب من أرض بولندا، أما قلبه فقد دفن بمدينة وارسو عاصمة بلاده، حسب وصيته.