إياس بن معاوية، قاضي البصرة في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهو أحد أعاجيب الدهر في الفطنة، وأحد من يضرب به المثل في الذكاء، وكان يقال: يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، فكانوا يرون أن إياس بن معاوية منهم.
وقال عنه الجاحظ: إياس من مفاخر مضر ومن مقدمي القضاة، كان صادق الحدس، نقابًا، عجيب الفراسة، ملهمًا وجيهًا عند الخلفاء.
قال أبو تمام يمدح أحد الملوك: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
وقال الحريري: يمدح نفسه "وفراستي فراسة إياس"... هكذا ضرب المثل بذكاء إياس وبفراسته.
نسب إياس بن معاوية وكنيته
هو إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال[1]المزني،[2]، قاضي البصرة في أيام عمر بن عبد العزيز، المشهور بالفراسة والذكاء[3]، وكنيته أبا واثلة[4]، أو أبو وائلة[5]، من مزينة مضر[6]، ولد باليمامة[7]، في سنة 46هـ= 666م[8]، وأمه من خراسان[9]، وأبوه وجده من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم[10]، سئل عنه والده فقال: نعم الابن كفاني أمر دنياي وفرغنّي لآخرتي[11].
إياس بن معاوية الغلام النابغ
ظهرت على إياس بن معاوية علامات النجابة والذكاء منذ كان غلامًا صغيرًا، حتى قال عنه أبوه: إن الناس يلدون أبناء وولدتُ أنا أبًا[12]، ويُروى عن إياس أنه قال: كنت عند معلِّم من أهل الذمة في جمع من أصحابه، فقال لهم المعلِّم: ألا تعجبون من المسلمين فهم يزعمون أنهم يأكلون في الجنة ولا يتغوطون، فقلت يا معلِّم: أكل ما يؤكل في الدنيا يخرج غائطًا؛ قال: لا؛ قلت: فأين يذهب، قال: يذهب بعضه غذاء، قلت: فما حجتك أن لا يكون كله في الجنة يذهب غذاء، فقال المعلم: قاتلك الله[13].
وقد اختلف إياس بن معاوية وهو غلام صغير مع شيخ كبير من أهل الشام وتحاكما إلى قاضي عبد الملك بن مروان، فقال له القاضي: يا غلام، أما تستحي وأنت تُقدِّم شيخًا كبيرًا، قال إياس: الحق أكبر منه وإذا سكتُّ من ينطق بحجتي، قال القاضي: لا أظنك تقول حقًا حتى تقوم من مجلسي، قال إياس: لا إله إلا الله، فقام القاضي ودخل على عبد الملك بن مروان وأخبره بالخبر، فقال له عبد الملك بن مروان: اقض حاجته[14].
رواية إياس بن معاوية للحديث
كان إياس بن معاوية عاقلًا فطنًا وثقة في الحديث، فروى عن أبيه معاوية بن قرة المزني، وعن أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وقد روى عنه: أيوب السختياني، والحارث بن مرة، وحبيب بن الشهيد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وحميد الطويل، وخالد الحذاء، وداود بن هند، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ورجاء بن أبي سلمة، وغيرهم كثير[15]، وروى له الإمام مسلم وابن ماجه[16].
فقه إياس بن معاوية
كان إياس بن معاوية من أفقه أهل البصرة، فلما قدم إلى مدينة واسط جعل الناس يقولون قدم البصري قدم البصري، فأتاه ابن شبرمة بمسائل قد أعدها له وجلس بين يديه وقال له: أتأذن لي أن أسألك؟ قال إياس: إن كانت لا تعيب القائل، ولا تؤذي الجليس فسل، فسأله ابن شبرمة عن بضع وسبعين مسألة فما اختلفا يومئذ إلا في ثلاث مسائل أو أربع رده فيها إياس[17].
إياس بن معاوية يتولى قضاء البصرة
كان إياس بن معاوية ثقة وفقيهًا عفيفًا[18]، وصادق الظنّ لطيفا في الأمور فولاه عمر بن عبد العزيز على قضاء البصرة[19]، حيث كتب عمر بن عبد العزيز إلى نائبه بالعراق عدي بن أرطاة أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، وولي قضاء البصرة أفقههما، ولما جمع بينهما عدي بن أرطاة قال له إياس بن معاوية: أيها الأمير سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة الحسن البصري ومحمد بن سيرين، فقال القاسم: لا تسأل عنه ولا عني، فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء، وإن كنت كاذبًا فما يحل لك أن توليني، وإن كنت صادقًا فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس: إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم فنجَّى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف، فقال عدي بن أرطاة: أما إذ فهمتها فأنت لها واستقضاه[20]، وأول ما ولي القضاء ما قام من مجلسه حتى حكم في سبعين قضية[21] .
ذكاء وفراسة إياس بن معاوية
كان إياس بن معاوية أحد العقلاء الفضلاء الدهاة[22]، وأحد من يضرب به المثل في الذكاء والرأي والسؤدد والعقل[23]، ويحكى من ذكائه وفراسته: أنه لما تولى القضاء تحاكم إليه رجلان في مال، فجحد المدعى عليه، فقال إياس للمدعي: أين دفعت إليه المال؟ قال المدعي: عند شجرة في بستان، فقال له إياس: اذهب إلى تلك الشجرة لعلك تتذكر المال، فذهب الرجل المدعي، وأمسك إياس المدعي عليه عنده، ثم سأله بعد ساعة: أترى خصمك وصل إلى تلك الشجرة؟ قال: نعم، فقال إياس: يا عدو الله يا خائن، قم وأدِ إليه ماله، فأقر المدعي عليه بالمال[24].
