كلمات في الإمام الحسين عليه السلام
الكلمة الأولى:
الحسين, كلمة الحق التي تفّتحت على معاني الخير كلّه وانغلقت على معاني الشر كلّه, وهذه الكلمة هي الميزان الحاسم للمواقف كلها, فلا يصح عندها التردد لمن قصد الحق كلّه. حكم الحسين في ذلك هو حكم القرآن الذي يحكم على الراد عليه كالراد على رسول الله والراد على رسول الله راد على الله تعالى بلا أدنى شكّ.
فالحسين (ع) قوله وفعله حجة إلهية, ولا يرد هذه الحجة إلا جاهل وجب أن يتعلم أو معاند وجب عليه العذاب. هذا ما نعتقده في الحسين (ع) سبط النبي محمّد (ص) ذلك الامتداد الرسالي لرسالة الإسلام الناجية .
وتقع مسؤولية بيان هذه الكلمة الحسينية في المرحلة الأولى على عاتق الذين عرفوه حق المعرفة بأن يعرّفوه للآخرين حتى يهلك الله من يهلكه عن بيّنة ويحياه من أحياه عن بيّنة. أليس هو القائل في محكم كتابه (وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولاً)؟
والرسول هو الذي يبين الحق ليتم الحجّة, وقد تمثّله سطور تحملها إليك هذه النشرة التي رنتْ بين يديك, كونها تنطق معك عن مفاهيم الرسالة والرسالية والرسولية لتبث باسم الحسين ما أراده الله عزّ وجلّ للإنسان في هذه الحياة التي ربح فيها قوم وخسر فيها آخرون.
فلكي تكون أيها القارئ العزيز من القوم الرابحين بإذن الله جئناك بهذه الكلمة الحسينية لنقول: لا للعصبية, لا للجاهلية, لا للانقسامية, نعم لعكسها تماماً, نعم للحوار والإنفتاح, نعم للوعي والعلم والمعرفة, نعم للإتحاد والتعاون رغم كل اختلاف وتفاوت.
هكذا كان الحسين وهكذا هو المطلوب من شيعته أن يكونوا , وفي ذلك لا يجامل الإمام الحسين أحداً لأن المجاملة في الترخيص لمعصية الله تعالى إفناء لرسالته الإسلامية ذات المفاهيم الحضارية الراقية. فقد جاءه رجل وقال: يابن رسول الله .. أنا من شيعتكم. فقال له الحسين: (إتّق الله ولا تدّعينّ شيئاً يقول الله لك كذبتَ وفجرت في دعواك, إن شيعتنا من سلمتْ قلوبهم من كل غش وغل ودغل, ولكن قل أنا من مواليكم ومن محبّيكم).
فالشيعي إذن ليس بالإسم والعنوان والإدعاء بل وحتى حضور المآتم للعزاء ، انما بممارسة الأخلاق الحسينية العظيمة والتزام التقوى في الفكر والفعل.
الكلمة الثانية:
إن لتحقيق أي هدف في الحياة لابد من توفر ثلاث دوافع لدى الإنسان الهادف وهي على شكل الترتّب.
الأول: معرفة الهدف المنشود.
الثاني: الحبّ الشديد له والميل إليه بصدق وإخلاص.
الثالث: الطاعة والالتزام بكل ما يؤدي إليه.
ذلك لأن (معرفة الشيء) تولّد (محبته) وهذه تولّد (الطاعة لكل ما يطلبه ذلك الشيء).
ففي مجال العبادة مثلاً يقول الإمام علي (ع) واصفاً عبادة الملائكة: (قد ذاقوا حلاوة معرفته, وشربوا بالكأس الرويّة من محبته ... فحنّوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم).
وهكذا ينطبق هذا القول كقاعدة عامة على كل العابدين والهادفين لتحقيق غاية نبيلة في حياتهم. فمثلاً حينما نريد تحقيق الغايات التي سقاها الحسين (ع) بدمه ودماء أولاده وأصحابه نجد أمامنا ضرورة (معرفة الحسين كشخص كريم وإمام عظيم ومنهج قويم صاحب تلك الغايات النبيلة) فتترتب على هذه المعرفة (محبّته كإنسان عاش من أجل القيم وقُتِل على سبيل الدفاع عنها مظلوماً عطشاناً غريباً) وتترتب على هذه (الطاعة له و الالتزام بتوجيهاته الرسالية في كل ما نستطيع إليه دون الميل إلى الأهواء الشخصية وتغليفها بحب الحسين).
