TODAY - September 17, 2010
حديقة الإنسان المسيسبّي!
أحمد مطر
تقدمت إلى الامتحان ولم أنجح.
صبرت حتى نما شاربي فسوّيته بالمقص، ثم بعت المقص ومكواة الفحم لقاء مبلغ زهيد اشتريت به من محل الخردة نفسه قميصاً رثاً تنبئ رائحته عن أن كمية النفتالين فيه أكبر كثيراً من كمية خيوط القطن.
كان البرد قارساً في الخارج، فحرصت قبل مغادرة المحل على ارتداء القميص ذي النفحة التاريخية فوق قميصي الميت، ثم انطلقت إلى الشركة للمرة الثانية.
قال لي الموظف البدين: لقد جئت إلينا قبل هذا، وفشلت في المقابلة.
قلت له بحدة مؤدبة: أنت مخطئ يا سيد، لم يسبق لي أن وطئت عتبة شركتكم الموقرة أبداً... ألا ترى شاربي وقميصي؟
قال باسماً: أراهما بالطبع... وفي المرة السابقة أيضاً رأيت قميصك، ولو جئت ألف مرة لأمكنني أن أرى قميصك. الناس لا يأتون إلينا عراة.
استبد بي غيظ مسعور، وأنا أشهد بأم عيني ضياع كل ما تكلفته لأجل إتقان التزوير.
بادلته ابتسامة باهتة، ونهرته بلهجة مستجدية: سبحان الله، إنني لم أشتر هذا القميص إلا اليوم، كيف أمكنك أن ترى ما في الغيب؟ أنظر، أنظر، إنه...
قاطعني قائلاً ببرود: لم أكن أقصد هذا.
هجمت عليه ثانية: دقق في وجهي يا سيد. دقق جيداً... لا تقل لي إنك قد رأيت هذا الشارب سابقاً أيضاً.
حدّق بي، ثم ما لبث أن انقلب على ظهره في الكرسي الدوّار، ومد إصبعه نحو شاربي، وهو يقهقه: أتظن أن عصارة تمر الهند هذه كافية لتغيير خلقتك؟!
ثم اعتدل، وجذب أنفاسه، وربت على كتفي مواسياً، ومدَّ يده نحو سماعة الهاتف قائلاً: انتظر لحظة... ربما كان بمستطاعي أن أجد لك فرصة جديدة.
أدار القرص، وتحدث هامساً، ثم أقفل الخط، والتفت إلي ووجهه طافح بالبشاشة: لقد أعطاك الأستاذ فرصة... هل أنت مستعد؟
ابتسمت ممتناً: ولماذا تظنني جئت؟
طلب مني أن أجلس على كرسي قبالته، ثم سألني: ما طول نهر المسيسبي؟
شعرت كأنني تلقيت صفعة عنيفة، فلم أملك إلا أن أصرخ به محتجاً: ماذا تريدون أن تصنعوا بالمسيسبي؟ ماذا يفيدكم إذا كان طوله مليون ميل أو أربعة أشبار؟ لقد سئلت هذا السؤال عندما كنت حليق الشارب، وقلت لا أعرف... فأي ضرر سيحيق بشركتكم إذا لم أعرف؟ أنتم تبيعون أدوات كهربائية لا أكثر، وأنا أطلب وظيفة فراش لا أكثر... وحتى لو كنتم تريدون مني تحضير الشاي بماء المسيسبي فإن تقدير طوله لن يشكل أي عقبة، بإمكانكم أن تسحبوا المياه من أي نقطة فيه...
قاطعني محتداً وهو يكفكف رشاش كلماتي بيديه: رجاء، رجاء، رجاء... إنني أتبع قواعد الشركة. أجب عن السؤال أو أترك الفرصة لغيرك، هل تعرف ما طول المسيسبي؟
قلت مسلماً بالفشل: لا أعرف.
قال بلطف: انتهت المقابلة.
