كِتَابُ الْقَضَاءِ
1397- عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ, وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ, فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ, وَجَارَ فِي الْحُكْمِ, فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ, فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ, فَهُوَ فِي النَّارِ». رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
1398- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ».
رَوَاهُ أحمد، والأربعة، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ, وَابْنُ حِبَّانَ.
1399- وَعَنْهُ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ, وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ, وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذا كتاب القضاء، ذكر بعض الأحاديث المتعلقة بالقضاء والإمارة، وأن المقام مقام خطير، وأن الواجب على مَن تولى شيئًا من ذلك أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، وأن يحرص على إصابة الحقِّ، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: «القُضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة»، هذا يُفيد الخطر، وأنَّ الأمر يحتاج إلى عنايةٍ وصبرٍ حتى يعرف الحقَّ ويقضي به، «فمَن عرف الحقَّ وقضى به فهو في الجنة»؛ لأنه مصلحٌ، نافعٌ للناس، موصلٌ الحقَّ إلى أهله، فهذا له الجنة، وله الفضل العظيم، الذي يقضي للناس على علمٍ، أما مَن قضى للناس على جورٍ، ويعلم أنه جورٌ، أو على جهالةٍ، فهذا مُتوعَّدٌ بالنار -نسأل الله العافية.
ويُفيد هذا وجوب الحذر من القضاء بغير علمٍ، أو القضاء بغير الحقِّ، من أجل هوى، أو قرابة، أو عداوة، أو غير هذا، أو رشوة، ففي هذا الخطر العظيم.
والثاني: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَن ولي القضاء فقد ذُبِحَ بغير سكينٍ»؛ لأنه خطر، مقامه خطير مُتعب، ومَن ذُبح بغير سكينٍ يتعب، متى تزهق روحه بسبب التَّعب، المعنى أنه ولي أمرًا عظيمًا خطيرًا مُتعبًا، فليتَّقِ الله فيه، وليصبر، وليتحرَّ الحقَّ، حتى تكون له السَّعادة.
والثالث: يدل على خطورة الإمارة، والقضاء نوعٌ من الإمارة، والإمارة فيها خطرها أيضًا؛ لأنَّ صاحبها ينفذ الأوامر، وينفذ أحكام القُضاة، ويتصرف بما يصلح للبلد، فهو على خطرٍ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّكم ستحرصون على الإمارة، وإنها خزي وندامة، إلا مَن أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها»، فالواجب على مَن تولى الإمارة على قبيلةٍ، أو في بلدةٍ، أو قريةٍ أن يتحرَّى الحقَّ.
«فنعمت المرضعة» لما تدر على صاحبها من متاعٍ زائل، «وبئست الفاطمةُ» لأنَّ مَن اعتادها وأنس بها قد يجور، وقد يظلم لأجل تحصيل المال، فالواجب الحذر، أما إذا اتَّقى الله فصاحبُها على خيرٍ، ينفذ الحقَّ، ويمنع الظلم، ويوصل الحقَّ إلى مُستحقه، هذا فيه خيرٌ عظيمٌ، فمَن أدَّى الحقَّ، وأوصل الحقَّ إلى أهله، فله أجرٌ عظيم، أما مَن استعان بها على باطل، أو كسب المال، فهو على خطرٍ عظيمٍ، ولهذا قال: «ستكون ندامة يوم القيامة، إلا مَن أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها».
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأسئلة:
س: يُؤخذ من هذه الأحاديث أن القاضي يُسأل أكثر من غيره يوم القيامة؟
ج: على خطرٍ لا شكَّ؛ لأنه يُعطي هذا، ويحرم هذا، ويمنع هذا، ويأمر بتأديب هذا، وإقامة الحدّ على هذا، قد تتعلق بأمورٍ كبيرةٍ.
س: ما نصيحتكم للذين يُريدون أن يدرسوا القضاء؟
ج: إذا اتَّقى الله فيه فهو على خيرٍ عظيمٍ، إذا حكم بين الناس بالحقِّ، قد كفَّ الظلم، وأراح الناس من الظلم.
س: حديث أبي هريرة: «مَن ولي القضاء»؟
ج: رواه البخاري نعم، كذلك رواه أحمد، والأربعة، وفي "صحيح ابن خزيمة"، لا بأس به.
س: هذا الوعيد يشمل القُضاة الذين يحكمون بالقوانين الوضعية؟
ج: لا، لا، عقوبتهم مُشددة، يحكمون بغير الحقِّ، ما يجوز لهم.
