ربعة طوابق، لم يتسع له، فحصل على وحدة تخزين قريبة منه بالإضافة إلى بيته، حيث يجمع القمامة والمهملات التي يتخلص منها الآخرون، حتى عُرف وسط العامة بأنه منافس الجرذان في الوصول إلى القمامة.[1] وبوصفه "رجل القمامة" صار ذاك الشاب التشيكي الفقير، الذي أتى إلى الولايات المتحدة مُهاجرا مع أبويه، واحدا من أكثر الرموز الفنيّة شهرة وتأثيرا في القرن العشرين. كان غامضا وعبقريا، ومهتما بالقمامة، مهتما لدرجة أنه استطاع تحويلها إلى أعمال فنية تحمل دلالات وتفاسير فلسفية تلخّص حال إنسان القرن العشرين.[2]
هذا هو آندي وارهول، الرجل الذي يستطيع تحويل سلة المهملات إلى عمل فني. فما عليك سوى أن تناوله سلة تحتوي على بعض عبوات المعلبات الفارغة، أو طوابع مضى عليها الزمن، أو أوراق بالية ومجعدة، ليحولها إلى عمل ذي قيمة ومعنى.[3] ومن القمامة، بدأت أسطورة وارهول الثقافية كواحد مِن أبرز فناني القرن العشرين، رسام "الفن الشعبي" (Pop Art)، الذي ابتكر سلسلة من أشهر الملصقات والصور المستوحاة من الثقافة الشعبية الأميركية، أو بالأحرى الثقافة الشعبية "الاستهلاكية" الأميركية.
"الاستهلاك أكثر أميركانية من التفكير، وأنا أميركي"[4]
- (آندي وارهول)
كان آندي الطفل الثالث لأبوين مهاجرين من تشيكوسلوفاكيا، ولد في حي للطبقة العاملة في بيتسبرغ. كان لديه أخوان أكبر منه جون وبول وارهول. كان آندي مُصابا بمرض عصبي يمنعه من مغادرة المنزل لفترات طويلة، فكانت أمه تحاول تعويضه بتنمية اهتماماته الفنية وذكائه الحاد.[5] اشترت له والدته أول كاميرا في سن التاسعة، فولع بها آندي وحاول تصوير كل ما تقع عليه عينه. اهتم كذلك بالرسم والتلوين، ثم اهتم بجمع صور المشاهير والوجوه الشعبية، بعد الهجرة إلى الولايات المتحدة، حوّل سريره حتى صارت غرفته أشبه بألبوم صور.[6]
آندي وارهول (مواقع التواصل)
بعد الانتهاء من المدرسة الثانوية، التحق آندي وارهول بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا، حيث تخصص في "التصميم التصويري الحي" (pictorial design)، وهو ما ساعده على اكتشاف أساليب جديدة في خطوط الطباعة والتي صارت سمة مميزة لرسوماته فيما بعد.[7] وبعد تخرجه من الكلية في عام 1949، سرعان ما أصبح وارهول مشهورا باستخدام هذه الطريقة في العديد من الإعلانات التجارية. وشملت أعماله إعلانات الأحذية وبطاقات عيد الميلاد والعديد من الرسوم التوضيحية للكتب.[8]
في أوائل 1950، اختصر آندي اسمه من "وارهولا" (Warhola) إلى "وارهول" (Warhol)، وقرر أن يُصدّر نفسه للجمهور كفنان جاد ذي خبرة في الفن التجاري، وساعده في ذلك انغماسه في الثقافة الشعبية الأميركية.[9] وفي عام 1952، قدم آندي أول معرض فردي له في نيويورك، في متحف الفن الحديث، ثم قدم أول معرض جماعي في عام 1956، ولفتت أعمال وارهول نظر العديد من الفنانين المعاصرين والناشئين بسبب خصوصية ما يقدمه.[10]
في عام 1960، بدأ وارهول باستخدام ورق ومنشورات الإعلانات وأغلفة الهدايا وتحويلها إلى أنماط أكثر تعبيرا عن مضمون الحياة الأميركية الاستهلاكية الحديثة. وقد بدت أعماله متأثرة بالتعبيرية التجريدية في كثير من الأحيان.[11]
