يحكى انه كان في قرية شيخ جليل، يقوم بامامة الناس في الصلاة، وكانت له بنت قد بلغت عمر الورود، وكان يحبها حبا جما فلما بلغت الثامنة عشرة من عمرها مرضت مرضا شديدا أودى بحياتها، فماتت وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة في حجر أبيها، فشقت تلك المصيبة عليه وبلغت مبلغها منه، حتى أذهلته عن كل ما حوله، ولولا إيمانه بربه وما كتبه من قضائه وقدره، لنفذ صبره وفقد إرادته.
وشيع الشيخ مع أهل القرية ابنته الغالية بالدموع والحسرات، إلى مقرها البعيد ومثواها الأخير، ولما أنزلت في لحدها ومددت في حفرتها، آثر الشيخ أن ينزل إليها ليلقنها أصول دينها، ويودعها الوداع الأخير، ثم أهيل عليها التراب وسدت نواحي القبر وطين عليه، أظلم القبر بمن فيه، إذا لم يعد لشعاعه نور أن تنفذ اليه. ورجع المشيعون أدراجهم مع شيخهم إلى دورهم، وقد تركوا الفقيدة، في دارها فريدة، وفي حفرتها وحيدة، رهن القبور الموحشة والرحاب المقفرة.
وكان أصدقاء الشيخ الأوفياء – حيث وجدوا شيخهم في غمرة مصيبته مذهولا عن كل شيء – أن قاموا بكل مراسم التشييع والدفن، ودفعوا عنه نفقات تلك الأعمال، فلما وقفوا راجعين شكرهم الشيخ على أخلاصهم ووفائهم بصحبته، ومد يده إلى جيبه ليخرج حافظة نقوده ( الدزدان ) فيسدد لهم ما دفعوه، فإذا به يصاب بخيبة كبيرة، إذا لم يجد في جيبه شيئاً، لقد فقد الدزدان بكل ما فيه من مال وفير وذهب في الحال إلى داره يفتش عن الحافظة دون جدوى، وخيم الظلام وهو في حيرة كبيرة، اين ذهب الدزدان ؟! وبات ليلته ضجيع قلق، يفكر في أمر نقوده.. وفجأة لمعت في مخيلته بارقة أمل، حين طفق يسائل نفسه:
لعل الدزدان قد سقط مني في القبر أثناء نزولي لتوديع ابنتي !. انه آخر سهم يمكن أن يصيب.
ولكن كيف السبيل إلى الوصول إلى الدزدان، وهل من المعقول أن يفتح القبر من أجل شيء تافه كهذا مبلغ من المال مهمـا بلغ ؟!.
وطفق يقلب الأمر في عقله دون أن يغمض له جفن، ثم قال: ولكن إذا تركت الدزدان في القبر فما فائدة الميت به ؟!
أن الحي أحوج إلى ذلك المال من الميت، وهو مبلغ كبير أنا في حاجة إليه، واستقر رأيه على فتح القبر مهما كانت النتيجة.
وفي اليوم التالي صلى بأصحابه صلاة الظهرين، ثم خلص بمفرده إلى المقبرة، ليستأذن الحفار في فتح القبر، فتردد الحفار ولكنه أغراه بالمال، فجاءه بالمعول وباشر بحفر القبر حتى كشف إحدى بلاطاته ونظر الشيخ مترقبا إلى داخل القبر وقد أضاء بعد ظلمة،…
... فإذا به يجد الـدزدان ملقى في ناحية من نواحي القبر، ولكنه ذهل عن الدزدان حين حدق ببصره في طول القبر وعرضه فلم يجد فيه ابنته التي أنزلها البارحة بيده إلى القبر.
فأوجس خيفة مما رأى، وكاد يجن جنونه مما شهد، وهو يفرك عينيه لعله يكون في حلم، او لعله أصيب بضعف البصر من شدة محنته، ولكنه تأكد أن القبر قد فرغ ما فيه وعاد الشيخ أدراجه إلى القرية مذهولاً مقهورا لا يدري ما يفعل، ولا يود أن يبوح بسره إلى احد...
وطفق يسائل نفسه: ما الحيلة إلى معرفة سرا الحقيقة فيما حصل ؟!.
وكان في القرية ناسك يتعبد في منطقة نائية من الرابية التي تطل على القرية، فاهتدى الشيخ ببصيرته إلى أن يذهب إلى ذلك الناسك فيحكي له قصته، يسأله عن سرها لعله يفك شيئاً من رموزها الخفية. وصعد الرابية إلى الناسك الوحيد، يقبل الأرض بين يديه ويقص عليه فصول مأساته المحزنة.
فقال له الناسك: أمهلني حتى أصلي ركعتين لله، وما أن أنفتل من صلاته حتى قال للشيخ: لقد رأيتها، لقد رأيتها.. إنها تصلي على حطب جهنم. اذهب الآن إلى قبرها تجدها فيه، فإنها تكون قد رجعت بعد أن انتهت من صلاتها قال الشيخ: وكيف يكون ذلك ياسيدي.
قال الناسك: إن أبنتك قد ماتت وعليها صلوات فائتة. وإن الله – رحمة بك وبها– سمح لها أن تقضي هذه الصلوات على نار جهنم، وأذن لها أن تقضي في كل وقت فريضة صلاة من صلواتها الفائتة. وهي ستظل على تلك الحال حتى تقضي كل ما عليها.
فاندفع الشيخ المسكين الذي احترق قلبه على أبنته، من أعلى الرابية إلى المقبرة مباشرة، وهو متلهف للنظر إلى ابنته والتحقق من كلام الناسك.
فلم يكد يصل إلى القبر حتى وجد ابنته مسجاة في القبر بلحمها وعظمها، ولكنه فوجئ الما رآها بمنظر تقشعر له الأبدان، فقد احترقت جبهتها وكفاها وركبتاها وأطراف أصابع قدميها.
.
#نستلخص من هذه القصة ان المؤمن لا يمكن ان يغفر الله له قبل ان يؤدي كل ما عليه من الصلاة، حتى لو صلاها على اطباق جهنم.
وذلك لان الصلاة عمود الدين؛ ان قبلت قبل ما سواها، وان ردت رد ما سواها.
وان المستخف بالصلاة والتارك لبعض فروضها والذي يؤخرها عن وقتها، هو مُستخف بالله تعالى ويستحق العقاب الاليم.
ـــــــــــــــــــــــــ ـ
كتاب: عالم البرزخ والقبر .
.