حققت الفلسفة دخولها الرسمي في مناهج الولايات المتحدة بصورة نموذجية على مستوى الكلية. ويطرح عدد متزايد من المدارس الثانوية مقدمة للفلسفة، في الغالب في مواد معينة من الأدب للطلاب الذين سيلتحقون بالكلية. وفي أوروبا، وكثير من الدول الأخرى، من الشائع جدًا وبصورة أكبر أن تجد الفلسفة في مناهج المرحلة الثانوية. ومع ذلك فإن الفلسفة قبل مرحلة الثانوية تبدو غير شائعة نسبياً في العالم. وقد يشير هذا إلى أن التفكير الفلسفي الجاد لا يصلح لمرحلة ما قبل المراهقة. وهناك سببان يمكن تقديمهما لقبول هذا الرأي. أولهما: أن التفكير الفلسفي يتطلب مستوى من النمو المعرفي الذي – كما قد يعتقد المرء – يتجاوز فهم مرحلة ما قبل المراهقة. وثانياً: أن منهج المدرسة مكدس بالفعل بالمواد، وطرح موضوع مثل الفلسفة لن يشتت فحسب ذهن الطلاب عما يحتاجون تعلمه، وإنما قد يشجعهم أيضاً على أن يصبحوا متشككين بدلاً من أن يكونوا متعلمين. ومع ذلك فإن كلا هذين السببين يمكن الاعتراض عليهما، وسيتم التطرق إليهما تباعاً.
هل الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي؟
علم النفس
الفلسفة في المناهج المتكدسة
معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال (IAPC)
التفلسف مع الآخرين؟
الـ فلسفة للأطفال اليوم؟
قائمة المراجع
كتب ومقالات
مجلات دورية
أدوات أكاديمية
مصادر إنترنت أخرى
مدخلات ذات علاقة.
1- هل الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي؟
تشير النظرية الشهيرة لـ (جان بياجيه، 1933م) حول التطور المعرفي إلى أن معظم الأطفال قبل عمر 11 أو 12 سنة غير قادرين على التفكير الفلسفي. وفي اعتقاده أن هذا يعود إلى أن الأطفال – قبل هذا العمر – لا يستطيعون “التفكير حول التفكير” – وهو نوع أعلى من مستوى التفكير الذي يتصف به التفكير الفلسفي. ويشمل هذا المستوى “التشغيلي الرسمي” للتطور المعرفي التفكير التناظري حول العلاقات مثل: “الدرّاجة بالنسبة إلى مقودها كالسفينة إلى دفتها”، حيث “آلية التوجيه” هي العلاقة المشابهة. (غوسوامي، ص21). ومع ذلك هناك مجموعة قوية من البحوث النفسية تشير إلى أن وصف بياجيه يقلل بشكل كبير من القدرات الإدراكية لدى الأطفال (أستينغتون، 1993م – غوبنيك وآخرون، 1999م – غوبنيك، 2009م).
أما الفيلسوف (غاريث ماثيوز) فقد قطع شوطاً بعيداً في ذلك وناقش بإسهاب أن (بياجيه) عجز عن أن يرى التفكير الفلسفي الظاهر لدى كل طفل قام بدراسته. ويقدم (ماثيوز) عدداً من الأمثلة الرائعة عن الحيرة الفلسفية لدى أطفال صغار جداً. فمثلاً:
(تيم) البالغ من العمر ست سنوات: بينما كان منهمكاً في لعق الإناء سأل: “أبي، كيف يمكن أن نتأكد من أن كل شيء ليس حلماً؟” (ص1).
(جوردان) البالغ من العمر خمس سنوات: عند ذهابه للنوم في الساعة الثامنة مساءً سأل: “إذا ذهبت إلى الفراش للنوم في الساعة الثامنة وصحوتُ في الساعة السابعة صباحاً، كيف أتأكد حقاً من أن العقرب الصغير للساعة قد دار مرة واحدة فقط؟ هل يتعين عليّ السهر طوال الليل لمراقبته؟ وإذا نظرت بعيداً حتى ولو لبرهة فلربما يدور العقرب الصغير مرتين” (ص3).
في أحد الأيام قام (جون إدغار) (أربع سنوات) بأول رحلة له بالطائرة، وكان قد اعتاد رؤية الطائرات وهي تقلع وتصعد في السماء ثم تختفي تدريجياً في الفضاء. وعندما توقفت الطائرة عن الصعود وظهرت إشارة السماح بفك حزام المقعد، التفت جون إلى والده وقال بنبرة صوت يعلوها الارتياح الشديد، وإن كانت مشوبة بالحيرة: “إن الأشياء لا تصبح في الحقيقة أصغر في الأعلى هنا” (ص4).
لقد حصل ماثيوز على كثير من حكاياته من أصدقاء كانوا يعرفون اهتمامه بالتفكير الفلسفي لدى الأطفال. وليس من النادر أن يواجه الكبار ذوي الاهتمام بذلك مثل هذه النماذج في حياتهم.
ولكن قد يُعترض بأن هناك حاجة لأكثر من مثل هذه الحكايات لإظهار بأن الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي الجاد. وكل ما يلزم هو دليل على أن الأطفال يستطيعون المناقشة الفلسفية “المستمرة”. ويقدم ماثيوز (1984م) أمثلة توضيحية على هذا الأمر أيضاً. وعندما كان يجتمع مع مجموعة من الأطفال أعمارهم من 8 – 11 سنة كان يستخدم المثال التالي لعمل قصة للمناقشة:
«وجد (إيان) (6 سنوات) – مما زاده تكدراً وغمّاً – أن ثلاثة من أطفال أصدقاء والديه قد احتكروا مشاهدة التلفزيون، وأبعدوه عن مشاهدة برنامجه التلفزيوني المفضل. وكان يسأل أمه وقد غلبه شعور بالإحباط: “أمي. لماذا وجود ثلاثة أطفال أنانيين أفضل من وجود طفل أناني واحد؟”» (ماثيوز، 1984م، 92-93).
وأثارت هذه القصة نقاشاً حيوياً حيث علق الأطفال على لا مبالاة هؤلاء الأطفال الزوار، وأظهروا الرغبة في التوصل إلى حل يمكن أن يُرضي جميع الأطفال الأربعة، وبينوا أهمية احترام حقوق الآخرين، وكيف يمكن أن يشعر المرء لو كان في مكان (إيان). ثم طرح ماثيوز أسلوباً قد يكون نافعاً: “ماذا عن هذه الحجة: إنه لو تركنا هؤلاء الأطفال الثلاثة يحصلون على ما يريدون فإننا سنجعل ثلاثة أطفال سعداء بدلاً من طفل واحد فقط؟”. وكانت إحدى الإجابات أنه ليس من العدل أن يحصل ثلاثة أشخاص على ما يريدون على حساب الرابع. وأشعل هذا نقاشاً حول العدل تطرق إلى اهتمامات أكثر تحديداً حول العمر النسبي للأطفال، وما إذا كانوا أصدقاء أو إخوة أو غرباء، وما نوع البرامج التلفزيونية المتعلقة بالموضوع.
