أبدع ابن حبان رحمه الله في كثير من العلوم والمعارف، فإلى جانب تبحره في علم الحديث، كانت له معرفة واسعة في علم الفقه، مع القدرة الفائقة على استنباط المسائل والأحكام من النصوص، وأبدع أيضًا في علم العربية وعلم الطب والنجوم وغيرها، ويظهر ذلك واضحًا من خلال الثروة العلمية الهائلة من المصنفات التي خلفها لنا.
نسب ابن حبان ومولده
هو الإمام العلامة الحافظ المجود، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي، أبو حاتم البُستي، يقال له ابن حبان: وهو مؤرخ وجغرافي ومحدث، ولد في مدينة بُست بإقليم سجستان سنة 273ه، وقيل: 270ه، كان شيخ خراسان في عصره، وإمامًا فاضلًا مكثرًا، سافر الكثير في طلب الحديث وتصانيفه مشهورة كثيرة الفوائد.
رحلات ابن حبان في طلب العلم
أخذ ابن حبان في طلب العلم منذ بواكير حياته، وتنقل بين كثير من الأقطار لسماع العلم من الشيوخ والأئمة في شتى أرجاء العالم الإسلامي آنذاك، فرحل إلى خراسان والشام ومصر والعراق والجزيرة، ونيسابور والبصرة، وتعلم على يد الكثير من المشايخ والأئمة منهم أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة، وأبي عبد الرحمن النسائي بمصر، وأبي يعلى أحمد بن علي بالموصل، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ببغداد، وجعفر بن أحمد بدمشق، وغير ذلك من الأئمة والأمصار.
وقد استغرق ابن حبان في رحلاته قرابة أربعين عامًا، تولى خلالها قضاء سمرقند مدة، ثم عاد إلى نيسابور، ومنها إلى بلده بُست، وقد أشار الإمام ابن حبان إلى كثرة رحلاته وجمعه للعلوم قائلًا: " لعلنا كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من إسبيجاب إلى الإسكندرية".
قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: يريد ابن حبان من قوله هذا أن يبيّن لنا أنه رحل إلى أقصى ما تمكن الرحلة إليه لطلب العلم في عصره، فرحلات ابن حبان شملت أقصى الشرق وأقصى الغرب في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت، ولا يسعنا أن نقول إلا كما قال الإمام الذهبي: هكذا فلتكن الهمم.
آثار ابن حبان العلمية
كان ابن حبان كان ثقة نبيلًا فهمًا، وهو من أوعية العلم في الفقه واللغة ومكثرًا من الحديث والوعظ، كما كان من حُفَّاظ الآثار، وعالمًا بالطب والنجوم وفنون العلم، أيضًا كان عالمًا بالمتون والأسانيد، وأخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، وأدرك الأئمة والعلماء والأسانيد العالية، وهو أحد العلماء البارزين المكثرين في التصنيف، وله عدد كبير من المصنفات يغلب عليها التصنيف في الحديث والجرح والتعديل وقد أبدع فيهما، قال عنه ياقوت الحموي: ومن تأمّل تصانيفه تأمّل منصف علم أن الرجل كان بحرًا في العلوم.
ومن مصنفات الإمام ابن حبان المسند الصحيح في الحديث، وكتاب مشاهير علماء الأمصار وقد قامت شهرته عند أهل العلم على هذين الكتابين، أيضًا له من التصانيف كتاب روضة العقلاء في الأدب، وكتاب معرفة المجروحين من المحدثين، وكتاب الثقات، وكتاب علل أوهام أصحاب التواريخ، وكتاب الصحابة، وكتاب التابعين، وكتاب أتباع التابعين، وكتاب تباع التبع، وكتاب غرائب الأخبار، وكتاب أسامي من يعرف بالكنى، وكتاب المعجم على المدن، وغير ذلك من الكتب.
