مرحبا
قلعة أربيل تحتل مركز مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، بل ما كانت أربيل من قبل سوى القلعة، وبالتالي فمن أراد أن يؤكد أصالة نسبة الأربيلي، أو (الهوليري) نسبة إلى التسمية الكردية للمدينة (هولير)، فهو يبرهن تحدر عائلته من قلعة أربيل الشاخصة هناك منذ ما يقرب من ستة آلاف سنة. إنها أقدم مستوطن بشري لا يزال قائما حتى اليوم.. هناك.
وبعد أن تدلف من بوابة القلعة الرئيسية يطالعك بيت يقوم عند الجهة اليمنى. إنه بيت قديم مضى على بنائه ما يقرب من القرنين، وهو أحد الشواخص المعمارية التراثية التي تحفل بها القلعة الأثرية. وعند أعلى الباب الخشبي العتيق سترى لافتة تشير إلى أن هذا الموقع هو «متحف السجاد اليدوي»، وفي هذا العنوان وحده إغراء كافٍ للدخول والاستغراق بكنوز هذا الفن الجميل.
لوحات فنية نفيسة مفروشة على الجدران المبنية من الآجر (الطابوق) اليدوي والجص، بيد أن هذه الحيطان اكتسبت لون الزمن الذي تعاقب عليها بكل أحداثه. إنها قطع فنية من منسوجات ملونة، تحفل بالجمال والحياة والبراءة الفطرية، وتنتمي بقوة إلى الطبيعة وبيئة المنطقة. فالخيوط التي تعد المادة الأولية لهذه المنسوجات من صوف الأغنام وشعر الماعز المخلوطة بخيوط الحرير. أما الألوان فمن أصباغ طبيعية تماما لا فعل للكيمياء فيها، إذ تغطس الغزول بنقيع زهور شقائق النعمان الحمراء بعد غليها، أو خلاصة زهور البابونج الصفراء.. أو ألوان زهور برية أخرى تنتشر في فصل الربيع على الآلاف من الهكتارات في وديان كردستان وجبالها. وطبعا، فإن الأيادي التي حاكت هذه القطع من السجاد أيادي قرويات كرديات اشتغلت أناملهن بدقة بالغة لتنفيذ تشكيلات ورسوم وزخارف فطرية وبألوان تنطق عن بيئتها من حيث الشكل والمضمون.
في الواقع تعكس والرسوم والنقوش المستخدمة في نسيج المفروشات طبيعة الحياة والأحوال الاجتماعية والثقافية للشعوب. وتنعكس طبيعة حياة العشائر الكردية في فن النسيج المحلي، إذ احتفظت بهذا الفن الأصيل عبر القرون الماضية، وأصبح معروفا كهوية متميزة للكرد والعشائر الكردية.
لولان مصطفى، مدير متحف السجاد اليدوي، يوضح بأن المتحف «يهدف إلى إحياء هذا الفن أو هذه المهنة التي تشكل صميم التراث الكردي، خصوصا أن المتحف يعد ركنا مهمّا من الإرث العراقي الذي يجب إنقاذه من خطر الاندثار، ثم إننا نهدف إلى شد اهتمام أفراد المجتمع ومثقفيه إلى هذا الفن المهمش وهذه الهوية الكردية العراقية».
وحقا، فإن متحف النسيج الكردي، الذي ينشط بالتعاون مع منظمة أميركية، لا يهدف فقط إلى المحافظة على صناعة السجاد والنسيج الكردي اليدوي من الزوال فحسب، بل يعطي الزائر فسحة من المعرفة التاريخية لمراحل تطوّر هذا الفن - ولا سيما خصائصه الكردية - وأساليب نسج السجاد اليدوي، ذلك أن «الصناعة اليدوية الكردية انقرضت تماما» حسب توضيح لولان، الذي يضيف: «نحن في متحف النسيج نعمل للمحافظة على مختلف الصناعات اليدوية النسيجية الكردية مثل صناعة السجاد والأغطية واللبّاد وكل ما يتعلق بالغزل والحياكة والنسيج الكردي».
مدير المتحف ينبه، من ناحية ثانية، إلى أن «أكثر من ألفي قطعة سجاد وأعمال يدوية تعود لفن النسيج الكردي المحلي غادرت إقليم كردستان منذ عام 1992 إلى مناطق مجاورة، لتواجه بعدها هذه الصناعة الشعبية خطر الزوال بعد عقود كانت فيها عنوانا للفولكلور الكردي». وفي خطوة لتفادي فقدان تاريخ هذه المهنة «جرى جمع أنواع نادرة من السجاد اليدوي الكردستاني وبعض القطع من فنون النسيج الكردي الأخرى، ضمن إطار حفظ هذا الإرث الشعبي الذي يشتهر به الإقليم».
ويتابع لولان مصطفى شرحه قائلا: «المتحف يضم اليوم قطعا نادرة للغاية من المنسوجات اليدوية، أما أقدم قطعة موجودة هنا فهي سجادة صنعت عام 1800».
