مقال بقلم : سارة تركي
إنها الأديبة والإنسانة التي حطمت قلوب الأدباء وكتبت صفحة في كتاب الصبر وجدار الحب وقطفت ألذ ثمار شجرة النباغةقصتها, لا نبالغ إن قلنا أنها تستحق كتب ومسلسلات في أي الجوانب,,اسمها الحقيقي ماري, مسيحية الديانة من أب لبناني و أم فلسطينية وهي وحيدتهما لكنها أسمت نفسها بمي لسبب لا يعرف حتى لو قال عنه الأدباء كثيراً و قرأت القران وتعلمت الشريعة الإسلامية ولكنها لم تعتنق الإسلام!
ولدت في الناصرة بفلسطين, وعاشت طفولة مريرة في المدارس الداخلية للراهبات المعروفة بالشدة والحزم, وانتقلت للعيش مع أسرتها إلى القاهرة, فكان انتقالها نقلة كاملة في مسيرتها الأدبية, أكملت تعليمها هناك والتحقت بجامعه القاهرة لدراسة الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة, وأتقنت 5 لغات مع العربية(الألمانية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية) ومن إبداعها في اللغات الأخرى أصدرت ديوان فرنسي بعنوان(زهرات الحلم)
في مصر حيث الكتاب والأدباء التي بنت مي علاقات أدبية معهم, أصبحت كاتبة للمقالات في صحف الكبيرة أمثال الأهرام والمقطم، ولأنها ذات فكر متحرر بالوقت الذي شاع فيه ارتداء الحجاب وتغطيه الوجه في مصر, كان ذلك نوعاً من الشذوذ إن صح التعبير إلا أن نشأتها في الأوساط المارونية ذات الثقافة الأوربية جعلها تختلف عن النساء في مصر في كل شيء,
وكان تأثرها بصالون مدام ريكاميه في باريس وصالون مدام دوستايل الشهير شديداً وصل لإنشاء صالون أدبي لها يفتتح مساء كل ثلاثاء, وصفه أحد الكتاب اللبنانيين قائلاً: مساء كل ثلاثاء يتحول منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة”المحروسة” إلى منزل فخم في باريس, وتتحول مي التي لا تزال في العقد الثاني من عمرها إلى مدام دوستايل!أصبح صالونها ملتقى لكبار الأدباء المصريين والسوريين والأوربيين كذالك فكان منهم أحمد لطفي السيد ومصطفى صادق الرافعي وعباس العقاد وطه حسين و أحمد شوقي والعديد من الأدباء, فكسرت قلوبهم جميعاً بلباقتها وترحيبها بالجميع, لذلك كان الكتاب يحاولون التقرب منها عبثاً بإرسال الرسائل لها وكانت بلباقتها لا تتركهم دون رد عفيف, فقد قال عنها شاعر احمد شوقي عندما تخلف عن حضور صالون يوم الثلاثاء:
روحي على بعض دور الحي حائمة *** كظامئ الطير حواماً على الماء
إن لـــم أمتـــع بمــي ناظـــري غـداً *** أنكرت صبحــك يا يـوم الثـلاثاء
ويذكر للأديب الكبير العقاد رسائل لها وكذا تلميحات لأحد روايته عنها فكان يلقب “مي” باسم “هند” وقد كتب عنها مقالات ملمحاً لها بنفس الاسم وظل متعلقاً بها وناكراً لكل أنثى غيرها, حتى مات عازباً!
يقول عنها الكاتب مارون عبود: كل من رأى مي, وكل من شهد مجلسها أحبها,
أما هي فظلت كسنديانة صامدة, فضلت حياتها العاطفية غامضة وكان قلبها ينبض إلى شخص وحد وهو الكاتب جبران خليل جبران رغم أنها لم تلتقي به سوء مرة واحدة فقط وعبر صوره في الصحف إلا إنهم ظلوا يبعثون الرسائل لبعضهما لمدة 20 عام! هو في أمريكا وهي في القاهرة, فذاقوا الحرمان و ورثّونا حصيلة من رسائلهم التي تنضح بالأدب والرومانسية, تقول مي في خاتمة إحدى رسائلها إلى جبران: ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا , وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة, ولتقويك إذا كنت عاكفاً على عمل ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيداً ويرد عليها جبران في أحدى الرسائل التي طلبت فيها العفو حول رسائل كانت قد أرسلتها سابقاً تحمل بها العتب والقسوة: لقد ابتسمت كثيراً منذ هذا الصباح وها أنا أبتسم في أعماقي, وابتسم بكليتي, وابتسم طويلاً, وكأني لم أخلق إلا للابتسام,, أما العفو فلفظة هائلة أوقعتني متهيبا خجولاً, إن الروح النبيلة التي تتواضع على هذا الحد لهي أقرب إلى الملائكة من البشر , أما المسيء وحدي, وقد أسأت في سكوتي وفي قنوطي, لذلك استعطفك أن تغفرين لي ما فرط مني وأن تسامحيني!
