كان يتسكع بين حانات باريس بجسد نحيل وروح باهتة. يُمضي أيام الفقر والعوز بشق الأنفس. يسير في طُرق مجهولة لا يعرف نهاية لها. يتطلع نحو المستقبل فلا يجد غير العجز والضياع. هو فقط يمشي ويمشي، هائمًا على وجهه، إلى ما لا نهاية.
تمر الأيام والشهور والسنون، ولا أحد يعترف به كفنان. وهو لا يستطيع أن يترك الفن يمضي إلى سبيله ويمتهن مهنة أخرى. فيظل رغم كل تلك العتمة صامدًا. والأهم، أنه ينحت من غبار أيامه العجاف ما سيصير لاحقًا منحوتات عالمية. كان اسمه جياكوميتي، ألبرتو جياكوميتي، كان من سويسرا في الأصل، ثم انتقل لباريس، كان مهمشًا ومهشما، اجتماعيا وعاطفيا ونفسيا وعلى كافة المستويات. يتآكل من الداخل يوما بعد يوم وكأنه يصدأ. وكأن روحه هي التي تصدأ وتتآكل.[1]
في عام 1948، كتب الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر مقالا بعنوان "البحث عن المطلق"، يشرح فيه كيف كانت عملية "صناعة الفن / making art" مؤلمة نفسيًّا للغاية / so psychologically painful" بالنسبة لجياكوميتي.[2] قضى جياكوميتي (1901 - 1966) في مشغله الباريسي ما يناهز الأربعين سنة. يعيش ويعمل في استديو يملأه الجص. ومن وقت لآخر، يعرض منحوتات أقرب للأشباح، مشوهه لكن قريبة الشبه به، بل ربما تلك المنحوتات هو ذاته.[3] هذا الفنان الذي يشبه أعماله، أو تشبهه أعماله، يتحدث عن إحساسه بالضياع حين نهشه العوز قائلا عن منحوتته الشهيرة "الكلب / 1951": "هذا أنا، رأيت نفسي ذات يوم أتسكع في الشوارع."[4]
ألبرتو جياكوميتي ، الكلب ، ١٩٥١ (مواقع التواصل)
كالكلب! هكذا نحت جياكوميتي نفسه، نحيلا وضالا، ليس نفسه فقط، بل نحن جميعا. نحت أزمة الإنسان المُعاصر "الإحساس بالهشاشة والضياع". كلبٌ ضال، كأنّه هيكل عظمي، يهيم على وجهه.
القدرات المذهلة والسحرية للفوضى
في مقدمة مقالها في صحيفة الجارديان، على حافة الجنون: فزع وعبقرية ألبرتو جياكوميتي، تقول الناقدة الفنية لارا فيجيل: "في عام 1957، وصف الكاتب جان جينيه مشغل صديقه ألبرتو جياكوميتي، بأنه عبارة عن مستنقع حليب ومستودع مكتظ وخندق حقيقي. كان هناك جصّ فوق الأرضية وفي كل أنحاء الواجهة، في شعر النحات وملابسه. كانت هناك قصاصات من الورق ولطخات من الصبغ على كل سطح متاح. انظر إلى القدرات المذهلة السحرية للفوضى."[5]
ألبرتو جياكوميتي في الاستوديو (مواقع التواصل)
اعتمد جياكوميتي في معظم أعماله على مادة الجص فصار مشغله أقرب لمستنقع من الحليب. بيد أن الجص يتحول على يده لإنسان، إنسان يحمل بعدا ميتافيزيقيا واضحا، أشكال موغلة في الضعف والنحافة، إنسان موغل في الغياب. تلك المنحوتات التي تستطيل وتعانق الفضاء تترك الرائي مُحملا بثقل تساؤلات عدة، على رأسها: "أليس هذا أنا؟"
"إننا نثار أمام كل تمثال يقدمه هذا الفنان، لأنه يوقظ فينا شيئًا بدائيًا عنيفًا، لا نفهمه في وضوح، لكننا نحب الاستسلام إليه؛ ولذلك فإننا نقترب من تماثيل جياكوميتي لا لكي نرى تفاصيلها أو نفهمها، بل لكي نجد فيها ملجأ مستقرًا لهذا الشيء العنيف."[6]
(سارتر، البحث عن المُطلق)
تعكس منحوتات جياكوميتي عالمه الذي حاول تمثيله بوضوح. عالم تظهر فيه النفس البشرية هشة ومفككة في عالم لا يتوقف من أجل أحد. وبأجساد عارية تمامًا، يصور جياكوميتي فلسفته الوجودية حول إنسان القرن العشرين حاملا همومه في عالم لا طائل من ورائه.
جماليات التشوه والاستخدام المُغاير للفراغ
في منحوتته "ساحة المدينة"، 1948، يظهر أربعة رجال وامرأة بأحجام هزلية، ورغم قربهم الشديد من بعضهم البعض لكن غير قادرين على التواصل أو لا يرغبون في التواصل، كلٌ منهم يعيش في عزلته وحيدًا.
