"العائلة البغدادية، عاداتها وتقاليدها ونشاطاتها بين الماضي والحاضر: ظاهرة يوم الجمعة نموذجاً"

العادات هي كل الأمور التي تعلمناها واعتدنا عليها. أما التقاليد هي الموروثات الثقافية عند أجدادنا، إذاً فالعادات والتقاليد تظهر شخصية الإنسان حسب الإنتماء والمكان، وتشعرك بأهمية وضرورة أن يكون للإنسان وطناً، تخلق الذكريات وتعزز الروابط بين الناس، وكذلك تقلل من حجم الفجوة بين الأجيال لوجود روابط مشتركة تعزز الاحساس بالإنتماء والهوية، فمن خلال عمليات تطوير التاريخ الطويل، تكونت لدى مختلف القوميات عادات وتقاليد فريدة من حيث الغذاء والكساء، بسبب اختلاف ظروفها الطبيعية والاجتماعية واختلاف درجات تطورها الاقتصادي، ولهذ يعيش الانسان حياته بطريقة تتوافق مع الظروف المعيشية والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع.

فالعادات والتقاليد تمثل إرثاً ثقافياً يكون أحياناً أقوى من القانون، وهي مجموعة من القواعد التي لا نستطيع تغييرها.
هنالك سر روحي و ثقافي و اجتماعي الذي ابقى العائلة تصر وتؤكد على ممارسة تلك العادات والتقاليد مكيفة ماضيها بحاضرها، و هذا التعلق بها على مر السنين وصمودها رغم الصعوبات المادية والمالية من جهة ورغم دخول ممارسات احتفالية جديدة في ثقافتها. لقد ظلت العائلة تمارس احتفاليتها مكيفة ماضيها بحاضرها بكل ما يحمله من دلالات دينية و اجتماعية وثقافية ونفسية، لأنها مناسبة اجتماعية ومرآة تنعكس فيها طموحات وأماني المجتمع، هنا يصبح لكل مناسبة معنى اجتماعيا مميزا...، ففي المناسبات والاعياد تجتمع العائلة، تشرب وتأكل، تجمع صغارها بكبارها في إطار بروتوكول معين من الزيارات، فيه معان اجتماعية كتضامن من الجماعة، خلق الذكريات ( فهي تدوم طول العمر ليتحدث عنه كل الأجيال القادمة)

تعزيز الرابطة من خلال تشوق أفراد العائلة لموعد لقائهم لتطبيق العادات و التقاليد مع إختلاف المناطق وتفاوت الدرجة الإجتماعية، متوارثة من جيلٍ الى جيلٍ، تختلف باختلاف الأزمنة وتتغير حسب العصور، لكن تبقى هنالك ثوابت لا تتغير ولا تتبدل مع الأيام والأزمان، من بينها (لمّة) الجمعة عند كثير من الأُسر والعائلات، هناك بعض الأشياء التي تعد روتيناً ثابتاً في أغلب البيوت البغدادية يوم الجمعة.
يوم الجمعة في العراق عموما وفي بغداد خصوصا، يوم ينتظره اغلبهم، فهو عطلة نهاية الاسبوع ومحطة لهم للاستمتاع من مشقة العمل والتعب والاجهاد يفعلون ما لم يفعلوه باقي ايام الاسبوع، فهو مختلف عن باقي الأيام الأخرى.. له طقوسه وعاداته ونكهته الخاصة ولاسيما ما يتعلق منها بصلة الرحم حيث تجتمع العائلة في هذا اليوم على مائدة صباحية واحدة لتناول الإفطار "الجمعي".

اعتادت البيوت البغدادية، اتباع العديد من العادات والتقاليد في يوم الجمعة من كل أسبوع، حيث تتميز بها عن باقى دول العالم، فلكل شعب مميزات وخصائص ينفرد بها وتميزه، أهمها اجتماع العائلة على سفرة الريوك، الذي يتألف من اكلة القيمر مع العسل او الدبس

او من تشريب الباقلاء مع البيض والبصل والطرشي، وهي وجبة بغدادية بامتياز، بالاضافة الى الجبن، وختامه الشاي المهيل،

واحيانا على سفرة الغداء مع الاهل والاقارب، لتناول الوجبات الدسمة والمأكولات الشعبية الشهية، يبقى السمك والفاصوليا او البامية مذاق خاص في هذا اليوم وهم في سعادة وابتهاج.

يوم الجمعة مميز عند الكثير من العوائل المسلمة المسلمين، لكونه اليوم الأهم من الناحية الدينية ويحمل قدسية وروحية خاصة، هو يوم صلاة الجمعة، فترى المساجد مليئة بالمصلين، وكثير من المنازل تستمع عن طريقالراديو او المسجل او تقرأ سورة الكهف، ليشعر كل فرد بقيمة يوم الجمعة، لما فيه ثواب وأجر كبير لكل مسلم.

