عندما بلغ الفنان الإسباني فرانسيسكو غويا (1746-1828) الثالثة والسبعين وكان قد أصابه الصمم جراء مرض خطير، قرر شراء منزل منعزل في قرية ريفية، كان هذا المنزل يسمى "منزل الرجل الأصم" ليعيش غويا سنواته الأخيرة في هذا البيت منعزلا تماما عن العالم. لكن يبدو أن أشباح الحرب الإسبانية الفرنسية وما عايشه من ذعر وأهوال أبت أن تتركه وحيدا في هذا المنزل، حيث رسم أربعة عشر لوحة على جدران البيت، لم يُكلف برسمهم، ولم يرسمهم ليراهم أحد، مما جعل تلك اللوحات لغزا محيرا في تاريخ الفن.
عندما اكتشفت هذه اللوحات سميت باللوحات السوداء، وهي عبارة عن رسوم جدارية تصور مسوخ وعمالقة وساحرات، في أجواء تعكس توترا نفسيا محموما وموحشا، يترك في نفس المشاهد رهبة واضطرابا يصعب وصفه، إذ تميزت هذه اللوحات بطابعها التشاؤمي المأساوي المظلم، ورموزها الكثيرة المجسدة للقلق والمخاوف الإنسانية، وقد عاش غويا وسط مخلوقاته الشبحية تلك حتى آخر حياته. فقد كانت حياته مرتعا للكثير من المعاناة، فقد توفيت زوجته وفقد أربعة من أولاده، وخسر مكانته كرسام للبلاط الملكي، وتألم كثيرا لما أصاب أصدقاؤه من عذاب النفي والتشرد، وحزن حزنا شديدا وزهد في الحياة، وانعزل عام 1819 في بيته الريفي في ضاحية مدريد.(1)
إحدى اللوحات السوداء الـ 14 وسميت فيما بعد "سبت الساحرات"
وكما تشهد أعمال غويا على مشاعر القلق الإنساني التي تولدها الحروب المتوحشة، فإن أعمال فنسنت فان جوخ (1853-1890) كانت تعكس بدقة ما يمكن أن تكون عليه نفس الإنسان القلق، الذي فقد إيمانه وأصبح ضائعا في متاهات من الأسئلة التي لا تنتهي، لقد كان يبحث بصبر كيف يمكن أن تعبر الألوان عن المشاعر الإنسانية القلقة، فكانت ألوانه في الكثير من الأحيان حادة وقاسية، تشبه صراخا يخرج من نفس حائرة تتمزق ألما.(2)
في لوحته "المقهى الليلي" نستطيع أن نشاهد بوضوح حدة وتباين الألوان التي نراها في درجات الأخضر الباهت والأخضر الناصع والأصفر ثم اللون الأحمر، اكتسبت الألوان في هذه اللوحة صفة بشرية، جعلتها تعبر عن حالة القلق التي امتزجت بعواطف الفنان، إذ يبدو أنه لم يعثر في الساعات التي يقضيها في المقهى إلى على الألم وخيبة الأمل.كما تعبر صور الأشياء في هذه اللوحة عن طبائع البشر وعواطفهم، إذ أن اهتزازات ضوء اللمبة الذهبي المتوهج، يعد نظيرا لعواطف الفنان المضطربة القلقة.(3)
وتعد هذه اللوحة معادلا بصريا لحالة من القلق والكآبة والوحشة والانفعالات الهائمة وهو ما نجده أيضا في حديث فان جوخ نفسه عن هذه اللوحة عندما كتب في رسائله: "في صورتي في المقهى الليلي، حاولت التعبير عن فكرة أن المقهى هو المكان الذي يمكن أن يدمر المرء نفسه فيه، أو يصاب بالجنون، أو يرتكب جريمة، لذا حاولت التعبير عن قوى الظلام الموجودة في الأماكن العامة المتدنية، عن طريق اللون الأخضر الناصع والخافت، الذي يتناقض مع اللون الأخضر المائل إلى الزرقة، كل هذا في أجواء تشبه تنور شيطان من الكبريت الباهت".(4)
فنسنت فان جوخ، المقهى الليلي
ويعتبر الفنان جورجيو دو كريكو (1888-1978) المولع بالظلال القاتمة المخيفة، واحدا من أهم الفنانين الذين عكست لوحاتهم عالم القلق والغرابة الداخلي الذي أسماه الفنان "فن التصوير الميتافيزيقي". لقد وجد دي كريكو في أماكن الخرائب والأماكن الأثرية اليونانية والرومانية القديمة والمدن المهدمة "التي لا يمكن للمرء أن يعيد خلقها ثانية إلا من خلال ذاكرته ومخيلته" صورا معبرة عن القلق الذي يثيره التساؤل عن مصير الإنسان في هذا العصر. يقول دي كريكو:
"ليس هناك شيء أكثر غموضا من المباني المقنطرة أو الأروقة التي ابتكرها الرومان .. هناك يوجد شيء كئيب وغامض.. إن العمارة الرومانية توحي بفجيعة وكارثة ما، إن صوتها يتحدث بأحجيات وألغاززاخرة بالشعر الرواني الغريب، وكذلك الظلال التي تسقط على الحوائط القديمة والموسيقى الآسرة الحزينة على نحو عميق". في لوحة "كآبة شارع وغموضه" تقسم الشمس الساطعة اللوحة إلى منطقتين متضادتين، منطقة يغمرها ضوء الشمس والأخرى غارقة في الظل والظلام القاتم.