س: أشد؟
ج: أمرهم أشرّ، يعني: يدخلون في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، على خطرٍ عظيمٍ؛ لأنه يحكم بغير الشرع.
س: من أكبر الكبائر تحال إلى المحاكم، إلى مثل اللِّجان العلمانية و..؟
ج: هذا شيء يحتاج إلى إصلاحٍ حتى يُوضح للحاكم الطَّريقة.


1400- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ, ثُمَّ أَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ, ثُمَّ أَخْطَأَ, فَلَهُ أَجْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1401- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1402- وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ, فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ, فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي»، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا بَعْدُ.
رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ, وَقَوَّاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
1403- وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالقضاء، والقضاء كما تقدَّم أمره خطير وعظيم، فالقُضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، الذي في الجنة رجلٌ عرف الحقَّ فقضى به، فهو في الجنة، ورجلٌ قضى للناس على جورٍ، فهو في النار، ورجلٌ لم يعرف الحقَّ، وقضى للناس على جهلٍ، فهو في النار -نسأل الله العافية.
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلفُ تدل على أنَّ القاضي إذا اجتهد وأصاب الحقَّ فله أجران، وإن اجتهد ولم يُصب فله أجرٌ واحدٌ، وهذا من نعم الله، ومن فضله سبحانه وتعالى، فالقاضي إذا تحرَّى الحقَّ، وصار من أهله؛ عنده البصيرة، عنده العلم، وتحرى الحقَّ، فهذا إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، هكذا روى عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة بمعناه، وهذا من فضل الله جلَّ وعلا.
فعلى القاضي أن يتحرى الحقَّ، ويجتهد في أسباب الوصول إليه، ثم إذا قضى بعد ذلك فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر.
وفي حديث أبي بكرة الدلالة على أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي وهو غضبان؛ لأنه قد يُخطئ الحكم بسبب الغضب، فالغضب يُغير الشعور، يُغير العقل، فليس له أن يقضي وهو غضبان؛ لأنَّ الغضب الشديد مُؤثر، فليس له أن يقضي، بل يُؤجل القضية إلى زوال الغضب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقضينَّ حكمٌ بين اثنين وهو غضبان»، وما ذاك إلا لأنَّ الغضب قد يجرّه إلى باطلٍ، وقد يُوقعه في الخطأ بسبب تغيُّر الشعور.
وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه: «إذا تقاضى إليك اثنان فلا تقضِ للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي»، هذا هو الواجب، القاضي لا يعجل، يسمع الأول، ثم الثاني، فإذا انتهى الخصمان من كلامهما حكم بعد ذلك، عليه أن يستمع للأول والثاني جميعًا، وينصفهما جميعًا، ويحضر عقله، ويتثبت في الأمر؛ فإذا عرف كلامَهما، وعرف ما وراءهما، قضى بعد ذلك، سواء كان بالبينة عند صاحب البينة، أو بالنُّكول، المقصود أنه يقضي على الوجه الشرعي بعد .....، والاستماع لكلامهما، والتأكد من كلامهما والتَّثبت.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: حديث عليٍّ وصحَّته؟
ج: صحيح.
س: تورع كثيرٌ من السلف عن تولي القضاء؟
ج: لأنه خطيرٌ.
س: مع أنَّهم كانوا أهلًا لهذا؟
ج: ما هم كلهم، الذي عنده علمٌ هو الذي أهل.
س: ما حكم المسح على الخُفِّ الخفيف في هذه الأيام؟
ج: إذا كان ساترًا لا بأس، وإن كان لا يستر –رقيق- لا يمسح عليه، أو فيه خروق كثيرة تُبين اللحم لا يمسح عليه.
س: ..... وصول الماء إلى اللَّحم؟
ج: إذا كان يبين منه اللَّحم: أحمر أو أسود اللحم فلا يمسح عليه، أو فيه خروق كثيرة تُبين، أما الخرق اليسير ما يُبين شيئًا يُعفى عنه.
س: وإذا كان اللحمُ ظاهرًا، ولكن الماء لم يصل إلى القدم أو يُؤثر ..؟
ج: ما دام يبين اللحمُ ما يمسح عليه، ما دام أنه رقيق يبين اللحم لا يمسح عليه، ليس بخُفٍّ.
س: صحَّة حديث: «مَن ولي القضاء فقد ذُبِحَ بغير سكينٍ»؟
ج: تقدَّم، لا بأس به، نعم.
س: المرأة إذا كان يجب عليها نقضُ الضَّفائر للغسل؟
ج: يُستحب، لا يجب، يُستحب في الحيض، أما في الجنابة فلا، ما تنقض، ترويه بالماء ويكفي، تعمُّه بالماء ثلاث مرات ويكفي.