ولا شك أن جزءاً من تفسير قدرة الأطفال واستعدادهم للاستمرار في نقاش مطول حول ظروف إيان يكمن في أنهم قد واجهوا تحديات مشابهة. ومع ذلك أظهر الأطفال فهماً تصورياً متطوراً جداً لقضايا قائمة، وهو ما يمكن للمرء أن يتوقعه من الأطفال متى ما دُعوا إلى التأمل في تجاربهم الخاصة.
إن قصصاً حول هؤلاء وأعمارهم يمكن أن تقدم فرصاً للأطفال لكي يناقشوا أراءً شديدة الأهمية بالنسبة إليهم. فكّر في هذا المثال المأخوذ من رواية ماثيو ليبمان (ليزا، 1983م)، حيث هناك هاري وصديقه تيمي اللذان يذهبان إلى نادي الطوابع للمتاجرة في الطوابع. وبعد ذلك توقفا لتناول بعض المثلجات (آيسكريم) ولكن تيمي اكتشف أنه لا يوجد معه نقود. فعرض هاري شراء المثلجات له وقال تيمي إنه سيشتري له (لهاري) في المرة القادمة. وبينما كانا يغادران المحل قام أحد زملاء تيمي في الفصل بعرقلة تيمي فقام تيمي بإسقاط كتب الزميل من المائدة على الأرض. وبعد أن هرب تيمي وهاري من مكان الحدث تحدثا عما حدث لهما:
«”لم يكن من الممكن أن أجعلهم يفلتون من ذلك”، علّق تيمي عندما وجدا أن لا أحد يلاحقهما وأن باستطاعتهما أن يبطآن جريهما حتى يمشيان بدلاً من الركض: “لم يكن عليه أن يخرج قدمه”. ثم أضاف: “بالطبع لم يكن عليّ أيضاً أن أفعل ما فعلت. ولكن وكما قلت من قبل فإن إسقاط كتبه كان عملاً عادلاً”.
وكان (هاري) يرى أن “الأمر ليس تماماً الشيء نفسه إلى حد ما”، إلا أنه لم يستطع فهم لماذا. وقال أخيراً لـ (تيمي): “إن الهدف من ناديك للطوابع هو تبادل الطوابع. ولذا فإنك عندما تعطي شخصاً طوابع يُفترض أنك ستعيد شيئاً، تماماً كما لو أن شخصاً أقرضني مالاً فيُفترض مني أن أعيده. ولكن لو أن شخصاً خدعك خدعة قذرة فهل ستفعل الشيء نفسه معه؟ لستُ واثقاً جداً من ذلك”.
فاحتج تيمي قائلاً: ولكن لا بد أن انتقم لنفسي. لا يمكن أن أجعله يفلت بذلك. يجعلني أتعثر هكذا من دون أي سبب”.
وبعد ذلك بفترة وجيزة التقيا بـ (ليزا) و (لورا). وأخبر هاري الفتاتين ماذا حدث ولماذا هو مرتبك. وعلّقت ليزا قائلة: “هذا يذكّرني بما حدث في العام الماضي عندما كنا نتعلم كيف أن بعض الجمل يمكن قلبها وتبقى صحيحة، بينما هناك جمل أخرى عندما تقلبها تُصبح خطأ”.
“نعم”، قالها هاري موافقاً لها. “ولكن هنا وجدنا قاعدة. ولكن ما هي القاعدة هناك؟”. رفعت ليزا شعرها الطويل بحيث أصبح متدلياً فوق كتفها الأيمن، وقالت: “يبدو أن هنالك أوقاتاً عندما يكون من الصواب إعادة ما أخذناه وأوقاتاً أخرى عندما يكون ذلك خطأ. ولكن كيف لنا أن نعرف ذلك؟” (ليزا، ص23-24)».
إن هذه الصفحة هي دعوة لاستكشاف الفروق الأخلاقية الدقيقة “للمعاملة بالمثل”، ماذا يمكن لمجموعة مكونة من أطفال أعمارهم من 10-11 سنة أن يقولوا حيال ذلك؟ هذه عينة من نقاش استمر 30 دقيقة حول كلام ليزا دار بين مجموعة في الصف الخامس. (بريتشارد، 1996م). وعلى الرغم من أن المجموعة كانت تناقش أفكاراً فلسفية مرة في الأسبوع بعد انتهاء المدرسة على مدى الشهور العديدة الماضية، إلا أنهم لم يُناقشوا هذه الفقرة. وبشيء من التحفيز من المعلم أثار الطلاب الأسئلة التالية وتابعوها بحماس:
ما المحتمل حدوثه عندما ننتقم؟ هل هذا سيبدأ فقط سلسلة طويلة من محاولة “الانتقام للنفس” التي لا يريدها أي أحد (فيما عدا ربما البادئ بذلك)؟
هل الانتقام يحقق فعلاً “الثأر للنفس”؟ هل يمكننا حتى أن نفهم ماذا يعني (الانتقام للنفس)؟
هل من الصواب في الحقيقة الرد على الخطأ بالمثل؟ هل هذه محاولة لعمل صواب بعمل خطأين؟
ما هي البدائل التي قد توجد لمحاولة (الثأر للنفس)؟ وماذا سيحدث إذا اكتفيت بتجاهل شخص يحاول أن يبرز على حسابك؟
متى يكون الدفاع عن النفس أفضل استراتيجية؟
هل هناك فرق بين محاولة (الثأر للنفس) ومحاولة (تلقين شخص درساً)؟
كيف يكون الرد بالمثل مختلفاً عن: (أ) تبادل السلع، (ب) سداد دين، (ج) رد الجميل، (د) عمل صنيع لأحد، (هـ) عدم عمل صنيع لأحد إلا إذا عمل صنيعاً لك؟
هل يمكن أن تساعدنا هنا “القاعدة الذهبية”؟ ماذا تعني “القاعدة الذهبية”؟ هل هي قاعدة “جيدة”؟
إن المناقشات المدروسة والثاقبة مثل هذه ليست بأمر غير عادي بالنسبة إلى الأطفال الذين أُعطوا الفرصة لكي يُناقشوا. وقد أثير هذا النقاش بسبب رواية للأطفال. ولكن يمكن استخدام مواد الفصل المعتادة للطلاب أو الأعمال الفنية وتجارب التفكير أو حتى الأخبار اليومية لإثارة مناقشات فلسفية ذات اهتمامات أخلاقية.