عند ذلك سيجد الإنسان (العارف المحب المطيع) أنه مع الحسين في مشاعره وشعائره , فلا يكون حينئذ كاذباً إذا قال في زيارته (ع) (يا ليتني كنت معكم)!
فمن غير المعرفة السليمة والمحبة الصادقة والطاعة المخلصة إذن لا يمكن لأي أحد أن يدّعي كونه شيعياً, لأن الشيعي هو من يشايع إمامه ويخطو خطواته في عباداته وأخلاقه ومواقفه.
يقول أبان بن تغلب, قال الإمام الحسين (ع): (من أحبّنا كان منا أهل البيت) فقلت: منكم أهل البيت؟ (فقال: منا أهل البيت) حتى قالها ثلاثاً. ثم قال (ع): (أما سمعتَ قول العبد الصالح فمن تبعني فإنه مني).
الكلمة الثالثة:
حاول هواة السياسة توظيف ثورة الحسين (ع) لرغباتهم السياسية فبرّقوا الهدف منها وكأنها لم تكن إلا لقلب نظام الحكم السياسي الأموي!
ولكننا نقول بضرس قاطع: بل إنه ثار لقلب نظام الأخلاق السيئة التي سادت حياة الفرد والمجتمع على مستوى الحاكم والرعية, ولكن الأولوية العلاجية قد صوّبها الحسين (ع) إلى المنبع الذي كانت تصب منه الرذائل كلها على رؤوس الأمة, وكان يتمثل في (يزيد بن معاوية) لا بصفته حاكماً فاسداً ومتجاهراً بالفسق والفجور فقط بل بصفته مؤسساً لمنهج إنحرافي شمولي خطير في الأمة. مثل ذلك كمثل الحريق لما يندلع ليلتهم كل شيء أمامه فيتوجه الإطفائيون الحاذقون إلى مصدر الإشعال ومنبع الأخطار ، وإن كان ذلك لا يمنع غيرهم أن يعملوا جهدهم لإطفاء الحرائق الفرعية من حوله.
فالسياسة الفاسدة والنظام والاقتصادي الناهب والمجتمع المتحارب والأسر المتفككة والأمراض المتفشية والأفراد الضائعون والحلول المغيّبة, كل ذلك نتيجة انعدام الرؤية الأخلاقية الصالحة والشاملة إلى الإنسان والحياة وقد كان الحسين ثائراً من أجل هذه المنظومة البنيوية .
وهذا ما يتضح للقارئ المتأمل في بيانات الإمام الحسين وخطاباته ومواقفه الإنسانية الفريدة من نوعها في طول المسيرة التي رسمها بعد موت معاوية إلى كربلاء الدامية حتى لحظة عروج روحه الزاكية.
أليس الإمام (ع) أعلن أنه سائر إلى الشهادة, فالسائر إلى الشهادة ليس سائراً نحوتقلّد الحكم والوصول بنفسه إلى السلطة السياسية للمجتمع, بل يريد بعمليته الإستشهادية أن يهز ضمير الأمة الساهية, علّها تنتبه وتسأل نفسها لماذا أقدم سبط الرسول (ص) إلى هذه العملية ثم تنبش في الأسباب والأهداف وتتحرك نحو الأصلاح الجذري .
وتدلنا الى هذه النظرية سيرة بقية الأئمة من ولد الحسين (ع) حيث سايروا الانحراف السياسي في الحكم ما دامت الأصول الأخلاقية ومحاولات الإصلاح النسبي كانت ممكنة حيث من بعد النهضة الحسينية والإنتفاضات الوليدة منها في الأمة, أخذ الحكام يحسبون حساباً لمواقفهم فلم يتجاهروا بما تجاهر به يزيد من فسق وظلم وكفر, ولو كانوا لكان كل إمام من أئمتنا ينهض كالحسين (ع).
من هنا ورد عنهم _ عليهم السلام _:
(كلنا أبواب النجاة وباب الحسين أوسع, وكلنا سفن النجاة وسفينة الحسين أسرع).