س: طيب، لو تضفَّرت قبل الغسل لئلَّا تنقض؟
ج: المقصود أنَّ الرسول ما أمر بالنقض، قالت أمُّ سلمة: إني أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ -وفي روايةٍ: الحيضة- قال: «إنما يكفيكِ أن تحثي ثلاث حثيات».
س: شعرها ما هو ضفائر أصلًا يا شيخ، فأرادت أن تُضفره حتى لا تبله بالماء، يجوز لها؟
ج: لا بأس.
س: ضابط الغضب الذي لا يحكم به؟
ج: الشدة، إذا اشتدَّ به الغضبُ، إذا عرف من نفسه أنه شديد الغضب، وأن الشدة قد غلبته.
س: إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فله أجران، هل تنطبق على العالم لما يجتهد في مسألةٍ ويُخطئ فيها؟
ج: يُرجى لهم، المفتي والأمير والمصلح يُرجى لهم هذا إن شاء الله إذا اجتهدوا، المصلح بين الشخصين، والأمير إذا اجتهد في مصالح المسلمين يُرجى له هذا إن شاء الله.
س: هل ينطبق عليه الحديث؟
ج: يُرجى له أن يعمَّه الحديث؛ لأنه نفسه في المعنى.
س: إذا بنى الحكمَ على السماع من طرفٍ دون الطرف الآخر؟
ج: يكون آثمًا، ولا يصحّ الحكم، يأثم ولا يصح الحكم.


1404- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ ما أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا, فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1405- وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ؟!». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.
1406- وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ.
1407- وَآخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَه.
1408- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمُرِهِ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ, وَلَفْظُهُ: «فِي تَمْرَةٍ».
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث فيها تحريم أخذ المال بغير حقٍّ، والتحذير من التَّساهل في القضاء، وأن القضاء أمره خطير.
وفي حديث أم سلمة يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحن بحُجَّته من بعضٍ، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمَن قطعتُ له من حقِّ أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعةً من النار، فليحملها أو ليذرها».
وهذا يُفيد أن حكم القاضي لا يُحِلُّ ما حرَّم الله، فالواجب على الخصمين أن يتَّقيا الله، وأن يُراقبا الله فيما يختصمان فيه، وعلى البينة أن تتَّقي الله أيضًا، والقاضي ليس له إلا الظاهر، فإذا حكم القاضي بالظاهر، والباطن خلاف ذلك، وهو يعلم ذلك، لم يحل له، فإذا عرف أنه ظالمٌ، أو أنَّ الشهود له زور، لم يحل له ما حكم به القاضي، بل يجب عليه أن يُنصف من نفسه، وأن يعترف بالحقِّ، ولا يحتجّ بحكم القاضي الذي أخطأ فيه.
الحديث الثاني: يقول صلى الله عليه وسلم: «كيف تُقدَّس أمَّة لا يُؤخذ من شديدهم لضعيفهم»، هذا فيه الحذر من الظلم، وأنَّ الواجب أن يُنصف الضعيف، ويُعطى حقَّه، هذا الواجب على الأمَّة؛ على أعيانها ورجالها والمسؤولين فيها أن يُنصفوا المظلومين، وأن يأخذوا للضَّعيف حقَّه، وألا يميلوا مع القوي، بل الواجب الإنصاف مع صاحب الحقِّ، سواء كان ضعيفًا أو قويًّا، غنيًّا أو فقيرًا، الواجب نصر الحقِّ.
وفي هذا أيضًا الحديث الثالث: الدلالة على خطر القضاء، وأنَّ القاضي يلقى من شدَّة الحساب ما يتمنَّى أنه لم يقضِ بين اثنين في عمره، وفي لفظٍ: «في تمرةٍ»، وتقدم أنَّ القاضي إذا اجتهد فله أجران إذا أصاب، وله أجر إذا أخطأ، إذا اجتهد فهو على خيرٍ عظيمٍ، وله أجر عظيم فيما يتعلق بالإصلاح بين الناس، وإعطائهم حقوقهم، فهو على خيرٍ، لكن إذا تساهل فهو على خطرٍ كما تقدَّم: «القُضاة ثلاثة»، فالواجب على القاضي أن يجتهد، وأن يتحرى الحقَّ، ومتى تحرى الحقَّ واجتهد فهو على خيرٍ عظيمٍ، ومتى تساهل فهو على خطرٍ عظيمٍ.
نسأل الله الهداية والتوفيق.
