كثيرون منا يعرفون جبران خليل جبران بكتاباته الأدبية التي نالت شهرة عالمية في الشرق والغرب وعلى رأسها كتاب "النبي" الذي ترجم إلى أكثر من خمسين لغة؛ لكن من الصعب أن تجد من يمكنه أن يتعرف بسهولة على لوحة من لوحات جبران خليل جبران، بالرغم من أنه بدأ حياته رساما واستمر في الرسم حتى آخر حياته، وترك أكثر من 700 عمل فني، تنوعت ما بين رسوم ولوحات بالألوان المائية، أعيد معظمها إلى لبنان بعد وفاته، واحتفظت "ماري هاسكل" بأربع وثمانين لوحة افتتحت بهم متحفا في ولاية جورجيا الأميركية.(1)
ظهرت موهبة جبران الطفل مبكرا، فعندما كره المدرسة، عبر عن ذلك من خلال الرسم، فكان يرسم بالفحم على جدران البيت أشكالا لا يفهم منها والده شيئا، لكنه يرسم ما لا يستطيع أن يقوله أو يكتبه، يصور على الحائط ما تجول به روحه، وعندما هاجرت العائلة إلى بوسطن، كان الطفل الموهوب محظوظا، فلقد شعرت مدرّسة الرسم في المدرسة بموهبته، لتوصله بفنان يدعى "ماجر"، فكان جبران حريصا على الذهاب إلى مرسمه بانتظام لكي يتعلم من خبرته وفنه،(2) تقول "أليس رافائيل":
"تقف أعمال جبران في الحدود بين الشرق والغرب، بين الرمزية والمثالية، أسلوب الفنان جذاب، يرسم كما يكتب، ويكتب بالبصر كما لو كان يرسم، كيف يسعه أن ينكر الرسم الذي يسكنه منذ الطفولة؟"؛ وبالرغم من أنه استمر في ممارسة الرسم طوال حياته وكان له أسلوبه المميز الذي لازم جميع أعماله تقريبا، فإنه كان عصاميا، ولم يتبع برنامج تعلم منهجي أو أكاديمي كامل ولم يحصل على أي شهادة، بالرغم من التحاقه لوقت قصير بأكاديمية جوليان بباريس التي سرعان ما شعر بالضجر وانعدام الفائدة منها فتركها وحاول أن يعلم نفسه بنفسه.. "كان كالطير ينقر أينما كان يحلو له ذلك، ليحلق بعدئذ نحو ذرى عالمه الروحي والحالم".(3)
ماري هاكسل.. رعاية وحب بلا شروط
لوحة رسمها جبران خليل جبران لعائلته (مواقع التواصل)
في أحد الأيام كان جبران يجلس في معرض أقامه متألما بسبب عدم إقبال الجمهور على شراء لوحاته، وفي أثناء ذلك دخلت سيدة أخذت تتفحص الصور واحدة تلو الأخرى، وعندما لاحظ جبران اهتمامها الشديد، سألها إن كان ثمة ما يخفى عليها، فأجابت: لا أكذبك، إني في حاجة إلى من يشرح الكثير من هذه الصور الغريبة، وما أحب إلي وأنا من المولعات بالفن أن أعرف ما خفي علي منها، ترى من هو مصورها؟ فأشار جبران إلى نفسه فتقدمت إليه تعرفه باسمها.. وأخذت تسائله عن لوحاته صورة صورة، وبدأت تقول وهي تشير بإصبعها إلى اللوحات:
ماذا تقول هذه اللوحة؟ لقد ذهلت لاجتماع تلك الأجساد العارية والأسى والحزن باد على وجوهها، وكأن قوة خفية تدفعها إلى أعلى ثم تهوي بها إلى أسفل، ثم إذا هي قد شتت ما بينها وكأنها ماء نافورة ارتفع في الهواء ثم ما لبث أن عاد فانتثر على أرض الحوض قطرات، دهش جبران من رؤيتها وقال لها: لست إذاً في حاجة إلى تفسير، فما أردت بهذه الصورة غير أن أصور نافورة الألم.(4)
ومنذ لقائه بماري وهي تمده بالرعاية والدعم، فأرسلته إلى باريس لتعلم الرسم، ووفرت له راتبا يعادل 2000 دولار في يومنا هذا، وكان جبران يكتب عن هاسكل قائلا: "إنها ملاك يهديني إلى مستقبل مشرق، يشق لي طريق النجاح الفكري والمادي على حد سواء... إن اليوم الذي سأقول فيه: لقد أصبحت فنانا بفضل ماري هاسكل قادم لا محالة "، ربما كان ذهابه إلى باريس هو الحدث الأهم في حياته، والذي لم يكن ليحدث لولا وجود ماري؛(5) يقول ثروت عكاشة: "لولا أن ماري دخلت حياة جبران، ما كنا ندري هل يستطيع هذا الفنان العربي المهاجر أن يجد الوسيلة التي يخاطب بها قوما غير قومه بلسان غير لسانه؟".
