في الجزء الثاني والأخير من سيرتها الذاتية، اختارت رضوى عاشور (1946- 2014) لغلاف الكتاب لوحة "الصرخة" الشهيرة التي رسمها إدفارد مونش، وهو نفس الاسم الذي اختارته عنوانا للكتاب. تروي الكاتبة في هذا الجزء تجربة مرضها وخضوعها للعمليات الجراحية والعلاج، بالتوازي مع ما كان يجري في مصر من أحداث بين عامي 2010 و2013. بدأت رضوى عاشور مدخل كتابها بالنص الذي كتبه إدفارد مونش في يومياته يصف فيه العناصر التي أوحت له بهذه اللوحة، تقول: "كتب الرجل في يومياته:
"كنت أسير في الطريق برفقة صديقين عندما غربت الشمس. فجأة، غدت السماء حمراء، لها لون الدم. توقفت وملت على السور وقد غلبني إرهاق لا يوصف. كانت ألسنة اللهب والدم تمتد على الزرقة المسودة لمياه الخليج. واصل صاحباي السير وبقيت واقفا أرتجف من شدة الخوف.. ثم سمعت صرخة الطبيعة هائلة وبلا نهاية". وبعد تحليل مفصل للوحة كانت ترى أن هذه اللوحة تتجاوز الظرف الشخصي الذي عايشه الفنان، "لتجسد تجربة دالة لشخص مفرد ينتبه فجأة إلى رهبة الوجود ووحشته وتوحشه فيرتجف هلعا وهو يلتقط صرخته ويرددها".(1)
ومنحت رضوى عاشور الفصل السادس من الكتاب اسم "الصرخة" وهو الفصل الذي روت خلاله تلقيها خبر فض اعتصام ميدان رابعة بالقوة وما تلته من أحداث، خصوصا وأنه بسبب مرضها لم يخبرها من حولها بما كان يحدث إلا بعد ستة أشهر، إذ كانت في نفس ذلك الوقت تخضع لجراحة في المستشفى، تعقدت بعدها حالتها ودخلت في غيبوبة ووضعت على جهاز تنفس صناعي. سجلت رضوى تجربتها مع المرض"أسوأ ما في المرض أنه يربك ثقتك بنفسك فيتسرب إليك الخوف من أنك لا تصلح ولن تستطيع"، وتجربتها مع الموت الذي وصل ذروة ألمها وحزنها المركب مع جنازة الحسيني أبو ضيف المصور الذي سقط شهيدا أمام قصر الاتحادية، "أجاهد في لجم دموعي ولكنى حين تحركت السيارة -تحمل الشهيد- انتحيت جانبا من الرصيف وانتحبت ثم مسحت دموعي ومشيت ببطء مع مريد وتميم".(2)
المرض والجنون والموت..أشباح تطارد مونش
تميل المجتمعات لرسم صور معينة عن المبدعين، في الغالب تكون هذه الصور "غير طبيعية"، من ضمنها الصورة التي تربط الفنان أو المبدع (بالوحدة والعذاب والجنون)، وهذه الصورة هي الأكثر ثباتا في الخيال الحديث. ويرجع الأساس الحديث لهذه الصورة النمطية إلى فنسنت فان جوخ، لكن لم يرسخها أحد كما فعل الفنان النرويجي إدفارد مونش (1863- 1944). بدأت معاناة مونش منذ طفولته، عندما ماتت والدته وأخته بمرض السل، وقد شهد موتهما ولم يتمكن من تجاوز ما شاهده على مدار حياته. كان والده طبيبا عسكريا صارما لديه إيمان ديني متشدد، فأخضع مونش لتربية قاسية وقلل من قيمة موهبة الفنية، لكن عمته شجعته ورعت موهبته.(3)
