الإجازة العلمية سبق إسلامي
تُمنح الشهادات العلميَّة اليوم للطلاب والدراسين كإذنٍ لهم من مراكز البحوث والجامعات بممارسة العلم الذي يتخصَّصون فيه بعد التأكُّد من إتقانهم لهذا العلم أو معرفة أدواته البحثيَّة، وبالطبع لا تُعطى هذه الشهادات إلَّا بعد المرور من عدَّة اختبارات ينجح من خلالها طالب العلم في مجاله الذي يُريد التخصُّص فيه.
بالطبع لقد عَرِف المسلمون في الأندلس هذا النظام أيضًا، بل كان نظامًا عامًّا في حضارات المسلمين، أمَّا اللقب الذي كان يُقابل هذه الشهادات فهو «إجازة العلم»، وهي سبقٌ إسلاميٌّ فريد لم تسبقها إليه أمة من الأمم ولا حضارة من الحضارات، وقد كان يقصد فيها أن يُجيز الشيخ المعلم أو الأستاذ المدرس (أي يمنح موافقته) بمسموعية ومرويات طالب العلم الذي تتلمذ عنده.
بمعني أنَّ الطالب يُصبح بعد «الإجازة» قادرًا على الإنابة في العلم الذي يدرس فيه عن معلِّمه، وقد اشتُهر عن مفهوم الإجازة أن يتخصَّص في علم الحديث لكنَّ هذا الأمر غير صحيح؛ فالإجازة كانت تُعطى لكافَّة العلوم في نقل النصوص؛ من تاريخ، أو تصوف، أو قانون، أو طب، أو صيدلة، أو أدب، وما إلى ذلك.
في الحضارة الإسلامية العلم للجميع
منحت الجامعات الإسلامية إجازات كثيرة ليس لطلاب العلم المسلمين فقط؛ ففي الأندلس على سبيل المثال درس عددٌ من الباباوات -أساقفة الكنائس الكاثوليكية- في جامعات المسلمين، ومُنِحوا الإجازات العلمية منها، كما درس العديد من العلماء النصارى الأوروبِّيِّين في كنف المسلمين ومعاهدهم وحازوا من هناك على إجازات علمية.
وإلى جانب جامع قرطبة الذي خرَّج ألوف الدارسين من حاملي الإجازات العلمية، فقد كان هناك العديد من الجامعات المانحة للإجازات العلمية منتشرة في كلِّ أطراف الدول الإسلامية في بخارى وسمرقند ودمشق وبغداد.
ومن أشهر الجامعات التي كانت تمنح الإجازات العلمية في تاريخ المسلمين "جامع الزيتونة" في تونس، وقد كان أوَّل جامعةٍ بمعناها الحديث في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى "جامعة القرويين" في فاس والتي أسَّستها فاطمة الفهرية، وهي تُعدُّ أقدم جامعة في تاريخ العالم أجمع.
يقول حسين يوسف دويدار في كتابه "المجتمع الأندلسي في العصر الأموي": إنَّ الإجازات العلميَّة كانت معروفة في الشرق وانتقلت إلى الأندلس بانتقال العلماء المشارقة، وأصبح منح الأستاذ الإجازة لطلابه أمرًا شائعًا بعد تتلمذهم على يديه.
وقد كانت الإجازة العلمية في الأندلس تُسجَّل في وثيقة من الرق أو الكاغد "الورق"، أو في الكتب التي درسها الطالب بخطِّ الأستاذ نفسه (1).
ومن أمثلة هذه الإجازات ما ذكره ابن الفرضي من أنَّ يوسف بن محمد بن سليمان الهمذاني الشذوني الذي رحل إلى المشرق عشر سنوات وسمع من الكثيرين أجاز له جميع ما رواه، وتُوفِّي سنة 383هـ (2).
ولم تكن هذه الإجازات مقصورة على الرجال فقط بل نالتها بعض النساء أيضًا؛ فقد ذكر الضبي أنَّ أبا عمرو الداني المقرئ المعروف بابن الصيرفي (ت 444هـ)، كان يقرأ بـ "ألمرية" وقرأت عليه امرأةً تُدعى (ريحانة)، وكانت تقعد خلف سترٍ فتقرأ، ويُشِر إليها بقضيبٍ من حديدٍ في يده إلى الوقف، وأنَّها أكملت السبع عليه وقرأت عليه خلاف السبع روايات وطالبته بالإجازة فكتب لها إجازتها بعد توقُّف (3).
لكل قاعدة استثناء
وبالمقابل فقد كان هناك من يقوم بتحريف وتزييف هذه الإجازات طمعًا في المكانة والمناصب، وللحصول على المكاسب المادِّيَّة، مثل ما يحدث اليوم من شراء للشهادات العلميَّة.
ولذلك فقد وضع أبو العباس العمري وليد بن بكر بن مخلد (392هـ) كتابًا سمَّاه (كتاب الوجازة)، وهو في هذا الكتاب يحتجُّ على بعض الإجازات العلمية، ويرى أنَّها غير موثوقٍ بها، وأنَّ الزيف قد شابها، وقد كان أبو العباس من أهل سرقسطة، ورحل إلى المشرق، ولقي في بلادٍ عديدة الكثير من العلماء (4).
______
هذا المقال منقول بتصرف من كتاب المجتمع الإسلامي لحسين يوسف دويدار الصادر عن دار الحسين الإسلامية، الطبعة الأولى، ص 403-404.
(1) خوليان ربيرا: التربية الإسلامية في الأندلس، ص148.
(2) تاريخ علماء الأندلس، ترجمة، ص 206-207.
(3) أبو جعفر الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، ترجمة، 1186.
(4) المصدر السابق، 1411. وقد ذكره خوليان ربيرا في كتابه التربية الإسلامية في الأندلس باسم (الوجازة في صحة القول بالإجازة) ولم يُشر إلى المصدر الذي أتى منه بذلك.