مرحبا
توجد في جميع لغات العالم ظواهر وخصائص وسمات عامة، إذ إن كلاً منها - مثلاً- يحوي الضمائر الشخصية للمتكلم والمخاطب والغائب، وقد سميت هذه الظواهر بالكلّيات اللغوية أو العموميات اللغوية، وهي قوانين عامة تنطبق على الغالبية العظمى من لغات العالم، وتدل على المشترك بينها وتحدد ما يميز اللغة الطبيعية من اللغة الاصطناعية، وبذلك يمكن توظيف هذه الكليات اللغوية في تشكيل لغات عالمية universal languages.
توجَد اليوم على خريطة العالم المعاصر آلاف عدة من اللغات الطبيعية التي تحفظ ثقافة أهلها، وقد وُجدت منذ القدم على نُويّات للغات اصطناعية طمح أصحابها إلى أن تصير كلٌ منها لغةَ العالم . إنها لغات صممت وفق أنظمة معينة من أجل أهدافٍ محددة، أحدثها وأجَدُّها لغة الحواسيب (الكمبيوترات) التي تعالج المعلومات من أجل إقامة تواصل كوني. وأما اللغات العالمية الاصطناعية (كالإسبِرانتو Esperanto والفولابوك Volapuk والإيدو Ido والإنترلنغوا Interlingua ونوفيال Novial وغيرها) فكانت سابقة للغة الحواسيب واختلفت عنها بأنها لغات وسيطة بدأ التفكير بها مفكرو القرن السابع عشر الذين أرادوا إيجاد لغة بسيطة تكون أداة للتفاهم بين البشر، وتصوروا لغة عالمية تكون وسيلة عقلانية تقوم بجميع العمليات الفكرية. وكان الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes أول من عبّر عن هذه الفكرة؛ فكتب عام 1669 عن إمكانية إيجاد اللغة الاصطناعية وكذلك إيجاد العلم الذي تُبنى عليه، ورأى أن اللغة العالمية يجب أن تكون مفتاحاً منطقياً لجميع المفهومات العلمية والإنسانية. أما لايبنيتس Leibniz فقد رأى أن هذه اللغة العالمية ستصبح ألف باء التفكير الإنساني، وأن اعتماد الرياضيات فيها سيجعل منها نوعاً من الجبر الفكري. واستمرت محاولات إنشاء لغة عالمية، ولكن على أسس لغوية لا على أسس رياضية أو منطقية، إلى أن ظهرت أول لغة اصطناعية صممت في أواخر القرن التاسع عشر وعرفت باسم «فولابوك»، وقد ابتكرها في منتصف عام 1887 أسقف في قرية ألمانية في بافاريا اسمه يوهان مارتين شلاير Johann Martin Schleyer الذي وضع - حسب ظنه - ألفباء عالمية قادرة على رسم أصوات جميع لغات العالم، وكانت كلمات لغته خالية من الشواذ وتُلفظ مثلما تُكتب، وأغلبها من جذور إنكليزية إضافة إلى كلمات ألمانية وفرنسية ولاتينية مُحرَّفة. فالعالم في هذه اللغة Vol (من الكلمة الإنكليزية World) واللغة Puk (من الكلمة الإنكليزية Speak)، ومن هاتين الكلمتين نحت اسم لغته Volapuk أي اللغة العالمية.
كانت لغة الإسبِرانتو اللغة الأسهل على التعلم والاستعمال، وراحت تتطور بصورة مستقلة وكأنها لغة طبيعية. مؤسسها طبيب عيون بولوني عالم باللغات يدعى لودفيك زامينهوف L.Zamenhof (1859-1917)، استطاع وضع لغة ضمت ست عشرة قاعدة نحوية فقط، وليس فيها إلا صيغتين نحويتين؛ صيغة الرفع (الاسمية) وصيغة النصب (المفعولية)، ولا تحوي أي قاعدة استثنائية أو شاذة، نبرُها على المقطع الأخير دائماً ومتن ألفاظها من الشريحة العالمية، مثل ideo، telegrafo، revolucio، masino. وقد جمعت هذه اللغة ألفاظها من أكثر لغات العالم تداولاً وانتشاراً. واشتقاقُ الكلمات فيها بسيط وسهل ويؤدي أغراضه مثل patro (أب)، patrino (أم)، lerni (معلم)، lernejo (مدرسة). ولم تكن الإسبِرانتو لغة مغلقة بل مفتوحة أمام المنحوتات اللغوية الجديدة neologism، وعلى الدخيل المقترض والمستعار. وانطلاقاً من لغات طبيعية عدة راحت الإسبِرانتو تطور منظومة دلالاتها ومعانيها المجازية ومترادفاتها وتراكيبها واصطلاحاتها.
كان زامينهوف أول من بدأ هذه الخطوات، بعد أن صاغها ونشرها في كتيب صدر عام 1887، لتكون تجربة لغوية فريدة انتشرت وتوسعت يستعملها مئات الألوف في عشرات البلدان، وتأسست لها أكاديمية خاصة بها تغْنيها وتحقق وحدتها سميت «أكاديمية الإسبِرانتو».
أخذت لغة الإسبِرانتو تسميتها من الاسم المستعار لمؤسسها Esperanto، وتعني «المفعم أملاً»، ومازال اللسانيون وعلماء الاجتماع ينظرون إليها نظرات متباينة في إمكان جعل اللغة الاصطناعية أداة تواصل وإبداع، لكن أتباع هذه اللغة يغنون أغانيهم ويكتبون قصصهم وقصائدهم ويترجمون إلى الإسبِرانتو أهم الإبداعات العالمية مثل حكايات «إيسوب» الإغريقية، و«هملت» لشكسبير، و«المفتش» لغوغول. ما تزال الإسبِرانتو تخطو خطواتها ببطء، لكنها تراكم تجربتها وتعقد سنوياً مؤتمرها السنوي وتفتح نواديها في شتى بقاع العالم، وتصدر مجلتها الدورية Paco (السلام).