وفي شبابه تعرض مونش للكثير من خيبات الأمل في الحب، كما عانى من عدد مختلف من الأمراض، منها الروماتيزم والانفعال الشديد والحمى والأرق، والتي جعلته يعاني من مزاج سوداوي حزين وأصبح لديه شعور دائم بمطاردة الموت له. وظهرت هذه الأشباح في معظم لوحاته التي على رأسها لوحة "الصرخة" بنسخها المختلفة. وكانت الأسماء التي أطلقها على لوحاته تعكس هذه الأفكار بشكل متكرر، فقد حملت لوحاته أسماء موحية مثل، (الفتى المريض)، (موكب الدفن)، (موت في غرفة المرض)، (كآبة)، (يأس)، (صراع الموت)، (العذراء والموت)، (قصة الموت) وغيرها. وقد رسم من بعض هذه اللوحات الكثير من النسخ في شكل سلسلة على مدار سنوات، كأن هذه الصور كنت تطارده وكان يحاول التخلص منها بالرسم.(4)
رسم مونش مشهد مرض شقيقته الكبرى صوفي في ست لوحات مختلفة خلال أربعين عاما، لقد كان يعود باستمرار لهذا الحدث المؤلم. يرسم صوفي في كل مرة مستلقية على فراش الموت وخلفها وسادة بيضاء كبيرة وإلى جوارها امرأة حزينة، ملامح صوفي يظهر عليها الألم والضعف، تنحني المرأة الحزينة في ألم والتي يتوقع أنها عمة مونش، ولا تستطيع النظر للفتاة المريضة في عينها، بينما تتطلع الفتاة للستارة باتجاه النافذة. خلال مسيرته كانت عودته لهذه اللوحة تعكس شعوره بالقنوط والإحباط وكذلك إحساسه بالذنب، لأنه هو نجا من المرض الذي قتل أخته وأمه. وقد وصف البعض هذه السلسلة بأنها دراسة حية لمراحل للتدهور الذي يسببه المرض.(5)
إدفارد مونش ،الطفل المريض 1896 (مواقع التواصل)
يرى د.نعيم عطية أننا إذا تأملنا لوحات مونش بشكل عام سنجد خطوط ثقيلة غير متكسرة، ترتفع إلى أعلى في أقواس مكتسحة لكنها لا تلبث أن تنحدر نازلة بقوة لا تقاوم كما لو أنها تنجذب لأسفل من فرط ثقلها. ويكتب: "وتبدو شخوصه منحنية في استرخاء وانشغال بال، واستسلام لا يخلو من التحفز، حتى في مناظر الرقص حيث يتوقع المرء عادة المرح والحبور". كما يرى أن فنه يخلط بين لا واقعية الحلم والواقع الذي يتمثل في طبيعة تثير في النفوس الرهبة والمهابة.(6)
لقد عاش مونش عذاب تجربة المرض، وأبدع بالرغم من المرض والألم، وكان فنانا من أولئك الذين يعبر فنهم عن لحظة تحول تاريخية، إذ تأثر كثيرا بفلسفة نيتشه والتحليل النفسي، وكان مونش يميل لمدرسة كارل يونغ في التحليل النفسي. ربما لهذا السبب تركز لوحاته على الحالة الداخلية للإنسان، إذ تعتبر أعماله تحليلا نفسيا لحالات مختلفة للعالم الداخلي الذي كان يعيشه مونش والذي يمكننا أن نجد فيه أيضا ما يشبهنا. وقد رسم مونش سلسة أخرى بعنوان سوداوية أوحزن، يكرر خلالها رسم رجل يضع يده على خده، ويجلس على شاطئ البحر وتظهر على ملامحه علامات الكآبة والحزن. استوحى مونش هذه اللوحة من علاقة رومانسية غير سعيدة لأحد أصدقائه.