"كل ما هو في محرفي من رسوم وصور أوصي به بعد مماتي لمسز ماري هاسكل مينس.. لكني أرغب إليها إن أرادت أن ترسل بعض هذه الأعمال إلى بلدتي"
(جبران)
هل الجسد مرآة للروح؟
لوحة أربعة وجوه، ماري هاسكل كما رآها جبران جبران (مواقع التواصل)
معظم لوحات جبران تصور أجسادا عارية، لكنه لم يكن يرسم العري بالمعنى المعروف، لم يرسم رجلا أو امرأة بل الجسد البشري عاريا ذلك العري الذي يشبه أجساد الملائكة العارية في اللوحات الكنسية الدينية القديمة، جسدا يتوق للسمو؛ فكانت تلك الأجساد محاطة بطبيعة روحانية مكثفة، وعندما سألته ماري هاسكل عن السبب وراء انتشار الأجساد العارية في لوحاته؛ أجاب: "لأن الحياة خلقت عارية والجسم العاري هو أصدق تعبير عن الحياة، فإذا ما رأيتني أرسم شيئا ما جبلا أو شلالا أو غير ذلك في صورة أجساد عارية، فإنما أعني أني أرى كل شيء من هذا جزءا من الحياة العارية". ودائما ما يصور أجساده ترمز إلى الألم والموت، وكان يرى أن الموت والألم هما ما خرج بهما إلى الدنيا وظلا يلازمانه.(2)
وكان جبران يعتبر الرسم فعلا لا إراديا عكس الكتابة التي لا تخرج إلا بإرادة ووعي شديد، لكنه اعتبر الفن يقظة اللاوعي، يقول: "عندما أعكف على الرسم وأنتج شيئا جيدا قليلا أو يستحق التقدير يجيء ذلك على غير وعي مني، وأنا على خلاف ذلك في كتاباتي، فأنا أعرف عما أكتب، في حين أنني أجهل لم أرسم أو أصور"، ومع ذلك فإن شخصية جبران الأدبية أثرت بالطبع على فنه، وعكست لوحاته آراءه في الحياة والوجود ومواقفه من الله ويسوع والمرأة وقضايا الثورة والتغيير والحريات.(6)
وكان جبران يرى أن الفن ليس تقليدا للطبيعة، لأن الطبيعة وفق ما يعتقد أسمى من أن تقلد، فهو يرى أن الفن مهما بلغ من السمو، لا يستطيع أن ينجز واحدة من أعاجيب الطبيعة، ثم ما الفائدة من تقليد الطبيعة التي يشعر بها كل من لديه حس؟ "يقوم الفن بالأحرى على فهم الطبيعة ونقل فهمنا لها إلى أولئك الذين يجهلونها، مهمة الفن هي استخلاص روح الشجرة وليس رسم جذع أو أغضان وأشجار تشبه شجرة.. "(3)، وظل جبران في لوحاته متحررا من رسم الشخصيات والوجوه بسمات محددة، فقد كان يحاول أن يرسم الوجوه كما يراها من وحيه الداخلي، فكان يرسم الوجوه بأشكال هيولية شعرية وسحرية، وكان يصور انفعالاته هو على شكل وجوه بشرية، وأفكاره يرسمها في صورة أجساد.(6)
"إني أعرف أن في نتاجي شيئا هو غريب في الفن وجديد ولو أني لم أعرف ذلك لكنت قذفت بعيدا بفرشاتي وألواني"