ويورد النقادان، فريدريك وماري آن بروسات، في مقالهم "ترانيم على المنحوتة التي تكشف عن العزلة والضعف والنفس البشرية الغير قابلة للتلف"، ما معناه: "نحن نؤثر رؤية هؤلاء الخمسة كنفوس معطوبة تشهد على الروح البشرية الغير قابلة للتلف - حتى على حافة الهاوية".[7]
ألبرتو جياكوميتي ، ساحة المدينة ، 1948 (مواقع التواصل)
عملٌ آخر، ويُعدّ الأشهر لجياكوميتي، هو "رجلٌ يمشي / The Walking Man"، 1960، بارتفاع ست أقدام، وهو عبارة عن منحوتة لرجل طويل الساقين، بشكل يجعلهما غير قابلتين للانثناء، يمشي لكنه لا يتقدم على الإطلاق. في المنحوتة انعكاس لهواجس جياكوميتي عن المعاناة. ليس فقط الفترة التي أنهكه فيها التسكع في حانات باريس، بل هاجس المصير المجهول والغاية المعتمة التي تنتظر الوجود البشري ككل؛ كل هذا في حركة توحي بالسير والتوقف في آن.
المنحوتة أتت بعد عامين من منحوتة أخرى تحمل اسم "ثلاثة رجال يمشون / Three Walking Men"، 1948، عن ثلاثة رجال كلٌ منهم يمضي في اتجاه مختلف عن الآخر. وبنفس الفلسفة التي قدمها في "ساحة المدينة"، تحمل منحوتات جياكوميتي إحساس بالاغتراب والهشاشة لا يخطئه الرائي.
يرى العديد من النُقاد أن هناك استعارات واضحة لإشكاليات ما بعد الحرب في منحوتات جياكوميتي بشكل واضح. فالكساد العظيم والمحرقة ومعسكرات الاعتقال والتجويع والقتل العمد كل ذلك تنطق به منحوتاته الصامتة.[8] وهي نفسها المنحوتات التي تعكس المبادئ الرئيسية للوجودية وفقًا لروي بوين، أستاذ علم الاجتماع في جامعة درهام في إنجلترا. توحي الوجودية بأنه ليس هناك معنى كبير في الحياة؛ ليس هناك علة أو سبب لماذا تسير الأمور على هذا النحو أو ذاك. فالعالم ككل بلا معنى وغير عقلاني.[9]
حالة القلق الوجودي تلك هي ما تقف عليه منحوتات جياكوميتي. بل أن ذاك التشوه والضياع الذي عصف به في أزمته الوجودية صار له جمالية متفردة قادرة على تمثيل مأزقنا الوجودي تمثيلا ملموسًا ومنحوتًا أمام أعينا.[10]
"إن عمل جياكوميتي يجعلني أيضاً أجد عالمنا لا يحتمل أكثر من ذي قبل. ويظهر أن هذا الفنان قد عرف كيف يزيح ما كان يضايق نظرته ليكتشف ما سيبقى من الإنسان عندما ستتنحى الأعذار الكاذبة، ...، فكل عمله يبدو لي كبحث، لا يتناول الإنسان وحسب، بل يمتد أيضاً إلى أي شيء، وإلى أتفه الأشياء، وعندما نجح جياكوميتي في أن يفصل الشيء أو الإنسان عن أعذاره الكاذبة النفعية، فإن الصورة التي قدمها لنا جاءت رائعة"[11].
(جان جينيه)
ويرى الروائي والناقد الفني والمُنظّر الفرنسي، جان جينيه، 1910 - 1986، في كتابه "أتيليه ألبرتو جياكوميتي" الصادر عام 1958، أن الفراغ حول منحوتات جياكوميتي "فراغ متذبذب" لا مساحة فيه للراحة. فنحن نرى في استديو جياكوميتي الإنسان يستهلك نفسه أمام أعيننا ويموت ببطء.[12]
نفس الفكرة عن الاستخدام المُغاير للفضاء يطرحها سارتر، في مقال "البحث عن المطلق"، حين يقول ما معناه: "استخدام جياكوميتي للفراغ غريب - بمعنى أنّه مهما اقتربت فعليا من المنحوتات، تبدو هي بعيدة دائمًا، يصعُب الوصول إليها."[13]
كان يحتسي شرابه مع سارتر، ويمزح ساخرًا مع بيكاسو، ويتجول صامتًا مع صماويل بيكيت، ويجري مهرولا من شخص لآخر ومن مكان لآخر. لا لشيء، إلا لأنه لا يجد لنفسه وجهه ينطلق لها، فكانت هرولته في جوهرها تداعي حر لرجل لا يعرف إلى أين يذهب.
في منحوتة "رجل يجري"، 1960، قدم جياكوميتي رجل من المفترض أنه يجري إلا أنه في هيئته أقرب للسقوط من على القاعدة. نحيلٌ مثل خيط، يميل ذاك الشخص بجسده وكأنه ينوء تحت حمل ثقيل.
الشاهد، منحوتات جياكوميتي تغير من نظرتنا للإنسان، فأشكالها وأحجامها المُغايرة للواقع، تجعلنا نرى أنفسنا بشكل أعمق، وفقا للناقد الفني ديفيد سيلفستر. ونعم ربما كانت معظم التماثيل متشابهة، فهي في النهاية نسخ مُتعددة من العمل الأصلي "مأساة الوجود الإنساني".[14]