بيتٌ يتيمة دهره يكسوه الذّهول، حيطانه الخرساء تتوجّس إليّ من غير أن تصغي.
لا فرحٌ هناك؛ فالعقل يعجز عن فهم الفرح في زمن الزّنك. تسكنني الرّهبة من حلمٍ لا أدرك فحواه، وتنزف منّي خواطر أهملها النبض. يتعبني البحث عن أملٍ سرقته منّي الأمكنة الرّماديّة، وعن أوانٍ لا ترتضيه الرّيح.
رحل أمسٌ، ولم يبق لي منه سوى كتابين، ونظّارةٍ منسيّةٍ فوق كومةٍ من الأفكار، وكأس نبيذٍ نصفه فارغٌ، ونصٍّ لم يكتمل بعد، وذاكرةٍ…
فجاء صبحٌ من البلّور، خاوٍ، رائحته ماءٌ، حائرٌ بلونه.
على الطّاولة خارطةٌ وسرابٌ، ومذاق «حموضٍ أمينيّةٍ».. ووراء نافذةٍ يبّسها خريفٌ أوراقٌ يتائم، وهواءٌ..
في العقل صحراء قلبٍ، ورؤىً تتداعى، وأسئلةٌ غريبةٌ، ومدىً يمتدّ من العدم وحتّى احتضار الأكسجين، ومن تبدّيات الفشل وحتّى النّعاس..
خارج الباب بردٌ، وفي الدّاخل رائحة مشافٍ، ورداءٌ رسميٌّ لامرأةٍ يسهل عشقها.. وفي الأفق نبوّةٌ إسمنتيّةٌ، و«لـٰهٌ» مسبق الصّنع..
لا أبجديّة سوى الرّفض، ولا وسع إلاّ لتبرئة الخطيئة وحفظها من دمويّة الكتب المقدّسة. من حقّي أن أستعير حزني لأرميه خارج وحدتي. إنّي لأعرف أنّ حلمي لم يتم، وأنّ صوتي لا صدى له، ولكنّ التّصالح مع «القدر» يؤلمني، والخضوع لقدرٍ وضيعٍ يؤلمني أكثر. ويؤلمني طعم الهواء الصّدئ لمّا تشرع الأشياء تفقد معانيها.
… … …
لقد تورّط القلب كثيرًا؛ فالتهمني الوقت، وغيّرت ظلمة الشّتاء ملامحي. كلّما حاولت التّنصّت إلى السّكون، صادرتني صورٌ من رمادٍ. توجعني تلك الأحايين الّتي غيّبها الرّحيل، فهاجرت تحت سماءٍ جافّةٍ قارسةٍ، وما عاد العمر يعرف كيف يصنعها، ولا شمس آذار كيف تصوغها لتألف الجوّ البارد.
رحل أمسٌ ثانٍ، ولم يبق لي منه سوى كتابٍ، وأفكارٍ، وكأس نبيذٍ فارغٍ، ونصٍّ على وشك النهاية، وذاكرةٍ…
فجاء صبحٌ من البلّور، خاوٍ، رائحته ماءٌ، حائرٌ بلونه.
على الطّاولة صحنٌ من الزّيتون الأخضر، ورغيف خبزٍ يابسٌ، وسوسنةٌ ذابلةٌ.. محبرةٌ، وقدّاحةٌ، وأكياس تبغٍ، ورسوماتٌ أوّليّةٌ للآخرين.. مبراةٌ صغيرةٌ، وأقلامٌ، وصحن سجائر من الفخّار أسود اللّون، وعلبةٌ من البيرة الرّخيصة.. ورقٌ شفّافٌ، وآخر ملوّنٌ، وشمعةٌ أطفأها ليلٌ طويلٌ..
في الخارج شارعٌ خافت الضّوء، ومقهىً رصيفيٌّ فارغٌ إلاّ من آثار العطور وبقايا الأحاديث حول طاولاته.
لا فرصة لاغتيال الوقت، والتّمنّي متعبٌ من الخذلان، والبؤس الآدميّ، والجبروت المتجمّل بالعدل، والشّعارات الأخّاذة، والخطابة المستهلكة، والبطولات الزّائفة، والتّواضع المبتذل.
من حقّي أن أكره دجاجة الجيران الّتي درّبت نفسي على مراقبتها فاكتشفت أنّ المرء يستطيع التّعلّم حتّى من «دجاجةٍ»!… ومن حقّي أن أمقت الأشياء الكريهة، وأن أستعيد مواطن رغبتي.
… … …
كنت في بلدي جميلًا، وكنت قادرًا على ابتكار الحكايات.. وكان قلبي أكثر دفئًا، وابتسامتي أكثر حقيقيّةً. كنت أعرف كيف أحبّ، وكيف أصطاد الحياة.. كنت قادرًا على صنع الجمال، وعلى استراق السّمع إلى أحاديث الكبار المسائيّة. كبرت، ولم أعد قادرًا إلاّ على الحنين، وأصبح للأمان معنىً آخر في دمي.
رحل أمسٌ ثالثٌ، ولم يبق لي منه سوى نصٍّ قد اكتمل، وذاكرةٍ…
فجاء صبحٌ من البلّور، خاوٍ، رائحته ماءٌ، حائرٌ بلونه.
على الطّاولة قطعةٌ من الجبن، ودخانٌ.. ممحاةٌ، وأوراقٌ اصفرّ لونها، ومطبوعاتٌ مهملةٌ، وصوت ثلّاجةٍ رتيبٌ.. وعلى الجدار الجانبيّ تقويمٌ لمطعمٍ صينيٍّ، وأصداءٌ لا أهل لها..
بين يديّ مغلّفاتٌ لرسائل مملّةٍ، ودفتر يوميّاتٍ خائفٌ ومرتبكٌ، وفنجانٌ من القهوة، ونغم «بياتٍ».. ومقابلي حائطٌ باهت اللّون، وحيدٌ كغرابٍ، وبائسٌ كالنّحو..
فضاءٌ للهزيمة، وفضاءٌ جديدٌ للبيولوجيا الفاسدة.. من حقّي أن أكره العربات الفاخرة والغباوة والشّعائر؛ ومن حقّي أن أتمرّد على سذاجة الطّبيعة، وأكفر بالأديان.. ومن حقّي أن أدافع عن الجائعين.
… … …
على الطّاولة ظلّ خرابٍ، وفراغٌ، وجملٌ غير مفيدةٍ..
رحل أمسٌ رابعٌ، ولم يبق لي منه سوى ذاكرةٍ…
فجاء صبحٌ من البلّور،
خاوٍ،
رائحته ماءٌ،
حائرٌ بلونه…