وحتى لو أقر المرء أن الأطفال قادرون تماماً على الانخراط في مناقشات مطولة لمفاهيم “أخلاقية” مرتبطة بتجاربهم الخاصة بهم، فماذا عن الأفكار الفلسفية الأقل ارتباطاً بشكل مباشر بشؤونهم العملية؟ فيما يلي هنا توضيح يبدأ بمنطق وينتهي بفلسفة خارقة للطبيعة. والجملة الصحيحة التي تقول (جميع أشجار البلوط هي أشجار) تُصبح جملة غير صحيحة إذا عكسناها. وكذلك عبارة (الجزر كله هو خضار). هل يمكن أن نقول إن (كل) جملة صحيحة تبدأ بلفظ (كل/جميع) تصبح غير صحيحة عند عكسها؟
ومنذ بداية الصف الثالث على الأقل، يجد الأطفال وبسهولة استثناءات. وقد يسأل كثير من الناس: وماذا عن (جميع النمور نمور)؟ وهناك آخرون قد يردون أن هذه جملة (مملّة) ويقدمون كبدائل عبارات مثل (جميع الأرانب البرية أرانب) أو (جميع الأمهات لديهن أطفال). وبشيء من التشجيع الضئيل النسبي يمكنهم أن يأتوا بتعريفات جيدة لأشكال هندسية ويفرقون بينها من خلال تعريفات مقترحة لا يمكن عكسها. فعلى سبيل المثال: عبارة “(جميع المربعات هي مستطيلات) هي صحيحة ولكنها عندما تُعكس لا تصبح كذلك”. أما عبارة (جميع المربعات هي مستطيلات بجوانب متساوية) فإنه يمكن عكسها.
وعلى الرغم من أن دراسة المنطق تعتبر بصورة تقليدية جزءاً من الفلسفة، فإن المتشككين قد لا يجدون تأملات الأطفال حول قواعد المنطق مثيرة للاهتمام كثيراً من الناحية الفلسفية. (بالطبع بعضهم قد يقول هذا أيضاً عن المنطق الأولي في فصول الكلية). وقد يعترضون بأنه ليس بذلك المختلف عن الرياضيات الأساسية والنحو. وسواء كان هذا تقييماً عادلاً أم لا فإنه بالنسبة إلى كثير من الأطفال ليس إلا خطوة صغيرة تبعد عن المنطق تجاه ما وراء الطبيعة (المتافيزيقيا). وهنا مثال من فصل بالصف الرابع حيث قد تم السؤال عما إذا كانت الجمل الصحيحة التي تبدأ بـ (كل/جميع) تصبح دائماً غير صحيحة عند عكسها؟ (بريتشارد، 1996م). وبعد اقتراح العبارات المعتادة (جميع النمور “هي” نمور) (جميع الأرانب البرية أرانب)، سأل أحد الطلاب: ماذا عن (جميع الأجوبة لها أسئلة) وعن (جميع الأسئلة لها أجوبة)؟ ولحسن الحظ توقف المعلم لبرهة لبحث هذا الأمر مع الفصل. فسأل: (هل جميع الأجوبة لها أسئلة؟). فأجاب الطلبة: (بالتأكيد وإلا فلن يكون بإمكاننا أن نقول لدينا (إجابة).
واستمر المعلم في السؤال: وماذا عن الجملة الأخرى؟ هل تعتقدون أن جميع الأسئلة لها أجوبة؟، وما تلا بعد ذلك كان عبارة عن فيضان من الردود:
الطالب # 1- “هل توجد حياة في مركز الشمس”؟
الطالب # 2- حتى لو كان ليس بمقدورنا الذهاب إلى هناك لمعرفة الإجابة، فالسؤال ما زال له إجابة.
الطالب # 3- كم عدد ذرات الرمل الموجودة على سطح الأرض؟
الطالب # 4- هناك رقم محدد حتى بالرغم من أننا لا نعرف ما هو.
الطالب # 3- ستبددها الريح جميعاً وتنثرها حول المكان وسوف نحصيها أكثر من مرة.
الطالب # 5- هناك الكثير مما لا يمكن إحصاؤه.
الطالب # 6- كم عدد ذرات الرمل الموجودة في جميع الكواكب؟
الطالب # 7- كم عدد الأشجار الموجودة في كوكب الأرض؟
الطالب # 4- هذا أسهل من ذرات الرمل، فيمكننا أن نعدّهم.
الطالب # 7- في الوقت الذي تقوم فيه بعدّهم يكون بعضها قد سقط على الأرض وبعضها الآخر قد بدأ في النمو.
الطالب # 8- هل جعل الإله الزمن يبدأ؟
الطالب # 9- أنت تقصد “إذا” كان هناك إله فهل جعل الزمن يبدأ؟
الطالب # 7- هل للفضاء حدود؟
الطالب # 5- ماذا يمكن أن يحدث إذا ذهبت إلى نهاية الفضاء وحاولت أن تمد يدك إلى الخارج؟ وإذا لم تستطع فما الذي يمنعها من ذلك في الخارج؟
الطالب # 6- ربما أن الذي منع يدك موجود في الداخل. قد لا يوجد أي “خارج”.
وخلال مناقشة هذه الأسئلة بدا أن الطلاب كانوا يجتهدون في الانتقال في الإجابة من الأسئلة الصعبة – إن لم تكن مستحيلة – بسبب قيودنا “العملية”. (أي: عدم التأكد من أن ذرة رمل معينة لم يتم عدها) إلى الأسئلة التي (من حيث المبدأ) يتعذر الإجابة عليها. وأخيراً سأل أحد الطلبة وقد علقت إحدى الذرات في وجهه: “هل سينتهي الزمن؟” وأوضح أن “المشكلة” هي إذا لم ينته الزمن لا يمكن لأحد بعد ذلك أن يؤكد أنه كان كذلك.
وهنا مثال توضيحي آخر حول مدى سرعة تحول النقاش حول المنطق إلى نقاش لقضايا فلسفية عميقة (بيتشارد، 1985م). فهذه مجموعة من طلاب الصف الخامس يفكرون في عبارة (كل الناس حيوانات). وعرض أحد الطلبة هذا الأمر كمثال آخر لجملة صحيحة أصبحت غير صحيحة عند عكسها. واعترض (جيف) على كون جملة (كل الناس حيوانات) غير صحيحة. ومضى (تشيب) في وضع تصنيف أحال الناس، إلى جانب الفيلة والنمور، ووضعهم تحت عنوان (الثدييات) والثدييات تحت مسمى (حيوانات) والحيوانات تحت مسمى (كائنات حية). وواصل (جيف) اعتراضه:
تشيب: “ماذا يعني (ناس) يا جيف؟ أخبرني فقط ماذا يعني (ناس)؟ لا يمكنك الإجابة عن هذا السؤال أليس كذلك؟”.
جيف: بل أستطيع.
تشيب: من تكون أنت؟
جيف: شخص.
تشيب: ماذا يعني (شخص)؟
جيف: أحد حي.
تشيب: أحد حي يمكن أن يكون حوتاً.