تعتبر السفرات والنزهات في موسم الربيع بالنسبة للبغداديين فرصة للتواصل مع الأهل اوالأقارب او الاصدقاء، والتمتع بنعم الطبيعة وذلك كضرورة حياتية ملحة لكل إنسان يعيش في المدن بهدف التخفيف من ضغط العمل وضجة الحياة،

حيث تقوم حيث تقوم النساء بتحضير الدولمة والعروك والزلاطات المتنوعة واحيانا يقوم الرجال بمهمة الشواء، ويكون الأطفال العنصر الأكثر سعادة بالانطلاق واللعب حيث يملؤون الأجواء فرحا وحياة.
تميل بعض العوائل الذهاب الى النوادي الاجتماعية وخاصة النساءمع اطفالهم، فهى " في كثير من الأحيان" تكون الاختيار الأول على خريطة فسحتهم مع معارفهم من النساء، تلك النوادي تحوي حدائق تحوى بين أرجائها سعادة "مضمونة" وانطلاق ولعب لاولادهم، لذلك، لا يمر يوم الجمعة إلا وقد قامت أغلب تلك الأسر بهذا الأمر.

يميل بعض الرجال الذهاب الى المقاهي البغدادية القديمة التي حفرت لها مكانًا في الذاكرة، وهي مقاهي البلدية، وعارف آغا، والزهاوي، وحسن عجمي، والبرلمان، والشابندر، وغيرها، فيها الثقافة والمناقشة السياسية والادبية وحتى الاجتماعية، والبععض يستمع الى الاغاني التراثية وأغاني أم كلثوم الجديدة والتي كان ينتظروها بفارغ الصبر.

يميل بعض البغداديين فكأنهم على موعد ثابت ومحدد للقاء في "سوق الهرج" منذ صباح كل يوم جمعة، فزيارة هذه السوق تحقق أكثر من متعة وهدف ومن لا يشتري أي شيء فعلى الأقل للفرجة، وهناك تباع التحف الفنية الراقية، وهي تمثل ذاكرة بغداد، بل ذاكرة العراق، لما تحتويه من سلع وصور وتحف،

تمثل كل منها مرحلة من تاريخ العراق، وتروي لك عادات وتقاليد الناس في ذلك الوقت،

كما تنبؤك صور الملوك والزعماء الذين حكموا العراق، والأنتيكات، والأثاث القديم، والمشغولات اليدوية وبأساليب فنية لم تعد متداولة، والأحجار الكريمة، والسبح الغالية، والساعات، والزجاجيات المصنوعة منذ أكثر من قرن،