تضعنا اللوحة عند مفترق طرق، يمكن أن يحدث فيه كل شيء ويمكن أن يظل كل شيء كما هو عليه أيضا. يصور أسفل اللوحة فتاة صغيرة يتبعها ظلها غير المكتمل، وفي الأعلى ظل آخر لكنه ليس ظل الفتاة، انه اسقاط لظل لا نعرفه، يقول شاكر عبدالحميد عن هذه اللوحة: "هناك نوع من التوتر الصامت يصاحب الأشياء، توتر قد يعود بنا إلى رمزية الأحلام أو حتى الكوابيس، حيث تبدو الفتاة الصغيرة وكأنها صنعت من مادة الظل أو السلويت التى صنع منها الشكل الظلي الآخر الذي ينتظرها في أحد أركان ذلك الشارع الغامض الكئيب".(5)
إن لوحات دي كريكو تعبر عن حالة رهيبة، حيث يسود صمت ثقيل من أبنية غريبة. ربما فهم الفنان كما يقول هايدجر الإنسان الذي يتحسس وجوده الذاتي "إذ يشعر بالوحدة، وحدة المخلوق الذي ألقى في هذا العالم، عالم القلق والهم، فالانسان لا يبدو أبدا كائنا مستقرا، منتهيا، يتملك نفسه تملك الأشياء، بل يبدو أنه في انزلاق مستمر من الهرب في الفراغ والعدم. ولو استطاع الانسان حتى أن يتفوق على نفسه فهو يعرف نهايته رغم كل شيء: الموت".(6)
جورجيو دي كريكو، كآبة شارع وغموضه
ولم يكن دي كريكو وحده، فقد اشترك معه في الاهتمام بالخلفيات والأشكال الخلفية فنانين من أمثال بول دلفو ورينيه ماجريت من المدرسة السريالية البلجيكية، فقد استطاع بول دلفو(1897-1994) تصوير حدة القلق والوحدة والوحشة من خلال لوحاته التى يصور فيها أجساد النساء الذي جعل منها أساسا لبناء لوحاته النفسناني. لكن المرأة هنا اتخذت شكلا خاصا جدا، فلم يعد الجسد يشير للمشاعر الفرويدية الراقدة في أعماق اللاشعور، بل أصبح جميلا باردا يشعر المرء أمامه ببعد هائل.
في لوحته "المدينة القلقة" يصور الفنان عددا كبيرا من العراة رجالا ونساء، كل شخص فيهم منشغل تماما بنفسه، منغمس في ذاته، وكأن لا وجود للأخرين، يقف كل فرد مذهولا كأنه ينصت إلى أصوات تأتي من بعيد. تشبه اللوحة ذلك الشعور بيوم البعث في التراث الديني، سيبعث الناس كما ولدتهم أمهاتهم لكن كل شخص لا ينظر إلا في كتابه، غارق في نفسه. يقول سلمان قطاية: "إن جو اللوحة ينطق بأن العقل عندما كان ينام عند غويا كان ينتج مسوخا، لكنه في لوحات ديلفو يخلق قلقا منقطع النظير".(7)
صور الفنان لوحاته بعد أن اجتاحت الحرب بلجيكا وأجبرت أهلها على الهرب والهجرة "إنه لجو قاتم من الاضطراب والفزع والهول، ارتسم صورا في مخيلة الفنان". وبالرغم من أسلوبه الواقعي إلا أن روحه سريالية خالصة، كانت مكملة للطريق الذي بدأه دي كريكو الذي كان ديلفو مغرما به. وقد رسم ديلفو لوحة "قرية عرائس البحر" في إحدى الليالي التي كانت الطائرات تقذف فيها بروكسل بوابل من القذائف أثناء الحرب العالمية الثانية. نشاهد النساء في هذه اللوحة تعلو وجوههن نظرات شاردة، لا ينظرن إلى بعضهن، بينما يحدقن جميعا بعيون متسعة في فراغ مجهول.
يُقال إنه استوحى هذه اللوحة من حلم روت له زوجته: "أنها رأت أثناء الحلم مجموعة من عرائس البحر في هيئة نساء يرتدين ملابس طويلة بألوان رمادية وخضراء، يجلسن قبالة بعضهن على كراسٍ مذهّبة في زقاق طويل يقوم على جانبيه صفّان من البيوت الرمادية" لكنه تحت تأثير الحرب ربما أراد أن يوازن بين هدوء هؤلاء النسوة والشعور بالألم والفجيعة الذي سببته الحرب. وبالرغم من التوتر القلق الذي تبعثه اللوحة إلا أنها لا تخلو من تعبري شاعري، فالسماء الزرقاء والبحر والجبال ناصعة البياض تخفف من حدة التوتر الذي يحدثه صمت هؤلاء النسوة الأبدي.(8)
بول ديلفو، قرية عرائس البحر 1942
لقد كان القرن الفائت بحروبه وثوراته الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية مليئا بالتوتر، ذلك الذي شعر به الفنانون بكثافة ربما أكثر من غيرهم، فلم يتمكنوا من مجاراة ما عايشوه دون تسجيله. إن اللوحات التي تصور القلق في تاريخ الفن الحديث ربما أكثر من أن تحصى بسهولة، وجميعنا على الأقل يعرف بعضها، مثل لوحة الصرخة لإدفارد مونش والتي حققت شهرة أكبر من الشهرة التي حققها الفنان نفسه، وأعاد الناس نسخها بآلاف الطرق المختلفة، ولا يعنى هذا سوى قدرتها على التعبير ببساطة عما يعيشه الناس ويشعرون به في عصر الفردانية والوحدة.