(جبران)
ملهمو جبران
عندما ذهب جبران إلى باريس أعجب كثيرا بالنحات الفرنسي رودان الذي كان يتردد على محترفه، ليس بفنه فقط لكنه سحر بشخصيته أيضا، وكتب لماري هاكسل كثيرا يعبر عن إعجابه قائلا: "إن هناك جانبين لعبقرية رودان؛ الجمال الرائع والغرابة القوية" وكان يرى أن تمثالي آدم وحواء لرودان يمثلان كل ما في جحيم دانتي من أفكار جبارة، وفي رسالة أخرى كتب: "افتتح منذ أيام صالوناً من الصالونات العظيمة، وذهبت بالطبع ورودان العظيم كان هناك، وعرفني وحادثني عن نتاج نحات روسي قال: إن هذا الرجل يفهم جمال الشكل. إني مستعد لأن أعطي أي شيء لو أن ذلك الروسي سمع ما قاله المعلم العظيم عن أعماله، لكلمة من رودان لتعني الشيء الكثير بالنسبة إلى الفنان".(6)
لعل "وليم بليك" هو أكثر من تأثر به جبران في رؤيته الشعرية وأسلوبه في كتابته ورسمه، خصوصا في إقصائه لثنائية الروح والجسد فهو يرى أنهما شيء واحد؛ رمز للحقيقة الداخلية والخارجية، "فمن يرى ذاته يرى جوهر الحياة المجرد"، فكلاهما كانا شاعرا وكاتبا ورساما وكلاهما لديه تصور خاص عن الحياة والوجود والفن، وكلاهما كان يؤمن بالإلهام والرؤيا، وبالرغم من ذلك استطاع جبران أن يمنح أعماله طابعا متفردا.(7)
النبي
يرى البعض أن فن جبران تابع لأدبه وشارح له، أو معبر عنه، ففي كتابه "النبي"، وضع له اثني عشرة لوحة، عشرة منهم بالألوان المائية، وجعل الرسمة الأولى والأخيرة بالرصاص، في الرسمة الأولى "المصطفى"، "أول ما يستوقفك فيه وجهه، حيث العينان واسعتان، تبدوان كأنهما لا تنظران لشيء، لكنهما في الحقيقة تبصران ما هو أدق من الأشياء، وأقصى من مجال البصر، وفي الشفتين حزن عميق وهما تنأيان عن الشهوات وكل ما فيها من ضوضاء النزاع والغيرة.. وتغطي الوجه كله سحابة شفافة من الكآبة القصوى التي تكاد تلامس الفرح الأقصى"، أما باقي اللوحات الموزعة في الكتاب فقد جاءت تعليقا على مضمونه.(8)
لاقت حياة جبران وأعماله الكثير من الاهتمام والتحليل، ربما لخصوصيته كفنان متعدد المواهب وأيضا بسبب علاقاته النسائية العديدة التي أثارت حوله الكثير من الحكايات والجدل، توفي عام 1933 في أميركا بعد مرض لم يمهله الكثير، فنقلت أخته ماريا رفاته إلى لبنان وأقيم له ضريح تحت دير مارسركيس وكتب على البوابة بحروف متوهجة:
أيتها الوحدة المغبوطة
أيتها الغبطة الوحيدة
هنا يرقد جبران النبي