ومن هنا نُسبتْ الى الامام الحسين ( عليه السلام )هذه الأبيات:
سبقتُ العالمين إلى المعالي *** بحسن خليقة وعلوّ همّة
ولاح بحكمتي نور الهدى *** في ليالٍ بالضلالة مدلهمّة
يريد الجاحدون ليطفؤه *** ويأبى الله إلا أن يتمّه
الكلمة الرابعة:
إذا ربطنا قول رسول الله (ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) بقوله الآخر: (حسين مني وأنا من حسين). وهما حديثان متواتران عند كافة المسلمين, لعرفنا أنّ الحسين هو الامتداد الرسالي لإتمام مكارم الأخلاق, ولكن فما هي هذه المكارم الأخلاقية؟
يقول النبي (ص) إنها ثلاثة: (صِلْ من قطعك, واعط من حرمك, واعفُ عمّن ظلمك).
تلك هي المبادئ المغيّبة عن سلوك غالبية المسلمين, بل المغيّبة حتى على نطاق الأفراد في الأسرة الواحدة, علماً أنّ الأخلاق الرسالية عند رسول الله (ص) أوسع نطاقاً من هذا, أي حتى على صعيد الأعداء فقد كان الرسول يعفو ويعطي ، ولدى النظرة الى سيرة الامام الحسين نتذكر سيرة جده محمد (ص) في الأخلاق كلها دون تفريط ولو ببعضها . وهذه الحقيقة تلزم كل مسلم ومسلمة بعدم الفصل بين السبط والجد الكريمين كما تلزم اتخاذ السلوك الأخلاقي التالي:
- الأنفتاح على الجميع ولا يمارسون الفئوية.
- العمل على جمع الكلمة ويعيقهم حبّ الذات وتقديس الأنانية عن تحقيق هذا الهدف الكبير.
- النظر إلى أعلى درجات الجنة ورضوان الله أكبر عندهم من كل شيء.
- الأستعداد لكل شيء إلا ما يسخط الله عليهم.
- الحوار لاكتشاف الأصوب وإتباع الأحسن.
- التطلع للتغيير إلى الأفضل في كل شيء.
الحسين يبحث عن أنصار بهذه المواصفات التي تختزن العقيدة السليمة والأخلاق الكريمة والرؤية الواضحة واعتماد المرونة بالحكمة وبُعد النظر, تلك هي ضمانات النجاح في إقامة الحق بكل أبعاده وأوسع آفاقه وتحقيق العدل والحرية واحتضان التعدديات والرأي الآخر كذلك.
الكلمة الخامسة:
النقد والنصيحة ضرورتان للتطوير والانتقال من درجة إلى درجة أفضل في الحياة, ولكن بعض الباحثين عن الأفضل من دعاة التطوير والتحضّر لماذا نراهم لا يتحملون النقد والنقاش ويشكّكون في الناصحين ويقتلون سنة النصيحة في المجتمع؟
إن لهذه المشكلة عدة أسباب, فقد يعود بعضه إلى حبّ الذات وممارسة الأنانية وتثبيت المحورية والزعامة الأوحدية ، وقد يعود بعضه إلى التعب النفسي وضعف الأعصاب ، وقد يعود بعضه إلى مزاج الإنسان الموروث أو برجه الناري حين الولادة ولم تسعفه التربية الإيمانية للتغلّب عليه.
أما الحسين بن علي (ع) فهو رغم عصمته عن كل خطأ ونزاهته عن كل خطيئة فقد كان يتحمّل النقد وإن كان من هادم ومستهزئ, وكان ردّه الهادئ انتصاره الساحق عليه. من ذلك ما ورد أن رجلاً قال للحسين (ع): إن فيك كبراً, فقال – بكل سعة صدر -: كل الكبر لله وحده, ولا يكون في غيره, قال الله تعالى: (فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين).
ولكن في مجتمعنا لو قال أحد لشخص إن فيك كبراً - أي أنك متكبر - لرفع الدنيا عليه ولم يقعدها, واستخدم الدين غطاءً للدفاع عن نفسه ورمي التهم على غيره !