يتكوّن المتحف حاليا من عشر غرف تتوزع على طابقين، وهو يعكس جمال الفن المعماري الكردي التقليدي الذي كان سائدا قبل ما يقرب من 200 سنة. فعبق التاريخ في كل مكان، تحسه في الجدران والأبواب ذات المقابض النحاسية والبلاط الملون والسقوف المزخرفة، مساعدا في تكوين بيئة حياتية تعزل الزائر عن صخب الحياة خارج القلعة في القلب التجاري لأربيل.
ولا تقتصر مهمة المتحف على عرض هذه النفائس الفنية فقط، بل ثمة قطع سجاد يدوي حديثة ومشغولات كردية تراثية وتقليدية معروضة للبيع، مثل أغطية الرأس للرجال والنساء أو الأحذية التقليدية الكردية المنسوجة يدويا، التي تسمّى بـ«الكيوة»، وبعض قطع السجاد الصغيرة التي تتراوح أسعارها ما بين 200 دولار و600 دولار أميركي.
وحتى خارج الحدود الضيقة لمبنى المتحف، كانت صناعة السجاد اليدوي الأكثر شهرة في إقليم كردستان، وحتى سنوات قريبة وجدت مؤسسة ضخمة كانت تشرف عليها وزارة الصناعة العراقية اسمها «المؤسسة العامة للسجاد اليدوي»، أسّست في بداية السبعينات من القرن الماضي، وكانت تعمل فيها ما بين 500 و700 عاملة من مناطق مختلفة من كردستان العراق. وكانت غالبية الإنتاج الفاخر لورش المؤسسة، الذي كان ينافس من حيث جودته السجاد الإيراني الشهير، تذهب كهدايا يقدمها القصر الجمهوري للرؤساء وكبار ضيوف العراق، وما كان يتوافر للبيع كانت أسعاره عالية جدا، ومع هذا كانت هناك قائمة حجز طويلة تنظر من يطمح بشراء سجادة.
أما اليوم فيعد مركز «كسنزان للسجاد اليدوي» في أربيل هو الأكثر شهرة، وتعمل فيه أكثر من خمسين امرأة كردية من مختلف الأعمار في نسج السجاد الذي يعد بحق قطعا فنية متميزة، لكنه بحاجة إلى منافذ تسويق جيدة نظرا لغلاء أسعاره. فصنع سجادة مساحتها 12 مترا مربعا تستهلك ما يقرب من 100 كلغ من الصوف، ويكلّف نحو ألف دولار أميركي، بواقع عمل أكثر من ثلاثة أشهر. ويكمن سبب ارتفاع ثمن السجادة المنسوجة يدويا ليس في جمالها ودقة إتقان حياكتها فحسب، بل لأنها تعمّر لقرون.
وتشرف اليوم وزارة الثقافة والرياضة والشباب في حكومة إقليم كردستان العراق على مراكز صناعة السجاد اليدوي بعدما كانت تابعة لوزارة الصناعة في حكومة الإقليم، والسبب كما أوضح كاوة محمود، وزير الثقافة في الحكومة الكردية لـ«الشرق الأوسط» هو أن «هذه الحرفة فنية ثقافية تراثية أكثر منها صناعية، وتعنى بتراث شعبنا الكردي وتعكس حضارته من حيث اللون والموضوع»، مضيفا: «نحن مهتمون بمراكز حياكة السجاد اليدوي ونحاول اجتذاب النساء لتعلم الحرفة ومزاولتها، ولذا فتحنا دور حضانة لأطفال العاملات في مركز كسنزان، وسنفتح دورا مماثلة في المراكز الأخرى، ونؤمن مطاعم ووجبات غذاء مجانية للعاملات، وما يهمنا هو أن تبقى هذه الحرفة اليدوية وتزدهر بعدما كانت متقدمة، وليس الربح المادي، مع أننا حريصون على تشجيع المراكز على بيع إنتاجها أو فتح منافذ لتسويق السجاد اليدوي».
ومن جانبه يقول جابوك رشيد، مدير مراكز صناعة السجاد اليدوي في إقليم كردستان العراق، إنه اطلع على نماذج للسجاد الذي يصنع يدويا في عدد من الدول ووجد أن «السجاد الذي يصنع في العراق أكثر دقة وتطورا من الذي يصنع في الكثير من البلدان ومنها إسبانيا، ولكن الأجانب يشترون قطعا من السجاد الذي يصنع في إقليم كردستان في حين لا يرغب أهالي المنطقة في شرائه». في حين يقول غمبار صباح، مدير مركز صناعة السجاد اليدوي في ناحية كسنزان (10 كلم إلى الشرق من أربيل) إن سجاد مركزه «يضاهي النوعيات الجيدة التي تصنع في الكثير من دول العالم، لكن انعدام منافذ التسويق الخارجية يحول دون اكتساب سجاده السمعة والانتشار على غرار السجاد الإيراني».