إدفارد مونش، سوداوية 1894 (مواقع التواصل)
لوحات تساعد الأطباء في التعامل مع المرضى
تقدم لوحات مونش وفنانين آخرين لخريجي كلية الطب والأشخاص المهتمين بتقديم الدعم للمرضى بشكل عام، كي تساعدهم على فهم أفضل لحالة المريض النفسية وكيف يمكن إظهار التفهم والتعاطف بما يناسب كل مريض بدون إخلال بالقيم الاحترافية للعمل. كما أن الطب ليس عملا مهنيا فقط بل إنه يتضمن شقّا إنسانيا يجب من خلاله تقديم الرعاية والمواساة للمريض بشكل احترافي، خصوصا أن هذه المشاعر الجيدة تساهم في تحسين صحة المريض. ومن خلال المراقبة والتأمل الدقيق للوحاته الفنية التي تتناول موضوعات كالمرض أو الموت بما تحمله من نزعة إنسانية متعاطفة، ينمي الأطباء والمسؤولين عن رعاية المرضى قدرة أكثر حساسية بالاحتياجات الإنسانية للشخص المريض وبالطبيعة البشرية بشكل عام.(10)
واستخدمت لوحة الأم الميتة لمونش في مساق إلكتروني يهتم بتعليم الطلاب كيف يستخدمون الفن في تنمية قدرتهم على الملاحظة والتشخيص وتقديم الرعاية للمرضى. إذ يتبنى هذا المساق الأدلة المتزايدة التي تشير إلى أن التأمل في الفن قد يعزز مهارات الملاحظة، والقدرة على التعاطف والتراحم، وتعزيز مهارات التواصل. كما تشير الأبحاث الحديثة التي تستكشف العلاقة بين الفن والنتائج السريرية إلى أن عرض وتحليل وبحث الأعمال الفنية قد يحسن قدرات التشخيص لدى الأطباء ومقدمي الرعاية ويعطي نتائج سريرية أفضل للمرضى.(11)
إدفارد مونش، الطفل 1899 (مواقع التواصل)
قلق الحياة الحديثة
يقول مونش مسترجعا ذكريات صباه: "لقد شعرت على الدوام أنني أعامل معاملة غير عادلة، كنت يتيما مريضا ومهددا بأن ألقى أشد صنوف العذاب في الجحيم وأسوأ مصير في الآخرة". كما لم يكن بينه وبين الحب علاقة معمرة، إذ كان الحب يبدو له قوة فظيعة مدمرة، وقد كانت المرأة في نظره تمثل الغول الذي ينتصر في عالم سترنبرج على الرجل تحديدا في مسرحية الأب. وعاش مونش حياته يتخبط بين معارضه الفنية التي كانت تثير صخب الجماهير والنقاد بسبب "هلوساتها المحمومة المريضة". يكتب د.نعيم عطية قائلا:
"إن المرض الذي يفترس شخوص مونش ذات الوجوه التي يعلوها الشحوب، والهزال، تبدو جماجمها تحت الجلود الممتقعة، إنما يأذن بمقدم الموت. ثم كانت فكرة الفراق التى سرت بدورها في لوحاته، ترديدا جميلا لفكرة الموت الأصيلة، الموت الذي لا يغيب لحظة عن ذهنه المؤرق، وفنه الذي تتجاوب بين أرجائه أصداء الصرخة الحزينة"وقد رأى الكثير من معارفه نوبات الرعب الرهيبة التي كانت تباغته فجأة وتشله لدرجة تحول بينه وبين اجتياز الشارع.(7)
وبالرغم من ذلك لم تكن لوحات مونش تعبر عن قلقه وذعره وحده كما في لوحة الصرخة والعديد من لوحاته الأخرى، إنما كثيرا ما صور مونش قلق المجتمع الذي كان يرى أنه أصاب الجميع كما في لوحته المسماة "قلق" التي تصور مجموعة من الوجوه الشاحبة المذعورة. لقد عايش مونش الحرب العالمية، كما أنه ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بدأت وتيرة الحياة تتغير كثيرا، مع تقدم النظريات العلمية وتطور التقنيات الصناعية، وكان الفنانون يحاولون استكشاف وسبر أغوار المدن الكبيرة فعبروا عنها بأشكال مسخية تهكمية بوصفها تمثل المشهد الاصطناعي المضاد للطبيعة الحية. فعبر مونش في الكثير من لوحاته عن الأفراد الذين يسحقهم المجتمع ثم يتركهم ليواجهوا مصيرهم. لقد كان متعاطفا مع العمال وصورهم أثناء عملهم المجهد في سلسلة من اللوحات كما كان يكرر تلك الأفكار التي لم تكن تفارق عقله.(8)
إدفارد مونش، العمال عائدون لمنازلهم 1913- 1914 (مواقع التواصل)
بالرغم مما كان يعانيه مونش من مشكلات صحية ونفسية وتعقد في علاقاته الاجتماعية إلا أنه لم يتوقف عن العمل أو عن الفعل، لقد كان واحدا من أنشط الفنانين في تنظيم المعارض الشخصية لأعماله، كما استمر في الرسم بلا توقف وباستمرار وإصرار، فهو لم يبدع لأنه مريض كما هو شائع لدى معظم الناس عن المبدعين، بل أبدع أعماله بالرغم من مرضه وإحباطاته. لقد كان عمله مقاومة للاغتراب والعبث والخواء واللاجدوى، مقاومة بما يستطيع فعله، بالفن والإبداع وانتصار على كل تلك الأشباح التي كانت تطارده لكي تسلبه الحيوية والحياة.(9)