لم تنشر بطلتنا أي رسائل لهم في حياتها, بل تم تجميعها بعد وفاتها ونشروها, فعارضهم الأديب لطفي السيد بعنف قائلاً: هذه مؤامرة على سر امرأة لم تشأ أن تذيع سرها! ولو شاءت لنشرت هي هذه الرسائل في حياتها !
حياة بطلتنا السوداء بدأت من حيث مات والدها في عام1929 ثم مات بعدها حبيب المهجر, جبران عام 1931 ثم والدتها عام 1932, فكانت تلك الأحداث كفيلة بانهيارها فلم تستطع مقاومه تلك الأزمات! حيث أن وفاة جبران تركت لها فراغاً كبير فأرسلت إلى ابن عمها “جوزيف” رسالة طويلة كلها ألم تشكي له عن وضعها فخدعها وزعم بأنة سوف يوفر لها الراحة وأخذها إلى لبنان وأدخلها مستشفى الأمراض النفسية للعلاج فأصبحت وحيدةً مكسورة
عندها كثرت الأقاويل بجنون “مي” إلا أن الصحف والكتاب لم يقبلوا بتصرفهم وطالبوا بنقلها إلى مستشفى خاص في بيروت, وأرادت المحاكم اللبنانية والمصرية الحجر عليها! وكأنهم أرادوا الحجر على عقلها وأدبها, وهذا ما جعلها تقف لتلقي محاضرة في “ست هول” بالجامعة الأمريكية في بيروت, لتثبت لناس سلامة عقلها وتكذب الأقاويل التي صدقها اغلب الناس, فأشتد الزحام في القاعة لرؤيتها وللتأكد من مدى صحة القول بأنها مجنونة, وحضر أيضا النائب العام الذي جاء ليراقب كل ما تقوله ليستكمل التحقيقات في القضية المعروضة أمام المحكمة بالحجر عليها, فتعجب من خطابة وثقة مي وتسلسلها في ربط الأفكار وطرحها بمنطقية وبساطة,حتى صرح أحدهم قائلاً: أتكون هذه الفتاة مجنونة وقد جننا بها, وإذا كانت هي المجنونة فهل نحن العقلاء ؟
عادت “مي” المكسورة إلى مصر بعد قضت عامين في مستشفى العصفورية ثم في مستشفى ربيز ثم في منزل ببيروت, وكان في مصر مصاعب أخرى تنتظرها أولها كانت سرقة مكتبتها التي اكتشفت أنها قد سرقت بعد عودتها, وأخرها أن ترفع الحجر عليها في محاكم مصر كما فعلت في محاكم لبنان, وبحثها أيضا عن مسكن جديد، فاعتزلت مي العالم وامتنعت عن استقبال الناس ما عدا رجال الدين, وكتبت في هذا الفترة التي انفردت بها عدة كتب كان أهمها (ليالي العصفورية) تروي بها ما رأته في مستشفى العصفورية من معاناة وألم
, ثم بدأت حياتها تتجه إلى السوء حتى قل طعامها وشرابها وبدا جسدها الضعيف بالانهيار حتى دخلت في غيبوبة.في التاسع عشر من أكتوبر عام 1941, فشل الأطباء في إنقاذها من أزمتها الصحية, كما فشل الأدباء في كسب حبها, وتوفت تاركة خلفها قلوب محطمة وأدب معمور وتركت لغيرها من الأدباء أن يحاولوا النجاح في وصف حياتها, وأشهرها كتاب نوال مصطفى“مي زيادة..أسطورة الحب والنبوغ”
و رغم التحرر الفكري لـ”مي” والانفتاح على ثقافات العالم إلا أنها ظلت في داخلها امرأة شرقية محافظة للغاية.