جيف: أنا قلت: “أحد”، ولم أقل “حيواناً”.
تشيب: يمكنك أن تراجع كل كتاب هناك في المكتبة… كل كتاب عنا…
لاري: أريد أن أعرف لماذا أخذ كل واحد يستشيط غضباً من موضوع صغير.
ريتش: نحن “نفكر”! ولهذا نحن هنا.
إيمي: هل لدى أحد منكم موسوعة هنا بحيث يمكننا أن نبحث إما عن حيوانات أو ثدييات أو أشخاص؟
جيف: نحن جميعاً بشر. ولذلك إذا رآنا ذلك الشخص من المريخ فإنه سيقول: “انظروا، هناك بعض الكائنات البشرية”. ولن يقول (انظروا، توجد بعض الحيوانات هناك).
مايك: إن أهل المريخ – إذا كان يوجد منهم أحد – سيقولون: (انظروا إلى تلك المخلوقات غريبة المظهر)، أو شيئاً كهذا. هم لا يعرفون “ما” نحن”. ولا يعرفون أي شيء عنا. [ثم واصل مايك كلامه وعاد الآن إلى التمييز الذي قدمه جيف في البداية]: إذا كان شخصاً فإنك تقول (أحد). وإذا كان حيواناً فستقول: (شيء). أحد يعني (إنسان).
تشيب: توجد حياة. أليس كذلك؟ وبعد ذلك تنطلق متفرعاً من هناك. لديك حيوانات ونباتات وأي مادة أخرى – كما تعلم جزيئات وما شابه. والآن تذهب إلى الحيوانات وتتفرع من هناك: ثدييات، برمائية زواحف وغير ذلك. ثم تتفرع ويكون لديك كل هؤلاء البشر من نوع خاص. هل هذا صحيح حتى الآن يا جيف؟
جيف: استمر في الكلام فقط.
تشيب: حسناً، أنا لا أريد إلا معرفة ما إذا كنت موافقاً حتى الآن.
جيف: واصل حديثك فقط. إنني لن أغير رأيي. هذا كل ما في الأمر… لستُ بحيوان، أنا إنسان وأريد أن أبقى كذلك.
تشيب: أنت “نوع” من حيوان.
جيف: “لن أذهب إلى د. جيكل وأقول له: “مرحباً. حوّلني إلى حيوان…”.
إيمي: الإنسان نوع من حيوان، مثل الطير. وذلك يختلف عن الفيل مثلاً. فالطير يختلف عن الفيل. ونحن نختلف عن الطير. ومايك يقول إننا لا ندعو الكلب شخصاً أو أحداً. ولكن قد يكون هناك أحد قريب جداً في الواقع من حيوانه الأليف ويعتبره جزءاً من الأسرة.
واستمر النقاش لعدة دقائق أخرى. وعندما تفرقت المجموعة علّق أحد الطلبة أمام آخر قائلاً: “لو شئنا لكان بإمكاننا أن نناقش لساعات طويلة!” فردّ الآخر: “ولأيام طويلة”. وصارت هذه المجموعة من الأطفال تلتقي أسبوعياً بعد المدرسة في المكتبة العامة المحلية ثم عادت في الأسبوع التالي بموسوعة لحسم المسألة. وبعد عدة دقائق من النقاش سأل المعلم التلاميذ ما إذا كانوا يعتقدون أن جميع ما هو مذكور في الموسوعة صحيح:
إيميلي: بعض الأمور لسنا على ثقة منها. ويمكن للموسوعة أن تذكر كل كلمة عن كيفية تشكّل النظام الشمسي، ومن المرجح أن تقول كان هناك غبار كثيف يدور مثل دوامة. ولكننا لسنا متأكدين من ذلك ولذا فإنه قد يكون غير صحيح.
ثم سأل المعلم ما إذا كان على الموسوعة في مثل هذه الحالات أن تذكر قائلة (نحن غير متأكدين).
مايك: إنها ستقول (فرضية) – أي تخمين.
كيرت: إنها ستقول (نحن غير متأكدين بعد).
وهكذا احتفظ النقاش بحيويته الفلسفية. واستمرت هذه المجموعة المعينة في الالتقاء طوال العام الدراسي كله تناقش مجموعة واسعة من المواضيع الفلسفية ويشمل ذلك: العلاقة بين العقل والمخ، وأوجه الاختلاف (والتشابه) بين الأحلام والواقع، والمعرفة بالعقول الأخرى، والمعرفة الذاتية والعلاقات بين الأدلة والمعرفة.
2- الفلسفة في المناهج المكدسة
بالنظر إلى أن المناهج مكدسة بالفعل وإلى الضغوط المتزايدة لتقديم أدلة قابلة للقياس عن تمكن الطلاب في المواد النموذجية في التاريخ والأدب والرياضيات والعلوم، قد يتساءل المعلمون عن ملاءمة إضافة الفلسفة إلى المنهج: أين الوقت للأخذ والرد في النقاش الفلسفي؟ إن إضافة الفلسفة إلى الخليط الموجود، – كما قد يعترضون – لن يزيد الأمر إلا سوءاً. وليس الأمر مجرد مادة أخرى فحسب، وإنما أيضاً هو موضوع غير مألوف بالنسبة إلى معظم المعلمين وقد يخشون من أن إدخال الفلسفة – بتساؤلاتها المستمرة – سيتدخل في الواقع في مسألة تمكن الطلاب من المواد الموجودة فعلاً في المنهج. وعلى ضوء الطبيعة غير المستقرة لكثير من التساؤلات الفلسفية فقد يشعرون أنهم في وضع هش كمعلمين لأنهم لا يثقون في إجاباتهم الخاصة بهم عن الأسئلة المثارة.
وإضافة إلى هذه المشكلة هناك الضغوط المتزايدة على المعلمين لبيان أن طلابهم يحققون مستويات مرضية من الأداء في المواد النموذجية. وتستخدم الاختبارات القياسية بصورة شائعة كإجراء لاختبار إنجاز الطالب. وهذه الاختبارات المتميزة بأسئلة وأجوبة قطعية غير مبهمة لا تضع جائزة على التأمل الفلسفي. ونظراً لأن أداء الطلاب مرتبط على نحو نمطي بتمويل المدرسة فإن هذا الأمر لا يمكن أن يستخف به المعلمون، مهما كانوا متشككين تجاه القيمة التعليمية في إعداد طلابهم للأداء الحسن في الاختبارات القياسية.
ورداً على ذلك فإن أولئك الذين ينادون بإدخال الفلسفة في المدارس يؤكدون على طرق يمكن للفلسفة من خلالها تعزيز التجربة التعليمية للطلاب بأكملها. والهدف أكثر من مجرد إدخال مادة أخرى في المدرسة. ومن خلال دعوة الطلاب للتأمل في العلاقات التي بين مجالات الاستفسار المختلفة وفهم تجاربهم التعليمية ككل، يمكن للفلسفة أن تضيف إلى المغزى من تعليم الطلاب ككل. وبالإضافة إلى ذلك فإن الفلسفة يمكن أن تقدم إسهامات مهمة في مجال آخر ذي اهتمام يمر عبر المنهج ألا وهو التفكير الناقد.