وجاءه رجل آخر وقال له: إني أودعت عند فلان مالًا وقد جحدني، فقال له إياس: اذهب الآن وائتني غدًا، وأرسل على الفور إلى الرجل الجاحد وقال له: اجتمع عندنا مال ولم نر له أمينًا نضعه عنده إلا أنت، فقال له الرجل سمعًا وطاعة، وفي اليوم التالي جاء الرجل صاحب الحق فقال له إياس: اذهب إلى خصمك الآن وقل له أعطني حقي وإلا رفعتك إلى القاضي، فدفع إليه الرجل ماله بكماله وخاف إذا سمع إياس خبره لا يودع عنده المال، وهمَّ للذهاب لإياس، وحين وصل كان إياس عرف بخبر إرجاع المال، فعنفه وطرده[25].
مواقف لإياس بن معاوية
دخل إياس بن معاوية مدينة واسط فقال لأهلها بعد أيام: يوم قدمت بلدكم عرفت خياركم من شراركم، قالوا: كيف؟ قال: معنا قوم خيار ألفوا منكم قومًا، ومعنا قوم شرار ألفوا قومًا أيضًا، فعلمت أن خياركم من ألفه خيارنا وشراركم من ألفه شرارنا[26].
وقد ورد عن إياس أنه قال ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذاك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل عندي هذا الرجل وشهد أن البستان الفلاني هو ملك فلان، فقلت له: كم عدد شجره فقال: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس، فقلت: منذ كذا، فقال: كم عدد خشب سقف المجلس، فقلت له: الحق معك وأجزت شهادته[27].
قصة إياس بن معاوية مع الرجل الدهقان
رُوي أن دهقانًا[28] أتى مجلس إياس بن معاوية فقال له: يا أبا وائلة، ما تقول في المسكر؟ قال: حرام؛ قال: وما حرَّمه وهو تمر وماء، فقال له إياس: أرأيت لو أخذت كفًا من ماء فضربتك به، أكان يوجعك، قال: لا، قال: أفرأيت لو أخذت كفًا من تراب فضربتك به، أكان يوجعك، قال: لا؛ قال: أفرأيت لو أخذت كف تبن فضربتك به، أكان يوجعك، قال: لا؛ قال: أفرأيت لو أخذت التراب ثم طرحت عليه التبن، وصببت عليه الماء، وجعلته في الشمس حتى يبس ثم ضربتك به، أكان يوجعك، قال: نعم، ويقتلني، قال له إياس: هكذا شأن الخمر، فهو حينما جُمعتْ أجزاؤه خُمِّر فأصبح حرامًا[29].
وفاة إياس بن معاوية
قال إياس بن معاوية في العام الذي مات فيه: رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين فجريا معًا فلم أسبقه ولم يسبقني، وقد عاش أبي ستًا وسبعين سنة وأنا فيها، فلما كان آخر لياليه قال أتدرون أي ليلة هذه استكملت فيها عمر أبي ونام فأصبح ميتا[30]، فكانت وفاته في سنة 122هـ= 740م[31]، وله من العمر ست وسبعون سنة مثله مثل أبيه[32].
قصة الإسلام
[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ= 1990م، 7/ 175.
[2] ابن الأثير: أسد الغابة، تحقيق: علي محمد معوض، عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415ه= 1994م، 1/ 342.
[3] أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، 1/ 204.
[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 7/ 175.
[5] ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ= 1995م، 10/ 5.
[6] الدينوري: المعارف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1992م، 1/ 467.
[7] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 3/ 376.
[8] الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002م، 2/ 33.
[9] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 10/ 5.
[10] العجلي: الثقات، تحقيق: عبد العليم عبد العظيم البستوي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، السعودية، الطبعة الأولى، 1405= 1985م، 1/ 240.
[11] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 7/ 175.
[12] ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 338.
[13]وكيع الضبي: أخبار القضاة، المحقق: صححه وعلق عليه وخرّج أحاديثه: عبد العزيز مصطفى المراغي، المكتبة التجارية الكبرى، شارع محمد علي، مصر مصطفى محمد، الطبعة الأولى، 1366هـ= 1947م، 1/ 373.
[14] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 10/ 8.
[15] المزي: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ= 1980م، 3/ 407.
[16] صلاح الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، 1420هـ= 2000م، 9/ 261.
[17] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 7/ 175.
[18] العجلي: الثقات، 1/ 240.
[19] الدينوري: المعارف، 1/ 467.
[20] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1900م، 1/ 248.
[21] صلاح الصفدي: الوافي بالوفيات، 9/ 261.
[22]ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 249.
[23] صلاح الصفدي: الوافي بالوفيات، 9/ 261.
[24] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، دار الرسالة العالمية، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1434هـ= 2013م، 11/ 153.
[25] ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 337.
[26] الزركلي: الأعلام، 2/ 33.
[27] صلاح الصفدي: الوافي بالوفيات، 9/ 262.
[28] الدهقان: رئيس القرية ورئيس الإقليم والقوي على التصرف مع شدة خبرة ومن له مال وعقار والتاجر، والجمع: دهاقنة ودهاقين. انظر: إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار: المعجم الوسيط، تحقيق: مجمع اللغة العربية، دار الدعوة، 1/ 300.
[29] وكيع الضبي: أخبار القضاة، 1/ 349.
[30] صلاح الصفدي: الوافي بالوفيات، 9/ 263.
[31] الدينوري: المعارف، 1/ 467، والزركلي: الأعلام، 2/ 33.
[32] حاجي خليفة: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط، أكمل الدين إحسان أوغلي، مكتبة إرسيكا، إستانبول، تركيا، 2010م، 1/ 355.