لقد قيل مرة (اعرف الشعر تعرف اهله..) كون المغامرة الشعرية تنم عن تجربة تنسج صورها بافق جمالي واع..اذ تعتمد ايقاعاً وهندسة لفظية تقدم ابداعا شعوريا يحمل شحنات من القلق النفسي المحرك لخزانة متلقيه الفكرية للتأمل..وحل ما فيه من المعالم المبهمة ..المنبعثة من كينونة الشاعر الذي يشغل حيزا فاعلا بشعريته التي تمثل نمطا تعبيريا متميزا بمعطياته الفنية وتقنياته الشكلية التي تستوعب التجربة والرؤيا ومتطلبات الحركة الحياتية والكونية..و(هزت القضبان) المجموعة الشعرية التي نسجت خيوطها انامل الشاعر(فخري طاهر الشويلي) بقصائدها السبع والستون التي حملت عنوانها جملة فعلية شكلت تكثيفا واختزالا لشظايا النصوص من جهة والتوجيه والتشويق من جهة اخرى.. مع اهداء وثناء وثلاث قراءات(لجابر الجابري وعلي الحيدري والدكتور عبدالمنعم جبار الشويلي )ومقدمة الشاعر التعريفية بظروف ولادة المجموعة..والتي جاء فيها(من زفير المقصلة ورائحة الموت في قاطع الاعدام/من اعماق مغامرات السجون المكفهرة ومتاهات دهاليزها المدلهمة/من ظلام ليلها الدامس..وتجهم نهارها العابس/وبعزم نزيلها على التحدي/وجزم رهينها على التصدي/تنبري الاصابع اقلاما/وتجري نقطة الحياء مدادا/وتتجلى سرابيل اللوعة قرطاسا/لتروي قصصا رهيبة حبالى باسرار عجيبة)/ص25.. والمجموعة اعتمدت في بنائها الشكلي العمود الشعري التراثي الذي ارتبط بالمرزوقي ارتباطا وثيقا نتيجة شرحه حماسة ابي تمام وصار في متناول النقاد من بعده اصطلاحا ثابتا لذاكرة القصيدة العمودية التي تعتمد نظام الشطرين المتناظرين نغميا لا حرفيا..ليشكلا البيت الشعري الذي يعتمد الرؤية التي تبحث عن الصورة الشعرية خارج الرمزية المختلطة بالابداع..اي انها تخوض في غمار الاخيلة والانطباعات التي تنقل المتلقي الى فضاءات بعيدة المدى لما فيها من صور مجازية متأتية من الواقع..حتى ان البعض تجاوزه..مما ادى الى تشكيل محطات حداثوية ابتداء من العصر العباسي حتى عصرنا المعاصر.. كون الشعر دفقات شعورية فنية جمالية لا تحدها ثوابت واشكال..وشاعرنا في مجموعته هذه حاول الخوض في غمار الحداثة فقدم نصا منفردا بنثره تفعيلات البيت متناسيا ان البيت الشعري ينتمي الى العمود اذ كشفته القافية الموحدة..وهو من بحر الرمل الذي يتشكل من ست تفعيلات في كل شطر ثلاث.
قال لي والدهشة الخرساء
تلتف بعينيه
وللرأي تعانق
قال والحيرة والاعياء
للاحشاء..سندان وطارق
وحقيقة الامر هي:
قال لي: والدهشة الخرساء تلتف بعينيه وللراي تعانق
قال والحيرة والاعياء للاحشاء..سندان وطارق/ص124
والمجموعة الشعرية تنم عن تجربة واقعية بمخزونها الشعري الذي يكشف عن معاناة وغربة داخلية الفها الشاعر عن اهله ومحيطه..فكان الوهم الجمالي الذي هو(الوهم الوحيد الذي لا يستطيع الكذب..)كما يقول روديجر لوبيز..يلف جوانحها كونها تنطلق من محيطها(السجن)الذي تصارعت داخله وهربت منتصرة لتضيء عيون متلقيها:
وهاكم من لهاة السجن اطلقــها
صداحة هزت القضبان من فيها
غدا تلوح في بغداد اذرعـــــــها
هذي التي كانت الاصفاد تدميها
تعلو على نغمات النصر هاتفــة