وفي أواسط الستينيات من القرن العشرين انتابت الحيرة الفيلسوف (ماثيو ليبمان) إزاء انخفاض نوعية النقاش الذي يستخدمه – كما يفترض – مواطنون مثقفون يناقشون حرب فيتنام وأمراض المجتمع بصورة عامة. ولأنه مقتنع بأن تدريس المنطق يجب أن يبدأ بفترة طويلة قبل الكلية، حاول أن يتصور طريقة لعمل ذلك تعمل على تحفيز اهتمام أطفال أعمارهم من 10-11سنة. وبعد أن ترك جامعة كولومبيا من أجل كلية مونتكلير الحكومية بدأ جهوده بأول رواية له للأطفال (اكتشاف هاري ستوتلميير، 1974م). ولم تكن اهتمامات ليبمان حول مستوى التفكيرالناقد في المجتمع بصورة عامة والمدارس بصورة خاصة – خاصة به لوحده. فبحلول السبعينيات من القرن العشرين كانت هناك على الأقل احتجاجات قوية على تدريس لتفكير الناقد في المدارس، إن لم تكن احتجاجات واضحة. واستمرت بشكل كبير دون أن تهدأ حتى الوقت الحاضر.
فماذا يعني (التفكير الناقد)؟ إن عملية الوصف تتراوح في تعقيدها من المختصر الرائع الذي قدمه روبرت إنيس الذي ذكر أن (التفكير التأملي المعقول يركز على تقرير ماذا نعتقد أو نعمل) (إنيس، 1987م)، إلى العبارة المعقدة التي وضعتها مجموعة من 46 محكّماً جمعتهم لجنة الفلسفة قبل مرحلة الكلية التابعة للرابطة الأمريكية للفلسفة لبحث استخدام (طريقة ديلفي) للحصول على إجماع:
«نعلم أن التفكير الناقد هو ذو هدف وحكم ذاتي التنظيم نتج عنه تفسير وتحليل وتقييم واستدلال إضافة إلى شرح الاعتبارات البرهانية أو المفاهيمية أو المنهجية أو المعاييرية أو السياقية التي يرتكز عليها ذلك الحكم… والتفكير الناقد المثالي يتسم عادة بحب الاستطلاع (الفضول) وجودة الاطلاع والثقة بالعقل وانفتاح الذهن والمرونة والإنصاف في التقييم، إضافة إلى اتصافه بالأمانة في مواجهة التحيزات الشخصية والتروي في إصدار الأحكام والاستعداد لإعادة النظر والوضوح تجاه القضايا والتنظيم في المسائل المعقدة والمثابرة في السعي وراء المعلومات ذات العلاقة والتعقل في اختيار المعايير والتركيز في التحري والاستفسار والاستمرار في السعي وراء النتائج الدقيقة حسب ما يسمح به موضوع الاستفسار وظروفه (فاسيون، 1989م)».
وكان ليبمان عضواً في هذه اللجنة ومن الواضح أن رواياته والكتيبات الإرشادية للمعلم جميعها تسعى نحو تحقيق هذه الأهداف. وتصويره المختصر كثيراً للتفكير الناقد هو أنه يتضمن أحكاماً قائمة على أساس المعايير أو الأسباب. ويقول إن المعايير يمكن تقييمها من ناحية “المعايير الكبيرة” مثل المصداقية والارتباط والقوة والتماسك والثبات. (ليبمان، 1991م، ص119). ويضيف قائلاً إن التفكير الناقد يتصف بأنه “تفكير: (1) يسهّل الحكم لأنه (2) يعتمد على المعايير، (3) وأنه يقوم بالتصحيح الذاتي، (4) وأنه حساس تجاه السياق” (ليبمان، 1991م، ص116).
وإذا انتقينا فكرة أن التفكير الناقد حساس تجاه السياق، فإن بعض النقاد اعترضوا على فكرة أن التفكير الناقد يمكن تدريسه بصورة مفيدة ومستقلة عن مجالات متخصصة معينة (ماك بيك، 1985م). ومع الإقرار بأن هناك بعض السمات العامة للتفكير الناقد تمر عبر التخصصات فإنهم يزعمون أنه حتى هذه السمات لا تكتسب معانيها إلا في سياقات معينة تتباين عبر التخصصات (مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الأحياء والكيمياء). ومع ذلك فإنه ما لم تسأل التخصصات المختلفة أسئلة حول افتراضاتها الأساسية الخاصة بها وعلاقاتها ببعضها بعضاً، فإن التفكير الناقد ضمن تلك التخصصات سيغفل أسئلة مهمة تحتاج إلى اهتمام. والفلسفة تسأل بالفعل مثل هذه الأسئلة حول تخصصات أخرى وكذلك حول نفسها.
وكان ليبمان يأمل أن تحصل الفلسفة على موقع رئيسي في منهج كيه – 12، وبذلك تمكن الطلاب من تطوير مهارات التفكير الناقد لديهم من خلال إثارة الأسئلة الفلسفية. وفي الوقت نفسه، كما يزعم ليبمان، فإن الفلسفة يمكن أن تساعد الطلاب على فهم أفضل لتجاربهم التعليمية. ومن خلال السعي لتطوير وجهات نظر شاملة تحاول الفلسفة أن تفهم الروابط. والمنهج الذي يقسّم تعليم الطلاب إلى تخصصات متميزة ذات احتواء ذاتي من دون التشجيع على إثارة الأسئلة الفلسفية حول طبيعة تلك التخصصات وعلاقاتها ببعضها بعضاً سيؤدي إلى تكوّن نظرة متفككة عن التعليم. والبديل الذي اقترحه ليبمان جرى وصفه في الفصل التالي الذي يصف برنامج كيه – 12 الذي وضعه “معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال” (IAPC) والذي أسسه ليبمان.
ونظراً لعدم وجود البرنامج الطموح الذي كان يتصوره ليبمان وزملاؤه للمدارس في معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال ، فإن هناك الكثير من الطرق المتواضعة ولكنها جديرة بالاهتمام لإدخال الاستفسار الفلسفي في هيكل التخصص الموجود بالفعل في المدارس ويمكن للمعلمين أن يدعوا طلابهم للتأمل في جوانب فلسفية في مواد دراستهم. وفي نفس الوقت الذي يدرسون فيه التاريخ يمكن للطلاب أخذ بعض الوقت لتوجيه أسئلة حول إلى أي مدى يمكن للوصف التاريخي أن يكون موضوعياً – وأسئلة حول ما الذي قد تعنيه كلمة (موضوعية) ولماذا من المهم – أو غير المهم – السعي لطلبها (الموضوعية). ويمكن توجيه أسئلة مشابهة حول العلوم الطبيعية والاجتماعية، بما في ذلك أسئلة عن إلى أي مدى العلوم (خالية من القيم) أو يتعين أن تكون كذلك. وفي الواقع إذا لم يتم التشجيع على ترك مساحة لمثل هذه الأسئلة، يمكن للمرء أيضاً أن يسأل إلى أي مدى يُشجع فيه التفكير الناقد نفسه.
3- معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال (IAPC)
بدأت الحركة التعليمية المعروفة باسم (الـ فلسفة للأطفال) في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، بصور رواية ماثيو ليبمان الفلسفية للأطفال (اكتشاف هاري ستوتلميير). وفي عام 1970م كان دخول رواية (هاري ستوتلميير) إلى مدارس مونتكلير الحكومية في نيوجيرسي. وبحلول منتصف السبعينيات من القرن الـ (20) تم إنشاء المعهد رسمياً في موقعه في كلية مونتكلير الحكومية (أصبحت الآن جامعة مونتكلير الحكومية). وسرعان ما التقطت وسائل الإعلام تقارير عن حدوث تحسن كبير في القراءة ومهارات التفكير الناقد للأطفال في المرحلة المتوسطة الذين شاركوا في برامج المعهد. وبعد ذلك قدم المعهد مواداً مكونة من روايات الأطفال التي كتبها ليبمان وكتب المعلم المصاحبة لمنهج كيه – 12 بأكمله وذلك تحت قيادة زميلة المعهد (آن – مارغريت شارب). وتم تقديم البرامج التعليمية للمعهد إلى آلاف الأطفال في نيوجيرسي بالولايات المتحدة، بل وفِي شتى أنحاء العالم.
وهذه الرواية البسيطة (هاري ستوتلميير) المكونة من 96 صفحة لأطفال المرحل المتوسطة تصور (هاري) وزملاءه في الصف الخامس. وأحياناً يدخل الكبار ولكن العمل الفلسفي الرئيسي هو عمل الأطفال. ويكتشف هاري وأصدقاؤه عدة مفاهيم وقواعد أساسية من منطق أرسطو، وتنتابهم الحيرة حول أسئلة عن طبيعة الفكر والعقل والسببية والواقع والمعرفة والمعتقد، وعن الصواب والخطأ والعدالة والظلم. ولا تقدم القصة أي لفظ من الألفاظ الخاصة بالفلسفة (ولا تظهر حتى كلمة “فلسفة” نفسها). والاستفسار الفلسفي يبدأ من الأطفال في القصة وليس من الكبار.
وقد يتساءل قُرّاء رواية (هاري ستوتلميير): “ما هو اكتشاف هاري ستوتلميير؟”. ولكن هذا السؤال لم يُجب عليه مباشرة. ومع ذلك تبرز إجابة مرشحة واحدة من بين الأشياء الكثيرة التي يكتشفها هاري خلال استكشافه للأسئلة حول المنطق والمعرفة والواقع والعقل. وطلب من هاري وزملائه في الفصل كتابة بحث عن موضوع “أكثر الأشياء متعة في العالم”. وكتب هاري مقالة بعنوان (التفكير) تبدأ بالعبارات التالية:
«بالنسبة إليّ فإن أكثر شيء ممتع في العالم هو التفكير. وأعلم أن كثيراً من الأشياء الأخرى لها أهميتها البالغة وروعتها الكبيرة مثل الكهرباء والمغناطيسية والجاذبية. وعلى الرغم من أننا نفهمها إلا أنها لا يمكن أن تفهمنا. ولذا فإن التفكير يجب أن يكون شيئاً متميزاً جداً».
وبعد كتابة عدة فقرات أخرى وضع هاري ورقته جانباً. وبعد ذلك أخذ هاري يفكر: “في المدرسة نفكر في الرياضيات وفي الإملاء ونفكر في النحو. ولكن من سمع عن التفكير في التفكير؟” ولذلك فإنه يضيف جملة أخرى في ورقته قائلاً: “لو فكرنا في الكهرباء يمكننا أن نفهم بشكل أفضل، ولكن عندما نفكر في التفكير فإنه يبدو أننا نفهم أنفسنا بشكل أفضل”.
ومن دون استعمال كلمة “فلسفة”، سواء هنا أو في أي مكان آخر في قصة (هاري ستوتلميير)، يصور ليبمان (هاري) وهو منهمك في تفكير فلسفي جاد حيث “يفكر في التفكير”. ويمكننا القول إن هذا يكشف اكتشاف هاري لمُتع التفكير الفلسفي. بل هناك أكثر من ذلك، فـ (هاري) يلاحظ أيضاً أنه لا مكانة خاصة للفلسفة في المدرسة كما يبدو، وهي ملاحظة مهمة ومثيرة للاهتمام تماماً مثل التفكير في التفكير. وأخيراً فبالرغم من أن مقاله يبدأ بصيغة الضمير المفرد المتكلم فسرعان ما يتحول إلى صيغة ضمير الجمع المتكلم (نحن) ثم يركز على ما يمكن تحقيقه (مع الآخرين) في الفصل.
وإحدى السمات الأكثر جاذبية في أسلوب “معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال ” تجاه هذا لموضوع (الـ فلسفة للأطفال) بالنسبة إلى كثير من المعلمين كانت أنها تشجع على فكرة كون الفصل عبارة عن “مجتمع استفسار”، حيث يتبادل الطلاب الآراء بوضوح واحترام. ويُنظر إلى كل طالب على أنه يملك القدرة على تقديم إسهامات قيمة للمواضيع قيد البحث. ويتم تشجيع الطلاب على تنمية مهارات جيدة للاستماع والتجاوب مع ما يقوله الآخرون والاستعداد لمحاولة دعم أفكاره الخاصة بأسباب جيدة وانفتاح نحو إمكانية أن يتعين على المرء تعديل معتقداته على ضوء الاعتبارات الجديدة. وباختصار فإن الفصل مصمم لتعزيز قدرة الطالب على مبدأ (المعقولية). وهذا يتضمن شيئاً أكثر من القدرة على المشاركة في التفكر البارع. وعلى حد عبارة لورانس جيه. سبليتر و آن مارغرييت شارب (سبليتر وشارب، ص6):
«التفكر بصورة رئيسية هو نزعة اجتماعية، فالشخص العاقل يحترم الآخرين وعلى استعداد للأخذ في اعتباره وجهات نظرهم ومشاعرهم، إلى حد تغيير رأيه في قضايا ذات أهمية، ويسمح بصورة واعية تغيير الآخرين لوجهة نظره. وبعبارة أخرى هو على استعداد للتفاهم والتحدث بالمنطق».
