خالي العزيز رحلتَ عن دنيان
وتركتنا فيها نجرُّ خُطانا
كُنَّا نؤمِّلُ أن نراكَ وإنْ نأى
بكَ منزلٌ عنَّا وأنتَ ترانا
حتى إذا كتب الإله قضاءهُ
فارقتنا فتعذَّرتْ لُقيانا
ما عاد لي أملٌ بلُقيا راحلٍ
عشنا الطفولة عنده وصبانا
سبعونَ عاما في الحياة وسبعة
صارتْ لعُمرك عندنا عنوانا
أفنتكَ أم أنتَ الذي أفنيته
لا فرق مادام التفرُّق كانا ؟
أَطَويْتَ عمركَ ، أم طواك ، كلاهم
يتساويانِ وقد نأيتَ مكانا ؟
تمضي بنا الأعوامُ ، يطوي بعضه
بعضاً ، ويطوي طيُّها الإنسانا
خالي العزيز ، رحلت رِحلة فارسٍ
ركب المصاعبَ في الحياة حصانا
عرفتكَ أوقاتُ الصلاةِ مُبادر
صوتَ الأذانِ ، تُرتِّل القرآنا
ورآكَ شهرُ الصَّومِ عاشق صومِهِ
وأخا قيامٍ ينشدُ الرَّيَّانا
مرَّ الزَّمان كأنَّما هو لحظة
جمعتْ ثوانيها لنا الأزمانا
وكأنَّما هو طَيْفُ حلمٍ عابرٍ
لمَّا تعلَّقنا به جافانا
سبقاكَ ، جدِّي ، والحبيبةُ جدَّتي
سبقاً أثار شجوننَا وأسانا
وتقدَّمتْ أمِّي التي من أجلن
كانت بِصدقِ عطائها تتفانى
رحلت عن الدنيا بِنبضِ قلوبن
معها ، وأبقتْ عطفها وحنانا
ما زلتُ أذكرها تحوِّل كفَّه
حقلا بخير ثمارهِ غذَّانا
وتحوِّلُ الأهداب ظلاَّ كلَّم
هبَّتْ رياحُ همومنا غطَّانا
رحلوا عن الدُّنيا فصار بكاؤن
لغةً تصوِّرُ قَدْرَ منْ أَبكانا
وَرَحلتَ أنتَ الآن مِثلَ رحيلهم
فكأنَّما الماضي يعودُ الآنا
هل تلتقي الأرواح ، ذلك علمهُ
عند المهيمنِ خالقاً منَّانا ؟
خالي العزيز يكادُ يلجمُ أحرفي
ألم الرَّحيل ، و يُلجمُ الأوزانا
وأكادُ أشعرُ أنَّ كلَّ إشارةٍ
للذكرياتِ تؤجِّجُ النيرانا
ماذا سأذكرُ من حياةٍ كلُّه
ذكرى ، وذكرى تبعثُ الأشجانا
هل أذكر البيت القديم من الحص
و الطِّينِ شيَّد أهلهُ البنيانا ؟
هل أذكر (السَّنُّوتَ ) في أحواضهِ
و ( بعيثَران ) الدَّارِ و ( الرَّيحانا ) ؟
هل أذكر الجبل الأشمَّ وحولهُ
شجرٌ يمدُّ غصونَهُ خِيطانا ؟
أم أذكر ( الشِّعبَ الخصيب ) ولوزَهُ
و التينَ والزَّيتونَ والرُّمَّانا
أم أذكر (الكُرَّ) الصغير و(قفَّهُ)
و ( الغَرْبَ ) يصعدُ مفعما ملآنا
أم أذكر (المَحَّالَ) و ( الدَّرَّاج ) في
نغميْهِما صوتُ المَدَى نادانا
يتسابقان و( للمقاطِ ) و ( للرِّشا )
أثرٌ عميق فيهما قدْ بانا
تلك السَّواني تنزح الماء الذي
في الكُرِّ حتَّى تُنعشَ الأغصانا
هل أذكر المطرَ الغزير إذا هَم
سحًّا وأذكر بعدها الغُدْرَانا
ماذا سأذكر أيُّها الغالي الذي
هجر الطريقَ وفارقَ الميدانا
قالت : أراكَ حزِنتَ ، قلت لها : نعم
إنَّ الفراقَ يؤجِّجُ الأحزانا
قالت : وأين الصبرُ ، قلت لها : معي
فأنا أخوض بِصبريَ الطُّوفَانا
فالصبرُ عند الصدمة الأولى إذ
حمَّ القضاء ، يُهدِّئُ الوجدانا
ورضا النفوس بما يقدر ربُّه
شرفٌ تنالُ بنيلِهِ الإحسانا
ويظلُّ في لغةِ الأسى بابٌ لن
حتَّى نعبِّرَ فيهِ عن شكْوانا
لا بأس من حزنٍ ودمعٍ ، دونم
جزَعٍ ، تفجَّرُ نارُهُ بركانا
لا تسألي ، يا من سألتِ فإنَّ لي
في كلِّ ما سطَّرتُهُ برْهَانا
الخالُ في نظَر الشريعةِ والدٌ
فبهِ الرسول المصطفى وصَّانا
يا قلبُ ، خفِّف من أنينكَ راجع
للهِ ، واجعلْ ذِكرهُ اطمئنانا
لا تجعل الحزن المُهَيمنَ صاحب
يعطيكَ من حسراتِه ألوانا
إنَّ الحزينَ إذا تعاظمَ حزنُهُ
حسبَ الخلائقَ كلَّهنَّ حَزَانى
خالي العزيز ، فمُ القصيدةِ لم يزلْ
متلعثما ، وفؤادُها حيرانا
عجزتْ وربِّكَ أنْ تصوِّر لوعتي
أنَّى تصوِّرُ جمرةً ودُخانا ؟!
لكنني أطفأتها بتصبُّري
وجعلتُ طاعة خالقي ميزانا
طيَّرتُ سرباً من دعائي صاعد
نحوَ السماءِ أناشِدُ الرَّحمانا
يا ربِّ هذا الخالُ أمسى وَحدهُ
فامنح لهُ أنساً وهَبْهُ أمانا
وافتح له أبوابَ رحمتك التي
تدنِي إليه الصَّفح و الغفران
أسكنه يا ربِّي و كلَّ موحِّدٍ
سلكَ الطَّريق المستقيم جِنانا