في اللحظة ذاتها نزل من الطابق الأعلى شاب أنيق، بدا لي أنني رأيته سابقاً. وبينما هو يتقدم نحونا، أعملت ذهني بضراوة وسرعان ما تذكرته... لقد كان أغبى تلميذ في صفنا الابتدائي.
وبسرعة ومضت في ذهني واقعة إجابته في امتحان التاريخ عن سؤال يتعلق بجيوش الحلفاء، إذ كان الوحيد من بيننا الذي انفرد بالقول إن الحلفاء الراشدين أربعة، وعدد أسماءهم بكل دقة!
وجدتني أندفع نحوه مأخوذاً بمفاجأة لقائه، وابتسمت وأنا أبسط ذراعي إليه تهيئة لاحتضانه: عدنان؟!
ارتد خطوة كالجافل، بينما هبّ الموظف البدين قائماً، ورفع يده إلى رأسه بالتحية، وقد ملأ الذعر وجهه.
سدد عدنان إلي نظرة استنكار، وقال باقتضاب: نعم؟
قلت له: أنا ماجد ألا تذكرني؟
اغتصب من نفسه رداً كالصدقة: آسف... لا أتذكر.
ألحفت وقد شعرت بالمهانة: مدرسة الأشبال... ألا تذكر؟!
قطع الموضوع بكلمة باردة كالثلج: المعذرة. لا أعتقد أنني رأيتك سابقاً.
تطوع الموظف لاستنقاذه من براثن إلحاحي: كف عن مضايقة الأستاذ... الأستاذ لا يعرفك، وقد أعطاك فرصة ثانية ولم تنجح. توكل على الله.
الأستاذ؟!
صعقت لما قاله الموظف، وأحسست بالأرض تميد من تحتي. لكنني اجتهدت ما وسعتني الطاقة أن أحتفظ بتوازني، ووجدتني أنقض عليه انقضاضاً. جذبته من جانبي سترته ورحت أهزه بعنف: أنا ماجد الشاوي يا أستاذ عدنان... ماجد الذي لم ينجح بالفرصة، كيف لا تتذكرني؟ قاتل الله النسيان، يبدو أن آفته اللئيمة قد أكلتك تماماً فلم تعد تذكر حتى الحلفاء الراشدين!
تداعى الموظفون والسعاة، فجأة، من كل ناحية، وجروني بمساعدة الموظف البدين كالخرقة البالية خارج مبنى الشركة، وكنت في تلك الأثناء أتلفت فأرى عدنان يعدل سترته، مرسلاً نحوي نظرة تحمل مزيجاً من الغضب والاحتقار والاستغراب.
ابتعدت عن المبنى بخطى حثيثة، وأنا مفعم بالكرامة. كان لي من شفاء الغليل ما أنساني الإهانة، وكان لي من فوران دمي مدفأة حامية أنستني البرد القارس.
بعد ساعة من التسكع اللاهث في متاهات الدروب الملتوية، خلوت إلى زقاق ضيق غارق في العتمة، فتوقفت، ومددت يدي في جيب بنطلوني، وأخرجت محفظة عدنان.
استندت إلى الجدار، ورحت أتفحص محتوياتها: بطاقتان شخصيتان، عدد من بطاقات الائتمان، صور فتيات لا أمل لهن بالجنة، رزمة كبيرة من الأوراق النقدية.
التقطت رزمة النقود بعناية ووضعتها في جيبي، ثم انطلقت إلى ضوء النهار، ومشيت على رصيف الشارع العام.
هطل المطر بغزارة، لكنني واصلت المشي تحت وابله ببطء شديد وكأنني في نزهة.
نبهني أحد مجارير الشارع بخريره الهادر، فتوقفت، وألقيت فيه المحفظة بكل حمولتها الفارغة. وفيما هي تصطرع مندفعة في فمه تحت وطأة التيار، همست للمجرور بلطف بالغ أن يحملها معه إلى المسيسبّي!
• شاعر عراقي