إن المعلمين الذين يحبذون فكرة أن الفصل لا بد أن يكون (مجتمع استفسار) قد يقاومون مع ذلك الفكرة بأن “الفلسفة” لا بد أن تكون محور النقاش. وقد يجادلون بأن المواد الأخرى تيسر تشكيل نوع من بيئة التعلم التعاوني التي يمكن جداً أن تُسمى “مجتمع الاستفسار”. ولكن أنصار الـ” فلسفة للأطفال ” بحاجة إلى الإصرار على أن يكون نوع الاستفسار الذي يؤيدونه فلسفياً. ولسوء الحظ توفيت آن مارغريت شارب عام 2011م. إن التميز في نوع الاستفسار الذي طالبت به هي وليبمان قد جرى البحث فيه واستكشافه بشيء من التفصيل في مجموعة مقالات صدرت مؤخراً لها وحولها خصصت لذكراها (غريغوري و لافرتي، 2017م).
وربما يُعتقد أن الفلسفة في أفضل أحوالها موضوع مناسب لعدد قليل نسبياً من الطلاب في مرحلة ما قبل الكلية. ونظراً لأن الفلسفة كانت تُدرّس بصورة تقليدية في مرحلة الكلية فقط في الولايات المتحدة، فإنه قد يُعتقد أنها مناسبة لشريحة صغيرة فقط من الطلاب الذين صُنِّفوا بأنهم “موهوبون”. ومع ذلك فإن برامج الـ فلسفة للأطفال قد بينت أنها ناجحة بشكل رائع في جمعها في الواقع لجميع الطلبة في الفصل مع بعض في الاستفسار. وكثيراً ما يُصاب المعلمون بالدهشة والسرور لرؤية كثير من طلابهم الذين هم أكثر صمتاً و “أكثر تقصيراً” وهم يشاركون بنشاط في النقاش حول آراء فلسفية.
ومع ذلك ولأن كثيراً من المعلمين يفتقدون إلى خلفية في الدراسة الرسمية للفلسفة فإنهم يترددون في تشجيع طلابهم على التفكير الفلسفي، ولكن مخاوفهم مبالغ فيها. فقد يكون من المحبذ الاطلاع والتعرف على بعض الدراسات الفلسفية المعيارية، إلا أنه ليس من الضروري إدخال الـ فلسفة للأطفال إلى مقاعد الدرس. والمطلوب هو القدرة على تسهيل المناقشة الفلسفية. ولأجل هذا فإنه من الأهمية أن يكون لدى المعلمين أنفسهم بعض الفضول الفلسفي بشكل أكبر كثيراً من أن يكون مطلعاً على الدراسات الفلسفية الأكاديمية. والمعلمون غير المطلعين على تخصص الفلسفة فإنهم مثل طلابهم قد يكون لديهم استعداد للتفكير الفلسفي – أو على الأقل موهبة لمعرفة متى ينخرط الآخرون في التفكير الفلسفي.
ولا يعني تسهيل نقاش الـ فلسفة للأطفال السيطرة على النقاش لأنه من المهم بالنسبة إلى المعلمين السماح لطلابهم تطوير أفكارهم الخاصة بهم. ولا يتوقع من المعلمين توفير الإجابات على كل الأسئلة أو حتى تكون لديهم. ويمكنهم مشاركة طلابهم في الخبرة والانفتاح على الإجابات غير المتوقعة مع كونها إيحائية للأسئلة التي يثيرها المعلمون والطلبة إلى جانب كونهم يسعدون بملاحظة عمليات التبادل التي يجريها الطلاب مع بعضهم بعضاً. وهذا يعني إظهار الدور التقليدي للمعلم كمحاضر ومقدم للإجابات. وعلى نحو خاص فبالنسبة إلى المعلمين غير المتأكدين مما سيؤول إليه هذا الحال فإن ورش العمل مثل التي قدمها معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال توفر مقدمة جيدة لتدريس الـ فلسفة للأطفال .
4- التفلسف مع الآخرين
يشجع تدريس (الـ فلسفة للأطفال) الأطفال على التفكير “لأنفسهم” في نفس الوقت الذي تشجعهم فيه على التفكير “مع” الآخرين. ومع ذلك يُنظر في الغالب إلى الفلسفة على أنها شيء يقارب كثيراً التأمل المنفرد، وربما يتضمن ذلك تبادلات بين بضعة مفكرين منعزلين آخرين – وهو أمر لا تعتبره “الجماهير” خصوصياً ولا ينجذبون إليه. وربما أن كثيراً من الناس يزعمون أن ذلك هو الفلسفة في أفضل أحوالها، مثل الفيزياء أو الرياضيات، وبصورة مخففة “الفلسفة للجميع”. وليس هناك حاجة لفلسفة للأطفال للاعتراض على هذا القياس، وفي الواقع يمكن تحويله لصالحها. ومهما اقتصر فهم الفيزياء والكيمياء على فئة قليلة في أفضل أحوالهما، فإن المدارس بالرغم من ذلك تدرك أهمية جعل هذه المواد متاحة لجميع الطلاب. وبالمثل فإنه أيضاً الـ فلسفة للأطفال يمكنهم الاعتراض على ذلك بأنه لا بد أن يكون هناك مكان لجميع طلاب الفصل – بما في ذلك الطلبة “الموهوبون” و “المقصرون في دراستهم” و “العاديون” – الذين يسعون جميعاً وراء أسئلة فلسفية.
ولكي يعمل ذلك لا بد أن يتمكن الأطفال في الفصل من المشاركة في نقاش فلسفي مستمر مع الآخرين. وكما أشرنا من قبل، فإن كتابات غاريث ماثيوز تقدم أدلة كافية على أن كثيراً من الأطفال قادرون على أن تكون لديهم أفكار فلسفية مثيرة إن لم تكن عميقة. والأقل وضوحاً مع ذلك هي قدرة الأطفال على استدامة وتطوير هذا مع الآخرين. ولا تكفي حكايات الأطفال الصغار الذين يشاركون التفكير الفلسفي بصورة عفوية مع شخص بالغ واعٍ. ويقدم كتاب ماثيوز (حوار مع الأطفال) أدلة جيدة على أن الأطفال يستطيعون المضي جيداً إلى أبعد من ذلك. وتوجد أمثلة على أحاديث فلسفية مهمة للأطفال في مؤلفات (لون، 2010م) و (ماكول، 2009م) و (بريتشارد، 1996م) و (شابريو، 2012م) و (وورتينبيرج، 2009م)، من ضمن آخرين كثير، وهي أمثلة لا تترك إلا قدراً ضئيلاً من الشك بأن الأطفال لديهم هذه القدرة.
