يوم كنا طلاباً في المتوسطة دخل علينا مدرس اللغة العربية وفي درس الانشاء كتب لنا بيتاً من الشعر على السبورة
طالباً منا أن نكتب ما تجود به قريحتنا تحت هذا العنوان
(وطنٌ تشيده الجماجم والدم .... تتهدم الدنيا ولا يتهدم)،
هذا ماكتبه استاذنا، حاله حال كل مواضيع الانشاء التي كنا نكتبها كان هذا الموضوع يتحدث عن الوطن عندما يتمظهر بصورة الرئيس،
أو يختزل هذا الوطن وشعبه وتاريخه وحضارته، ماضييه ومستقبله بشخص القائد الضرورة،
حتى اقتنع هذا الرئيس أخيراً بأن “اذا قال صدام قال العراق” هي
الحقيقة!!
اعتقد إن ما من شيء أثر سلباً في هذه الأمة بقدر ما أثرت شعارات الأجيال السابقة،
تلك الشعارات التي تلقفتها أغلب احزابنا بمختلف مشاربها،
والتي أسهمت بتحويل كل الأوطان وشعوبها الى فدائيين من أجل الوطن/القائد أو الرئيس،
فيما بعد قرأنا الكثير والكثير عن الانسان باعتباره قيمة عليا أو هكذا يفترض،
فهذه الشرائع السماوية ومختلف الأديان تصدر نفسها باعتبارها مدافعاً عن الانسان كونه محور هذا الوجود لا شيء غيره،
فتاريخ تلك الأديان نجح وقت سار على هذا النهج وبدأت مرحلة تراجع ذلك النجاح حين ابتعدت عنه،
وعلى صلة بذلك كانت ولم تزل أغلب الفلسفات والشرائع الوضعية تعتبر ان الانسان غايتها ومرادها، تعمل من أجله،
وتريد تحقيق ما يريده هذا الانسان، تعبر عن مصالحه وأمنياته وتسعى لتحقيق احلامه،
ولكن وبقدرة هذه الشعارات وغباء زعمائنا حين صدقوها، تحولت شعوبنا الى حطب لنار الزعيم،
وآلاف من الجثث المتفحمة وبقدرها من المعاقين والمشوهين في حروب عبثية لم تكن لمصلحة الأمة بقدر ما كانت لنزوات واثبات وجود قادتنا،
فمن حرب الثماني سنوات مروراً الى لحظة الغباء الأكبر حين قرر صدام أن الكويت محافظة عراقية
ويجب علينا استعادتها لنقذف بنار القائد آلافاً أخرى من شبابنا
وليس آخيراً حين تعنت و”ركب راسه” وأدخلنا في حرب غير متكافئة مع الولايات المتحدة
وما جرته هذه الحرب خلفها، والنتيجة هي اننا لم نزل نعيش حياتنا نفسنا وربما أكثر تعقيداً،
ثماني سنوات من الحرب وضحاياها ومآسيها ونحن بلا كهرباء، ثماني سنوات من هدر الكثير من خزينة الدولة
ونحن بلا نظام صحي يجعلنا نشعر اننا مواطنون محط اهتمام الحكومة والقائد، آلاف الضحايا والجثث والمغيبين،
مئات الصواريخ التي سقطت على رؤوس العراقيين وتحملوها مجبرين ونظامنا التعليمي لا يرتقي لنظام دول لم يبلغ عمرها خمسة عقود،
من يتذكر صورة بغداد قبل سنوات وهي مليئة بالمفخخات والقتل على الهوية والتهجير على الاساس الطائفي
لعله يسأل اليوم كل هذا من أجل ماذا؟ ماهو الوطن اذن اذا لم يكن بيتاً آمناً لنا ولأطفالنا؟
ما الوطن اذن حين أكون مريضاً ولم أجد دوائي؟
اي وطن هو هذا الذي يجبر شبابه على تحمل مخاطر المهربين والبحار ومذلة
الدول ليكون لاجئاً يحمل شهادة عليا ويجبر على أن يعمل في مطعم في
بلد غريب؟
كل الاصوات المنادية بالحروب والداعية لذلك هي اصوات منافقة، لا تفكر سوى بمصالحها، اصوات لا تفكر بمصالحنا نحن،
الوطن هو أن ننام بأمان، ونجلس في مقاعد جامعاتنا المحترمة ونتلقى تعليماً جيداً،
الوطن هو أن يجد مريض السرطان علاجه قبل أن يذهب الى ربٍ رحيم،
لا أن يُذل ويُترك تحت رحمة الجشعين وتجار الموت والأزمات، أي نظام لا يعتبرنا
أننا الوطن ولا شيء سوانا يحمل هذا الاسم هو نظام كاذبٌ ومدعي!