ولما عزم الإمام الحسين (ع) على الثورة فقد جاءه كثير من الصحابة والقرابة والوجهاء ينصحونه بالتراجع أو ينتقدونه, فما كان لهم إلا مستمعاً جيداً ثم مجيباً كما يلي:
(فإذا صرت إليها استخرت الله تعالى في أمري بعد ذلك) أو كان يقول (يقضي الله ما أحب) أو كما قال لأحدهم وكان ناصحاً بلا نفاق (قل فو الله ما أظنك بسيء الرأي) وقال لأحد أقربائه (جزاك الله خيراً يابن عم, فقد والله علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل, ومهما يقض من أمر يكن, أخذتُ برأيك أو تركتُه فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح).
وهكذا كان موقفه أمام النقد والنصيحة وأما موقفه إذا أراد أن ينتقد ليصحح الخطأ أو يبدي رأيه في شيء فقدكان يلتزم بأدب النقد وأخلاق الكلمة. قيل له ذات مرة إن أباذر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى, والسقم أحب إليّ من الصحة. فقال (ع): (رحم الله تعالى أباذر, أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ له).
وعندما قيل في محضره: إن المعروف إذا أُسدي إلى غير أهله ضاع. قال (ع)مصححاً: ليس كذلك ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البرّ والفاجر).
ونجده يقول لرجل اغتاب عنده رجلاً: (يا هذا كُفّ عن الغيبة فإنها إدام كلاب النار). هذا هو منهج الحسين (ع) في النقد وقبول النقد, فهل نتعلمه في سلوكنا مع الآخرين؟ أم نرد على الناصحين برصاصات الاهانة والإتهام والتسقيط ؟
الكلمة الخامسة:
جبهتان تستعدان للمواجهة العسكرية, إحداهما مظلومة والثانية ظالمة بلا أدنى شك في ذلك, لأن الجبهة التي يقف في قيادتها الإمام الحسين سبط رسول الله لا يمكن أن تكون الا الحق (المظلوم) والجبهة التي يقف في قيادتها يزيد وابن زياد وابن سعد وشمر بن ذي الجوشن هي الباطل (الظالم) قطعاً.
مع ذلك فلا تستغرب إذا وجدت الإمام الحسين وهو لا يقاس ولا يقارن بأعدائه يدعو ابن سعد (القائد الميداني لجيش الباطل في كربلاء) يدعوه إلى الحوار, وذلك قبل ساعات قليلة من بدء المواجهة الدموية, وبالطبع لا يصدر من الحسين (ع) ذلك لا لضعف وجبن وحب في العيش لأيام معدودات, بل ليتم الحجة على الذين يدخلون النار أملاً في إنقاذهم منها,وكذلك ولكي يخلّد الحسين (ع) أهمية الحوار عند احترام الصراع بين أشخاص أو أحزاب من المسلمين.
هكذا كتب المؤرخون أن الحسين (ع) أرسل إلى ابن سعد: (إني أريد أن أكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك).
نعم ... وتم هذا الحوار ولكن لم يقتنع ابن سعد بنصائح الإمام الحسين (ع) وكادت ليتفطّر منها الصخور لو لا أن قلب ابن سعد كان أقسى منها وإن كانت النتيجة واضحة عند الحسين بن علي (ع) قبل دعوته له إلى اللقاء والحوار.
والسؤال هنا: أين هذا المنهج الحسيني من طريقة أدعيائه الذين تؤدي بهم الخلافات الهامشية التافهة إلى مشاحنات وبغضاء وكره مستمر, فلا يسلمون على بعضهم فضلاً عن اللقاء وفضلاً عن الحوار! فأين يضمر الخلل؟ هل لأن خلافاتهم أكبر من خلافات الإمام الحسين (ع) مع ابن سعد أم لأن الجهل والحقد يقودان مواقفهم؟ فما هو السبب في هذه الظاهرة الفصامية بين الحسين (ع) وبعض المدّعين حبّه .
إن السبب لايكون غير الثقافة القشرية والتربية السطحية والنفوس الضعيفة والطموح المادي وحبّ الرئاسة والمحورية وغياب الهدفية والحضارية عنهم.
وإلا فلماذا لا يتحاورون ليريحوا الناس من شر الخلافات وطامّة الانقسامات في الانقسامات, حتى صارت كل فئة تحمل في داخلها قنبلة انشطارية, إن لم تنفجر اليوم فهي مرشحة للانفجار غداً لتعلن فئة عن حقها في الوجود بقيادة (...) في حرب على (...) وهو أخيه بالأمس!