محنة ابن حبان
تُعد المحنة التي تعرض لها الإمام ابن حبان من أعجب المحن والفتن التي يمكن أن يتعرض لها أحد من أهل العلم، وكادت هذه المحنة أن تودي بحياته، وتقضي على تراثه وعلمه، ومفاد هذه الحادثة أن ابن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في مدينة نيسابور سُئل عن النبوة فقال: "النبوة: العلم والعمل" فقام إليه أحد الوعاظ واتهمه بالزندقة والقول بأن النبوة مكتسبة، وارتفعت الأصوات في المجلس وهاج الناس، وانتهز خصوم ابن حبان الفرصة وكتبوا محضرًا بالواقعة وحكموا عليه فيه بالزندقة ومنعوا الناس من الجلوس إليه.
ولم ينتهي الامر عند ذلك بل بالغوا في أذية ابن حبان وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، ورغم أنه قد اتضحت براءة ابن حبان بعد ذلك غير أنهم أجبروه على الخروج من نيسابور.
تدل هذه المحنة على مدى الجهل بمعاني الألفاظ، ولا شك أن كلمة "النبوة: العلم والعمل" التي قالها ابن حبان سوف تجلب الكثير من المتاعب إذا ألقيت على أسماع من لا يفهم اللغة ومدلولاتها، أو إذا ألقيت على أسماع الحاسدين الذين يتربصون بالإمام ابن حبان وأمثاله من العلماء، وينتظرون أي فرصة للنيل منهم ولو بشطر كلمة، وقد قال الإمام مالك في هذا الصدد: إذا قال الرجل قولًا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، ويحتمل الإيمان من وجه واحد حملناها على الإيمان.
أيضًا قال الإمام الذهبي في دفاعه عن ابن حبان: إن كلمة "النبوة: العلم والعمل" قد يقولها المسلم والزنديق، يقولها المسلم ويقصد بها مهمة النبوة، إذ من أكمل صفات النبي العلم والعمل، فما من نبي قط إلا وهو على أكمل حال من العلم والعمل، وليس كل من برز في العلم والعمل نبيًّا، لأن النبوة اصطفاء من الله عز وجل، ولا حيلة للعبد في نيلها ولا اكتسابها، وهي كقول النبي صلى الله عليه وسلم" الْحَجُّ عَرَفَةُ" ، فعرفة هو ركن الحج الأعظم لكن لا يكفي وحده لإتمام شعيرة الحج، بل هناك أركان وفروض أخرى لابد منها حتى يصير العبد حاجًا، وهكذا العلم والعمل مهمان للنبوة وهذا ما قصده وأراده ابن حبان.
أيضًا كلمة "النبوة: العلم والعمل" يقولها الفيلسوف الزنديق: وهو يقصد بها أن النبوة مكتسبة، ينتجها العلم والعمل، وهذا كفر مخالف للقرآن والسُّنَّة وإجماع المسلمين، وهذا مالا يريده ابن حبان ولا يقصده أبدًا، وحاشاه، فهو من كبار علماء الأمة وأئمتها ولكن الجهل والحقد والحسد أعمى قلوب معارضيه حتى خاضوا فيه وأجبروه على الرحيل.
وفاة ابن حبان
خرج الإمام ابن حبان مكرهًا من نيسابور إلى سجستان، ومن سجستان عاد إلى بلده بُست وظل بها حتى توفي سنة 354هـ= 965م، وهو في عشر الثمانين من عمره، ودفن بقرب داره في بُست.
المصادر
1- ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1995م، 1/ 415.
2- ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ= 1995م، 52/ 253، 254.
3- ابن الاثير: اللباب في تهذيب الأنساب، دار صادر، بيروت، 1/ 335.
4- الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405ه= 1985م، 16/ 92- 102.
5- ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1406ه= 1986م، 1/ 34، 35.
6- الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002م، 6/ 78.
7- سامي بن عبد الله المغلوث: أطلس أعلام المحدثين، ص68- 77.
قصة الإسلام