الأسئلة:
س: صحَّة الحديث الأخير؟
ج: ما راجعتُ سنده، من أحاديث التَّرهيب.
س: معنى قوله: «تُقدّس أمّة»؟
ج: يعني: يُقدِّسها الله، يعني: يُثيبها، ويُعظم أجرها، ويُضاعف ثوابها.
س: معنى: يلحن؟
ج: يعني: أفصح، يتكلم بكلامٍ يُوهم القاضي أنَّ الحقَّ معه، ما عنده بينة، ولكن أوهم القاضي أن الحقَّ معه، وكان المدَّعى عليه قد يكون عَيِيًّا، ضعيفًا، ما يُعبِّر عن نفسه.
س: ما معنى أنَّ القاضي العادل يلقى من شدَّة الحساب ما يتمنَّى أنه ..؟
ج: الذي اتَّقى الله في عدله في قضائه.
س: إذا كان القاضي يظلم ظاهرًا، هل يُرفع أمره إلى مَن فوقه؟
ج: نعم، يُرفع أمره إلى الجهة المسؤولة.


1409- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُم امْرَأَةً». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
1410- وَعَنْ أَبِي مَرْيَمَ الْأَزْدِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أمور الْمُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَفَقِيرِهِم, احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ.
1411- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ".
رَوَاهُ أحمد، والأربعة، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
1412- وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا النَّسَائِيَّ.
1413- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالقضاء وما يُشبهه من الإمارات والولايات الأخرى:
يقول صلى الله عليه وسلم: «لن يُفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة»، وهذا يدل على أنه ما ينبغي أن تتولى أمور المسلمين كالإمارة أو القضاء؛ لأنَّ نظرها في الغالب قاصر وضعيف، فلا تصلح للولاية، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أن كسرى الفرس ولّوا امرأةً قال هذا الكلام: «لن يُفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة»، فالمرأة تتولى ما يُناسبها: كالتدريس، إدارة مدرسة البنات، وما أشبه ذلك فيما يتعلق بجنسها، أما أن تتولى أمور المسلمين العامَّة: كالإمارة والقضاء ونحو ذلك، أو رئاسة القبيلة، فهذا لا يجوز؛ لقصور نظرها، وضعف تصرُّفها في الغالب.
ويدل الحديث الثاني على أنَّ الواجب على مَن تولى شيئًا من أمور المسلمين ألا يحتجب عن حاجتهم وفقيرهم، بل يكون بارزًا، إذا أراده المحتاج وجده، أميرًا أو غيره؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «مَن تولى شيئًا من أمور المسلمين، فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم، احتجب الله عن حاجته وفقره يوم القيامة».
فالواجب على مَن تولى شؤون المسلمين: كالوزير، والأمير، والقاضي، ونحو ذلك، ألا يحتجب عن حاجة الناس، بل يكون بارزًا، إذا أراده الناسُ وجدوه؛ لهذا الحديث الصحيح وما جاء في معناه.
والحديث الثالث يدل على تحريم الرشوة، وأنه لا تجوز الرشوة، والرشوة: المال الذي يُدفع للقاضي، أو للأمير، أو لرئيس القبيلة، أو ما أشبه ذلك، حتى يجور في الحكم، حتى يتبع هوى صاحب الرشوة، والمرتشي الذي يقبلها، الراشي الباذل، والمرتشي الذي يقبلها.
فالواجب الحذر من ذلك؛ لأن هذا من أسباب الحكم بغير ما أنزل الله، ومن أسباب الظلم والتعاون على الإثم والعدوان، فلا يجوز.
وقوله في الحكم هذا يكون أشدّ، إذا كان في الحكم يكون أشدّ، وإذا كان في الأمور الأخرى: كالإمارة وشيخ القبيلة ونحو ذلك حرم عليه ذلك أيضًا.
وجاء في بعض الروايات: «والرائش»، وهو الواسطة بينهما، لكنها رواية ضعيفة، لكن معناها صحيح؛ لأنَّ الرائش يُعين على الإثم والعدوان، هو مثل كاتب الربا، ومثل شاهده، فالحكم واحد، فلا يجوز التوسط في ذلك، الرائش المتوسط، الواسطة، فلا تجوز الرشوة، لا من زيدٍ، ولا من عمرو، ولا قبولها، ولا التوسط فيها.
والحديث الرابع عن ابن الزبير: أنَّ السنة قضت أن الخصمين يقعدان بين الحاكم، الخصمان يكونان بين يدي القاضي، كلٌّ يُدلي بحجَّته، هذا السنة.


بَابُ الشَّهَادَاتِ
1414- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ هو الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.