فسلام الله عليك يا أبا عبد الله الحسين أيها المظلوم الغريب بين الجميع!
الكلمة السابعة:
لماذا الإكراه على الولاء والبيعة للمرجع الفلاني أو الحاكم الفلاني وإلا فعليك غضبه أو غضب أتباعه والمصفقين أو المكبِّرين؟
ولماذا إذا رفض شخص هذا الولاء والبيعة أو لم يرفع يده بالدعاء للمرجع الفلاني اجتمعت كلمة الإدارة في المأتم أو المسجد على نبذه وتسقيطه وتشويه سمعته ؟ وما فائدة الولاء والدعاء في جو الإرهاب الفكري والإكراه الديني أو السياسي؟ أليس هذا يولّد النفاق والتملّق وتضييع القيم والكفاءات وتقديس الذوات؟ وهل يا ترى تنبض الحرية بحياتها في أجواء كهذه؟
الحسين (ع) يجيبنا على هذه الأسئلة عبر موقفه التالي:
في طريقه إلى كربلاء أقبل (ع) حتى مرّ بمنطقة التّنعيم, فلقي بها عيراً قد اُقبِل بها من اليمن, بعث بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية _ وكان عامله على اليمن _ وعلى العير الورس والحلل ينطلق بها إلى يزيد, فأخذها الحسين (ع) فانطلق بها.
ثم قال لأصحاب الإبل: (لا أُكرهكم, من أحبَّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته, ومن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض).
فمن فارقه منهم حوسب فأوفى حقّه, ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه.
أنظر..كم رائع هذا العدل الحسيني مع الكراء, وكم رائع أخذُه لتلك الأموال التي هي أموال المسلمين ولكنها كانت على طريقها إلى الطاغوت الأموي, فأرجعها سبط الرسول (ص) إلى استحقاقاتها الشرعية مع الالتزام الكامل بالأخلاق الإسلامية. إنه لا يعترف بيزيد بن معاوية, أليس الحسين (ع) هو الحاكم الإسلامي الحق, وهو الأحقّ بالتصرّف؟
فما نشاهده في هذا الموقف هو احترام الحسين (ع) لحق العمال وحريتهم في الإختيار, إذ لم يفرض عليهم الولاء والبيعة والخروج معه. وإن هم ذهبوا عنه فسيعطيهم أجورهم على أتعابهم, فلا يتهمهم بالخروج على طاعة الإمام (ولي أمر المسلمين) كما يحلو لجماعة من الشيعة في مجتمعنا إذا لم يؤمن غيرهم من الشيعة ببعض آراء مرجعهم!
ونتسائل هل المرجع الفلاني أو الحاكم الفلاني أرفع شأناً ومقاماً من الإمام الحسين (ع)؟ كيف يفرض أتباع هذا وذاك ولائهم على من لم يقتنع أو أنه أعطى ولاءه ودعاءه وبيعته لمرجع أو حاكم آخر؟
هلاّ نتعلم من الحسين (ع) قيمة الحرية وإعطاء حقوق من لا يتفق معنا ؟
الكلمة الثامنة:
لماذا الإكراه على الولاء والبيعة للمرجع الفلاني أو الحاكم الفلاني وإلا فعليك غضبه أو غضب أتباعه والمصفقين أو المكبِّرين؟
ولماذا إذا رفض شخص هذا الولاء والبيعة أو لم يرفع يده بالدعاء للمرجع الفلاني اجتمعت كلمة الإدارة في المأتم أو المسجد على نبذه وتسقيطه وتشويه سمعته ؟ وما فائدة الولاء والدعاء في جو الإرهاب الفكري والإكراه الديني أو السياسي؟ أليس هذا يولّد النفاق والتملّق وتضييع القيم والكفاءات وتقديس الذوات؟ وهل يا ترى تنبض الحرية بحياتها في أجواء كهذه؟
الحسين (ع) يجيبنا على هذه الأسئلة عبر موقفه التالي:
في طريقه إلى كربلاء أقبل (ع) حتى مرّ بمنطقة التّنعيم, فلقي بها عيراً قد اُقبِل بها من اليمن, بعث بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية _ وكان عامله على اليمن _ وعلى العير الورس والحلل ينطلق بها إلى يزيد, فأخذها الحسين (ع) فانطلق بها.
