أمشي وذاكرتي كصفحات الجرائد نصفها صُوَرٌ ونصفٌ للعناوينِ التي تخفى وتظهر كل حينِ
أمشي بلا صوت كما تمشي المياه على المياه أو الهواء على الهواء أو الحنين على الحنينِ
وكأنَّني ما ليس يسمعُ من بقايا رنَّة الناقوس قبل سكوته
وكأنني نَعَسُ الرنين على نقوش نحاسه،
وكأنني نعس الرنينِ
أمشي الى كل الجهات كأنَّني الهذيانُ
هذيانُ هذا الكون جسمي والمعاني المتقناتُ خطوط همٍّ في جبيني
أمشي وأقصدُ لا إلى جهةٍ أريدُ أنا الشريدُ وخطوتي العنوانُ
يا ساحةً حطَّت بها آلافُ أسراب الحمام كأنَّها غيمٌ يزاحم نفسه فوق البلاطِ
تحاول الرزق الشحيح كفيلسوفٍ، غايةٌ في الانسجام والاكتفاء بذاتِها
أمشي بساحتها على مَهَلٍ فتنفر من أمام خطاي سرباً بعد سربٍ، والسماء قريبةٌ لِبَناتِها
لكنني أمسكت منها آخر الأطيار في السرب الأخيرِ، فشدَّني معه الى حيثُ ارتقت درجاتِها
صُوَرُ الحمائم هذه حُلُمٌ أتاني بين أروقة السجون أُقادُ للإعدامِ والدركيُّ يكشفُ لي سبيلي،
خطوتي بين الحمائم خطوتي من خلفه، من خلف أكتاف الفخار العسكريِّ
وعن يميني والشِمال عنابرٌ موصودةٌ تلقي عليَّ الملح والأزهار من بَرَكاتِها
أمشي وأروقة السجونْ
تحكي خراطيم المياه وبعضها مُتَداخِلٌ في بعضها ملآنةً، لا بالمياه وإنَّما بالليل أحلكَ ما يكونْ
وتصبُّه فوق المدائن كلَّ يومٍ سقيةً في سقيةٍ حتى نَمَت وتفرَّعَت وبنت سجونا غيرها، إنَّ السواقي من ثمار نباتها
أمشي فتظهر، ثم تكبر، كلما اقتربت خطاي لكي أرى أبعادَها والسوس في أعوادِها، والبئر بين عمادها وعمادِها
وجديلة الحبل المدلَّى وسطها في عشر لفاتٍ حملن شبيهة الإجَّاص خاويةً لأملأها
تُرى في رسمة الأطفال خطاً ثم دائرةً
كذلك دمعة الكحلاء فوق الخدِّ خطٌ ثم دائرةٌ
كذلك آخر الإمضاء خطٌّ ثم دائرةٌ
كذلك في المدارس دورة الأحياء خطٌ ثم دائرةٌ
كذلك سيرة التاريخ والأشياء خطٌ ثم دائرةٌ
ألا فلتعذرينا يا مشانق ليس في كل البرية غير معنى واحدٍ متعدد الأسماءْ
وأخذت أسوأها
أمشي فتظهر ثم تكبر كلما اقتربت خطاي كمثل أعمدة الإضاءة في الشوارع مائلاتٍ إذ هى النور الوحيد بآخر السرداب
ولدهشتي أحببتها وطربت حين رأيتها طرباَ يُصبُّ عليَّ من أعلى لأدنى ثُم يملؤني ككوب الشاي من أدنى لأعلى مرة أخرى له رغواته المتكاثفات وكركرات الماء حين يُدارُ في خيط طويل من فم الإبريق للأكواب:
ولما بدالي طيف ليلى تجـــاوبت مآذن عشرٌ في ضلوعي أصــونُها
وأمسكت عيني أن تسيل أمــامها فلما رأت بلواي سالت عيــونُها
تصبرت عن ليلى وليلى قصيــةٌ فلما دنت خان القلوب حــنونُها
هذا عبث!!
ماذا دهاك بحق ربك يا وَلَدْ
لم يبق إلا خطوتان لتفتحا أبواب ويلْ
وأراك إما هاذياً أو كاذباً وراغباً في أن تداري بعض نفسك من أحدْ
من عادة الإنسان في هذي المواقف أن يحس بأي شيء يشتهيه سوى الطرب
إذ ليس من حسن الأدب
أن تُلبسوا أسد المنايا ذا الرؤوس الألفِ
حفاظات أطفال وقبعةً بذيلْ
لكنَّ هذا ما حدث!
يا ساجني شكرا فقد أوصلتني
الحبل في عنقي ، قرأت شهادتي،
ألقى بي الجلاد في البئر التي تحتي وتحتكمُ جميعاً
كلنا يمشي ببئر تحته مسدودةٍ لكن الى ميعادِها
قالوا الحياة رفيقة غدارة وأزيد لكن الردى خصم وفيّ
ألقى بي الجلاد في بئري فمتْ،
ألقى بي الجلاد فيّ.
لكنني في صبح ذاك اليوم كنت أسير بين مشيعيه
ومشيعيّ !