(ياحافر البئر لا تكثر مساحيها) /ص252فالقصيدة تكشف عن تجربة رؤيوية متفجرة عكست الحالة الانفعالية والانفتاح الدلالي والتقابلات الثنائية واستنطاق المكان الذي منح النص تشظيا جماليا واسهم في تخصيب المعنى وتكثيفه..فقدم صورة ذاتية تعتمد موسيقى الاستجابة لايقاع الحياة..كونه نتاج العلاقات الداخلية بحكم الارتباط الوثيق ما بين الدلالة والصياغة اللغوية التي هي(سلسلة من الحركات الصوتية المقترنة بسلسلة من الحركات الفكرية)..اضافة الى انها استمدت جماليتها من بنائها المتماسك بتكثيف عباراتها ومجازاتها وموجودات الواقع والذاكرة التاريخية والبنية الذاتية النابعة من الرؤيا المحققة للصورة المرتبطة بالتجربة..مع اعتماد المفارقة لتحقيق الدهشة الشعرية بتوظيف الفلكلور الشعبي الذي يستخدمه الشاعر كعنصر اساس من عناصر بناء النص فيعطيه طعما خاصا ورائحة شعبية..كي يثبت انتماءه الى وسطه الاجتماعي كما في قوله:
ياحافر البئر لا تكثر مساحيها
وقوله:
وآه كأن بلادي سلعة عرضت
هذا يصيح:مزاد ذاك يشريها
تبادلت كفة الميزان شرذمة
فطبل الناس(حاميها حراميها) /ص250
وقوله:
قالت وفي العينين فرط تعجب
متأهب لتوثب وعناق
ان الذي اطريته في خاطري
قلت:اعذريني(فالقلوب سواقي)/ص91
اضافة الى استخدامه اسلوب البيان البلاغي اذ الاستعارة التي تعني(تشبيه بليغ حذف منه المشبه وبقي المشبه به)حيث حذف المشبه (الشاعر)وبقي المشبه به(اللهاة)..وهناك الكناية والمجاز(الكلام عن شيء والمراد غيره) كما في (غدا تلوح في بغداد اذرعها ) يقصد الابتهاج والتحرر..فالقصيدة عند الشويلي تنم عن تجربة محكمة في معانيها لانه يمتلك خزينها الحدثي فينظمها شعرا معتمدا الخيال والمجاز اللذان هما اداتان اساسيتان للعملية الشعرية والمساعدان على المغامرة باختراق اللغة اليومية..من اجل خلق الرؤية التي تفتش عن صورتها الشعرية المحركة للفكر المتأمل..وهذا يكشف عن التجربة الشعرية التي هي(عملية الحياة والحركة العضوية باكملها التي تسير في الكون..)كما يقول (هربرت ريد)..والتي هي عند الشاعر تتسم بالوعي الذي يعني الموقف الفكري الملتصق بالانسان عبر منظور واع لفنه الشعري ..كون الشعر عنده امتداد مدروس لمعطيات الزمن وصراعاته:
وانا الذي ماء الفرات مروءتي
ومرابع (الغراف)طين شمائلي
لما رأيت المكرمات تناثـــــرت
اصبحت عن ذاتي بشغل شاغل
جندت حرفي واليراع ودفتـــري
ولسان حالي واستثرت اناملي
ياموطني زمر الجهالة زمرت
فالى متى يرخى زمام الجاهل؟/ص86
فالقصيدة عند الشاعر تنطلق من الخارج الى الداخل بحكم رؤاه المثقلة بالرفض والاغتراب فكانت تلامس الذات الجمعي وتشاركه همه..لذا فهو يسحب متلقيه باضاءاته الفنية والجمالية وايحاءاته التي تنطوي على دلالات متميزة بعمقها للغوص والتأمل في صوره التي تجسد مكنونات وخوالج الذات الشاعرة بدلالات درامية تكشف عن ازمة الذات والموضوع..عبر قوة خياله في عملية الخلق الشعري التي تتأتى من مجازات الصورة الشعرية التي هي (تعبير عن عملية الخلق الجمالي لعناصر الرؤيا الذاتية المستمدة من المعاناة الانسانية العامة ثم التدرج الى نقل ذلك الى واقع الاشياء الموضوعي..) كما جاء في معجم المفصل في اللغة والادب..اضافة الى كثافة العبارة وانسجام مفرداتها.. وبذلك قدم الشاعر تجربة شعرية يتدفق الشعر فيها فيعطي قيمة معانقة للموسقة الشعرية التي غطت عوالم البيت الشعري بجمرته اللاهبة وهي تتراقص بين اصابع شاعرها الشويلي متسمة بطابعها الحزين الذي تتدفق من بين ثناياه علامات الامل المشرق..فكانت بمثابة تحقيق للذات من خلال انتقاء الصورة الشعرية مرورا باللغة وتسخير طاقات البحور الشعرية ومنحها لايقاعها الخارجي ومن ثم تحقيق الجمالي والفني المرتبط بمستوى الابداع..على الرغم من انه ظل حبيس الذاكرة الشعرية من خلال ميله الى البحر الطويل والبسيط والرمل والوافر في اغلب قصائده..اما من حيث الايقاع فهو يستعمل التصريع والتكرار اللفظي كما انه يزاوج بين القافية الموحدة والمتنوعة الروي.