ثم قال لأصحاب الإبل: (لا أُكرهكم, من أحبَّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته, ومن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض).
فمن فارقه منهم حوسب فأوفى حقّه, ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه.
أنظر..كم رائع هذا العدل الحسيني مع الكراء, وكم رائع أخذُه لتلك الأموال التي هي أموال المسلمين ولكنها كانت على طريقها إلى الطاغوت الأموي, فأرجعها سبط الرسول (ص) إلى استحقاقاتها الشرعية مع الالتزام الكامل بالأخلاق الإسلامية. إنه لا يعترف بيزيد بن معاوية, أليس الحسين (ع) هو الحاكم الإسلامي الحق, وهو الأحقّ بالتصرّف؟
فما نشاهده في هذا الموقف هو احترام الحسين (ع) لحق العمال وحريتهم في الإختيار, إذ لم يفرض عليهم الولاء والبيعة والخروج معه. وإن هم ذهبوا عنه فسيعطيهم أجورهم على أتعابهم, فلا يتهمهم بالخروج على طاعة الإمام (ولي أمر المسلمين) كما يحلو لجماعة من الشيعة في مجتمعنا إذا لم يؤمن غيرهم من الشيعة ببعض آراء مرجعهم!
ونتسائل هل المرجع الفلاني أو الحاكم الفلاني أرفع شأناً ومقاماً من الإمام الحسين (ع)؟ كيف يفرض أتباع هذا وذاك ولائهم على من لم يقتنع أو أنه أعطى ولاءه ودعاءه وبيعته لمرجع أو حاكم آخر؟
هلاّ نتعلم من الحسين (ع) قيمة الحرية وإعطاء حقوق من لا يتفق معنا ؟
الكلمة التاسعة:
غداً هو يوم العاشر من شهر محرّم ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) سبط النبي محمّد (ص). حيث ذبح وإخوته وأولاده وأصحابه وسبيت نساؤهم وأطفالهم وتحركت قافلة السبايا ، تتقدمها رؤوس الشهداء مرفوعة على الرماح في مسيرة امتدت من أرض المعركة (كربلاء) إلى أرض الطغاة (الكوفة) ثم (الشام عاصمة الظلم الأموي الصارخ) وهكذا أهديت رؤوس الطيبين من آل الرسول إلى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وهنا سؤالان ننفتح بهما على ملف هذا الحدث التاريخي الفجيع:
الأول: لماذا وقعت هذه الجريمة بحق الطاهرين من آل محمّد وبأيدي المنتسبين إلى أمته؟
الثاني: ما هو واجبنا تجاه هذا الحدث ونحن نجدّد قراءته بعد قرون؟
تحدث الجرائم بعد مقدمات, فجريمة مثل التي أمر بها يزيد بن معاوية ونفذها ابن زياد واليه على الكوفة وباشرها ابن سعد قائد الجيش, والتي اهتز منها عرش الله وبكت عليها ملائكة السماء وشاركت الكائنات المسبّحة حزن رسول الله وأهل بيته والأنبياء والأولياء, لا تحدث بلا مقدمات ، ونترك تفاصيلها رعاية للإيجاز:
1- غياب الوعي السياسي في الأمة وغلبة الروح النفعية واللامبالاة والكسل.
2- التفرق عن الحق وعدم مناصرة أهله والتضحية له.
3- توالي الضربات وحدوث الانتكاسات المتكررة حتى أولدت اليأس القاتل وأذهبت الأمل.
4- اعتبار المعارضة حالة شاذة خارجة عن الشرعية, وتأليب الرأي العام ضدّها تحت غطاء الشرعية.
5- ثقافة القدرية وأن الله يحاسب الناس على أفعالهم في الآخرة وأننا لسنا مسئولون عن شيء في الدنيا كتقويم الأخطاء السياسية والاجتماعية والعقائدية.
6- سيطرة الجهل والعصبية وعدم القيام بالتحرّي عن الحقائق وقراءة الآراء المتباينة ومقارنتها وتقييمها بروح حيادية لاتباع الأحسن وكشف الزيف وتجنبه.
ونبحث عن هذه المقدمات تلك الجريمة البشعة ، وأما الواجب لكيلا تتكرر مثيلاتها:
1- القضاء على مقدماتها المماثلة, والعمل على عكسها لئلا نكون مجرمين من حيث نشعر أو لا نشعر.