5- الـ فلسفة للأطفال اليوم
على ضوء الاهتمام العالمي سريع التوسع بالـ فلسفة للأطفال تم إنشاء (المجلس العالمي للاستفسار الفلسفي مع الأطفال (JCPIC) في عام 1985م. ويرعى المجلس باستمرار مؤتمراً دولياً كل عام مع ضيوف من أستراليا والنمسا والبرازيل وإنجلترا والمكسيك وأسبانيا (مرتان) وتايوان. وأحدث هذه المؤتمرات (يونيو 2017م) عُقد في مدريد بأسبانيا ونظمته شركة (فيلكس جراسيا – موريون). وقد حضر المؤتمر أكثر من 400 مشارك من شتى أنحاء العالم.
وحتى بعد وفاة رواد معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال ، مثل ماثيو ليبمان (2010م) وآن مارغريت شارب (2011م) تحت قيادة مون غريغوري، فإن المعهد يحتفظ بحضور قوي في المجلس العالمي للاستفسار الفلسفي مع الأطفال. ومع ذلك فإن كثيراً من أعضاء المجلس قد أنشأوا الآن هياكلهم التنظيمية الخاصة بهم وطوروا مراكز وجمعيات وبرامج. وفي أمريكا الشمالية يوجد هناك رابطة أمريكا الشمالية لمجتمع الاستفسارات، والتي تجتمع سنة بعد سنة (في السنوات التي لا يجتمع فيها المجلس العالمي). (الاجتماع القادم للرابطة سيكون في المكسيك في يونيو 2018م). ومؤخراً وبدعم أولي من لجنة الفلسفة قبل مرحلة الكلية والتابعة لـ (الرابطة الأمريكية للفلسفة)، تشكلت “منظمة تعلم الفلسفة وتدريسها” (PLATO). وأصبحت الآن منظمة غير ربحية تدعمها (مؤسسة آل سكواير) وترعى اجتماعات سنوية وتعمل بصورة وثيقة مع (مركز الشمال الغربي للفلسفة للأطفال) (لون وإسرائيلوف، 2012م). وتم تنظيم أستراليا ونيوزيلندا تحت (اتحاد الفلسفة الأسترآسيوية في الجمعيات المدرسية FAPSA)، والذي يعقد اجتماعاته سنوياً ويصدر (مجلة الفلسفة في المدارس) كمجلة رسمية له (بورغ وثورنتون، 2016م). ولقد حصل لتوه اتحاد الفلسفة على منحة كبيرة لمدة 3 سنوات من مؤسسة تمبلتون للتشجيع على الفلسفة في المدارس. وفي عام 1992م تم إنشاء (جمعية تطوير الاستفسار الفلسفي والتأمل في التعليم SAPERE) في مدينة أكسفورد في بريطانيا. وفي عام 2007م تم إنشاء مؤسسة إنجلترا للفلسفة. (وورلي، 2011م). ومنذ عام 2005م كانت مجلة (الفلسفة والطفولة) تحت رعاية المجلس العالمي وبرنامج الخريجين في التعليم في جامعة ولاية ريو دو جانيرو، حيث يعمل في تحرير المجلة كل من وولتر كوهان وديفيد كينيدي. وهذه المنظمات – إلى جانب كثير من المراكز الأخرى والممارسين ذوي الخبرة في شتى أنحاء العالم – ما تزال تدعم برامج التدريب للمعلمين التي تمكنهم من تعريف آلاف الأطفال على الفلسفة داخل الفصول الدراسية النظامية وخارجها.
وعلى الرغم من أن هناك استخداماً مستمراً لمواد معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال ، إلا أن السنوات الأخيرة تميزت بانتشار مصادر وطرق تدريس بديلة تشرك الأطفال في المناقشات الفلسفية. ولسنوات عديدة ساهم غاريث ماثيوز باستعراض لقصص الأطفال في مجلة (Thinking)، ثم في المجلة الرسمية للمعهد (على الرغم من أن مواد التدريس الخاصة بالمعهد لم تستفد من دراسات الأطفال الأخرى). وهذا أثار إلهام (توم وورتنبيرغ 2009، 2013م) لتطوير برنامجه الفلسفي الناجح كثيراً لمرحلة ما قبل الكلية في (كلية ماونت هوليوك MA) وهو برنامج نال جائزة ويدور حول قصص الأطفال الكلاسيكية. وكانت (كارين موريس) من أوائل المعترضين على رفض ليبمان استخدام مواد مصورة (موريس، 1992م) وقدمت مع (جوانا هاينس) وصفاً مفصلاً للأهمية الفلسفية للكتب المصورة (موريس و هانيس 2012، و موريس 2016م). أما الكاتب البريطاني (سبيتر وورلي) فقد كتب العديد من الكتب المحفزة للمعلمين والطلاب والتي لم تستفد من مواد معهد تطوير الـ فلسفة للأطفال . وقام الكاتب الأسترالي (فيل كام) بجمع مجموعة متنوعة من القصص الملائمة للاستخدام الفلسفي مع الأطفال. وباختصار هناك قائمة متنامية بشكل سريع للموارد التي تبشر بشكل كبير باشتراك الأطفال في المناقشات الفلسفية (انظر مثلاً: دوهان وآخرون 1995م، فيشر 1998م كين 1997م، لويس و تشاندلي 2012م، لون 2012م، ماكول 2009م، موريس 1992م، 2016م، سبرود 2001م، وايت 2000م). “أسئلة”: إن مجلة “الفلسفة للشباب”، وهي مجلة دورية برعاية لجنة الفلسفة لمرحلة ما قبل الكلية التابعة للرابطة الأمريكية للفلسفة، قد نشرت كتابات لشباب حول مواضيع فلسفية خاصة. والعدد الأول (ربيع 2001م) ركّز على حقوق الأطفال.
ولحسن الحظ جعل الإنترنت من الممكن متابعة أحدث التطورات حول العالم بصورة معقولة والتواصل بسرعة مع مربين آخرين لديهم اهتمام بالـ فلسفة للأطفال . ولكن لسوء الحظ فإن كثيراً من هذه المواقع على الشبكة العنكبوتية لا تستمر طويلاً كما يبدو. ومع ذلك يمكنك الاطلاع على قسم مصادر الإنترنت فيما يلي أدناه لمعرفة المواقع على الشبكة التي يمكن الاعتماد عليها والتي يمكن أن تقدم روابط مع مواقع مفيدة أخرى.
المراجع
Books and Articles
Periodicals
أدوات أكاديمية
مصادر أخرى على الأنترنت
مقالات ذات صلة
childhood, the philosophy of
[1] Pritchard, Michael, “Philosophy for Children”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2018/entries/children/>.
النهضة والسقوط – قراءة: عبداللطيف حسني
تصنيف العلوم بين الفارابي وابن خلدون – محمد علي أبو ريان
الفكر المتطرّف؛ كيف يصبح الناس العاديّون متعصّبين – مراجعة: محمد الحاج سالم
هل الاجتهاد أمر ممكن؟ قراءة في ملف الاجتهاد والتجدد – خالد زيادة
الأصول الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان – محمد سبيلا
منقول