"كيف يمكنك أن تقول إن مذهبا فنيا ما أفضل من الآخر؟ يجب أن تكون قادرا على أن تصبح رسّاما تعبيريا مجرّدا في غضون أسبوع، أو فنانا في البوب، أو حتى واقعيا، بتلك السرعة دون أن تشعر أنك قد خسرت شيئا. أعتقد أن ذاك سيكون أمرا عظيما، أن تتمكن من تغيير المذاهب بتلك السرعة. وسيكون هذا هو طبيعة المشهد الفني الجديد كله".[12]
- (رسّام البوب الأميركي آندي وارهول)
ومع ذلك، فإن الأعمال اللاحقة له، مثل صناديق بريلو (1946)، شهدت انقلابا واضحا على التعبيريّة التجريديّة (Abstract Expressionism)، ففي عام 1961، باشر وارهول في إقامة معارض فنية أطلق عليها "فن البوب"، والتي تعتمد على رسم أغلفة البضائع التجارية مثل الصابون والآيس كريم وغير ذلك.[13] واشتهر وارهول باستخدام تقنية حديثة في الرسم بدءا من ذاك الوقت، بحيث يستخدم جهازا لتكبير انعكاس الصور الفوتوغرافية على أقمشة معلقة على الجدران، ثم يباشر بطلاء القماش بدون تحديد العناصر بالقلم الرصاص، وهو ما جعل العمل أقرب إلى لوحة منه إلى تصميم جرافيكي.[14]
كيف صارت علبة الحساء عملا فنيا؟
"علب حساء كامبل"، 1962، على هذا الاسم اجتمعت أنظار عالم الفن في نيويورك منذ مطلع الستينيات. رسم وارهول علبة حساء بديلا للوحة تعبيرا عن النزعة الاستهلاكية التي سيطرت، ليس على المجتمع الأميركي فقط، بل على عالم الفن بأسره.
ووفقا لموقع "ذي آرت ستوري" (The Art Story): "كانت السلع الاستهلاكية والصور الإعلانية تغرق حياة الأميركيين مع ازدهار ذلك العصر، وقد شرع وارهول في إعادة إنشاء هذا الكم الهائل من خلال الصور الموجودة في الإعلانات، بحيث يعيد بناء تجربة وجوده في متجر مجهز جيدا. لذا، فإن وارهول له الفضل في تصوير نوع جديد من الفن الذي مجّد (كما انتقد) عادات الاستهلاك التي ظهرت منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا".[15]
مارلين مونوري الذهبية
يعتبر أحد أشهر أعمال وارهول هو تصويره لمارلين مونوري في عدة مطبوعات وتسمية مارلين باللون المُسيطر على الطبعة، مثلا مارلين مونوري الذهبية أو البرونزية أو الأرجوانية، وهكذا. وقد كان الغرض من تلك السلسلة تخليد ذكرى مارلين بعد موتها المفاجئ من جرعة زائدة من الحبوب المنومة في أغسطس/آب 1962.[16] وحسب وارهول، إن مونوري بعد أن أصبحت رمزا للثقافة الشعبية الأميركية، صارت كأي سلعة ملقاة على الرفوف في المتجر. فبعد وفاتها كان هناك هوس أميركي بصور مارلين والتي انتشرت في جميع الصحف والمجلات.[17]
وقد استخدم وارهول اللون الذهبي بشكل رمزي أقرب إلى الرموز الدينية البيزنطية لامرأة ارتقت سلم الشهرة وتوفيت في مأساة مروعة. ويُشير وارهول أن مونوري قد رُفعت إلى مستوى الآلهة، وفي ذلك تمجيد لمونوري وانتقاد لها في آن.[18]
مارلين مونوري الذهبية (مواقع التواصل)
إلى جانب الصور الشعبوية، ابتكر وارهول ما يقرب من 600 فيلم بين عامي 1963 و1976، يتراوح طولها بين بضع دقائق و24 ساعة. وقد جعلته تلك الصور المميزة التي اشتهر بها بجانب تلك الأفلام واحدا من أشهر فنانين البوب في القرن العشرين. وجمعت أعماله بين تمجيد الثقافة الاستهلاكية ونقدها في آن، وتلك الأعمال تُباع حاليا على قوائم أغلى الأعمال الفنية في العالم.[19]
توفي آندي وارهول في سن الثامنة والخمسين، عام 1986، إثر مضاعفات لعملية إزالة كيس مراري من المعدة، لتُغلق بذلك صفحة أيقونة فن البوب الذي خلدت أعماله ثقافة الاستهلاك الأميركية بشكل مشوّه للغاية.[20]