2- إحياء ذكرى المظلومين لتحفر في ذاكرة الأجيال أن جريمة الظالمين مدانة في كل زمان, وأن القبيح قبيح في كل زمان.
3- توفير الفرصة لدراسة الحدث وبث روح الإصلاح من خلالها في المجتمع تكريساً للقيم الإنسانية وتطويراً لميادينها المتغيرة عبر الزمن.
4- التاريخ مدرسة الخير والشرّ ومختبر التجارب الناجحة والفاشلة, فلابد من الانفتاح عليه لاختصار الطريق إلى الخير والنجاح.
5- إن الوفاء ضرورة أخلاقية وعامل للثبات والاستقامة على الحق وحسن العاقبة. وقد كان الحسين (ع) عنوان الأخلاق كلها والحق كله وهو الأسوة العظيمة فيها إلى يوم القيامة, أليس جدّه الرسول (ص) قال: (إن لدم الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً)؟
فغداً عاشوراء, والمطلوب أن نكون من الأوفياء لهذه القيم الخالدة .
الكلمة العاشرة:
في يوم العاشر من محرم عام (61) الهجري سُفِك الدم الحرام, دم الحسين وأولاد الحسين وأصحاب الحسين, والسؤال من المسؤول عن وقوع هذه الجريمة الشنعاء؟ وسؤال آخر: هل للإجابة عليه بعد (1367) عاماً ثمة حكمة وفائدة؟
عن السؤال الأول نجيب بأن جريمة قتل الحسين وبتلك الحيثيات الأليمة انما ارتكبتها الثقافة المسيَّسة بالأهواء والمغلَّفة بقشور الدين الإسلامي .
وقد حذّر منها رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) قبل حدوث الجريمة . و إليها أشار الإمام الحسين (ع) بنفسه حينما تكالب الناس عليه وتخاذل آخرون عن نصرته قائلاً: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون) فالمصالح المادية الطاغية على روح الدين الإسلامي هي القاسم المشترك لصناعة الجريمة.
ومع الوصول إلى هذه الإجابة على السؤال الأول نكتشف الحكمة والفائدة من الإجابة على السؤال الثاني أيضاً. تلك هي العبرة من الحدث, والتي تتلخص في:
1- ضرورة البناء الثقافي على أسس العقائد القرآنية المفسِّرة بأقوال النبي وأهل بيته.
2- ضرورة التربية الدينية والاهتمام الجاد بزرع القيم الأخلاقية في الجيل الناشئ.
3- ضرورة الإيثار والإنفاق المالي للإقلاع عن حب الدنيا والبهارج المادية.
4- ضرورة نبذ العقلية التسلطية والرغبة الجامحة في الزعامة والرئاسة والقيادة بعيداً عن التقوى , ومن الخطورة إذا تلبست هذه العقلية والرغبة الأنانية بذرائع من الدين ،إذ يبرر دعاته حبهم للتزعم والسيطرة بأنهم حفاظاً على الدين والشرع يعملون ما يعملون.
وبمثله برّر قتلة الحسين (ع) سفكهم لدماء الطيبين , وبمثله برّر الذين ظلموا وهتكوا وشوّهوا سمعة الأبرياء, وبمثله يبرّر اليوم كل الذين يأصّلون سلوكهم التنازعي وتسقيطهم لمن يزاحم زعامتهم أو صعوده بين الناس يؤثر على حجم أرصدتهم المالية!
هذه الثقافة قتلت الحسين وقتلت كل الحسينيين في التاريخ ولا زالتْ تحصد رؤوسهم . فهل نقرّر في عاشوراءنا اليوم أن لا نقتل الحسين بهذه الثقافة والفكر والتربية وفقه التبريرات ؟
نعم هذه الثقافة هي القاتلة؟
والضحية أمة تقتلها ثقافة الأنا, ثقافة الرأي الواحد, ثقافة إلغاء الآخرين وتكفيرهم والتشكيك في دينهم. إن عاشوراء الحسين مناسبة لنقد الثقافة المزيّفة والبحث عن ثقافة اكثر أصالة وإشراقة رسالية وروح منفتحة على متطلبات العصر وفهم حضاري للحياة وما بعدها من حساب وكتاب