وأجهزة راديو بدائية، وغرامافون يعمل يدويا، والتسجيلات الموسيقية النادرة، والعملات الورقية والمعدنية والطوابع النادرة، ومكائن الخياطة، والصحون ولوازم المطبخ القديمة، وبقايا أجهزة كهربائية.. وكل الأدوات المستعملة والأشياء القديمة جدًا والتي تكون ذات قيمة تاريخية أثرية، وقد تجد هناك فيها كل نادر وغريب وما لا تجده في غيرها من الأسواق.
غالبا ما تقام الأفراح وطقوس الخطوبة وعقد القران في أيام الجمعة، اجمل توصيف هو ماكتبه الباحث المرحوم عزيز الحجية في كتابه بغداديات حول مراسيم عقد القران: غالباَ ما تتم مراسيم عقد القران في بيت الزوجة أو احد اقربائها أن لم تكن دارها مناسبة حيث يتم تبليغ المدعووين وجاهاَ أو بأرسال رسول أذ لم تكن طباعة رقاع الدعوة منتشرة . ثم شرع بطبع رقاع الدعوة التي توزع على اصدقاء ومعارف العائلتين وفيها تحدد ساعة ويوم العقد وغالباَ ما يكون يوم الجمعة.
بعض من رجال المجتمع وعلية القوم لهم مجالس اسبوعية، كانت هذه المجالس على اختلاف انواعها واشكالها مكاناً يجتمع فيه النخبة من كبار العلماء والشعراء والادباء والصحفيين ورجال السياسة واصحاب الاموال ليتذاكروا ويتناظروا في مختلف العلوم والسياسة والادب، وتتخللها طرائف ونكات، ويختلفون ويتقاضون فيها، وتعقد هذه المجالس في بيوتهم او في الجوامع والمساجد او في المقاهي او في مقرات الصحف، وغالباً ما يحضرها جمع غفير من مختلف شرائح المجتمع اذا ما استثنينا المجالس الادبية التي كان يحضرها الخاصة من اهل الشعر والادب والسياسة والصحافة، وكانت تلك المجالس تعقد في يوم محدد من الاسبوع ولكن الغالب فيها يوم الجمعة، نذكر منها:
مجلس "آل الكيلاني"،مجلس "، مجلس "حكمت سليمان"، محمود صبحي الدفتري"، مجلس "محمد رضا الشبيبي"، مجلس "كمال الدين الطائي"، مجلس السيد "هبة الدين الحسيني" ، مجلس الشيخ "قاسم القيسي"، مجلس العلامة "محمود شكري الالوسي"، ومجلس الاستاذ "إسماعيل الغانم المحامي"، مجلس "عبد الله الخياط"، مجلس"بيت ونه"،مجلس "عطا الخطيب"، مجلس "طه الهاشمي"، مجلس "ياسين الهاشمي"، مجلس"آل بابان"، مجلس "محمد الصدر"، مجلس "الدركزلي"، مجلس "طه الراو ي"، مجلس "آل اليمنجي"، مجلس "طه الجلبي"، مجلس"آل الرحال"، مجلس"احمد الفكيكي"، مجلس"خضر افندي"، مجلس"بيت العسافي"، مجلس"آل البسام"، مجلس "خالد النقشيندي"، مجلس"نعمان الاعظمي"، مجلس " الدكتور سلمان فائق"، مجلس" الدكتور كمال السامرائي"، مجلس "احمد الراوي، مجلس "آل المتولي" في بغداد وسلمان باك وبعقوبة، مجلس "فتاح باشا"، مجلس "آب القرغولي"، مجلس "الشعرباف"، مجلس "آل الوتار"، مجلس "شريف العاني"، مجلس "آل الوتار"، مجلس "آل رفه"، مجلس " رضا الطلباني"، مجلس "ايوب اليتيم"، مجلس "آل الخضيري"، مجلس بيت "الباچه چي" ومنهم حمدي الباچه چي ومزاحم الباچه چي، مجلس "الربيعي"، مجلس "شرقية الراوي" مجــلس "الخاقاني"، مجلس ا"لدكتور ناجي الاصيل"، مجلس الشاعر "معروف الرصافي"، مجلس المفتي الجعفري "الشيخ شكر"، مجلس الدكتور "مصطفى جواد" ، مجلس "قاسم محمد الرجب"، مجلس "عباس العزاوي"، مجلس "الدكتور عبد المجيد القصاب"،، مجلس "محمد صدقي الزهاوي"، مجلس "احمد سوسة، مجلس "محمد بهجت الاثري"، مجلس "الجوربجي"، مجلس "رؤوف الكبيسي، مجلس الخطاط "هاشم محمد البغدادي"، مجلس "عبد الرحمن الزبير"، مجلـس "كاظـم "الدجيلـي"، مجلـس السيـد "حازم المفتي"، مجلس "احمد شوقي الحسيني"، مجلس "محمد القبانجي"، مجلس توفيق "توفيق الفكيكي"، مجلس "آل جميل"، مجلس "فهمي المدرس"، مجلس"آل الشيخلي"، مجلس رشيد العبيدي، ومجلس "عبد الرزاق الحسين" وغيرها.
وظهرت مجالس للبيوتات المسيحية في بغداد اشهرها: مجلس "ال مسكوني"، مجلس "ال غنيمة"، مجلس " ال عيسائي"، مجلس "الاب الكرملي"، مجلس الاخوين "عواد": مجلس "بيت نازو"، مجلس "آل سطيفان، مجلس "آل جرجي"، مجلس "بيت الشيخ"، ومجلس "آل سركيس" وغيرها.
كما ظهرت في بغداد عدد من المجالس اليهودية ومن اشهرها "مجلس مناحيم دانيل"، "مجلس مير بصري"، مجلس "روبين بطاط"، مجلس "صالح قحطان"، و مجلس "يوسف الكبير" وغيرها.
وبعد الاحتلال في 2003، لوحظ انحسار هذه المجالس إلى مجلس واحد، هو مجلس "الربيعي".
أن العائلة البغدادية قد تعرضت لتطورات اجتماعية و ثقافية واقتصادية عميقة أكسبتها عادات و تقاليد جديدة مع الزمن الجديد، منها ماحصل للعراق نتيجة فرض الحصار عليه في بداية التسعينات، فافرزت تقاليد اضافية نود ذكرها:

في التسعينات وبسبب ظرف الحصار الذي عاشه العراق، بعد حرب الخليج الثانية، شارع المتنبي الذي إنشأ في العصر العباسي حينما كان يسمى بسوق الوراقين، كون دكاكينه الصغيرة وبسطاته اختصت ببيع الكتب ومستلزماتها، تحول إلى مزادات للكتب تقام في الهواء الطلق كل يوم جمعة، إذ اضطر معظم أدباء العراق إلى بيع كتبهم لسد رمق العيش،

حتى أصبح نعيم الشطري أحد العلامات المميزة لشارع "المتنبي"، فهو صاحب أكبر مزاد للكتب في الشارع، يجتمع الناس حوله من المثقفين والشعراء والكتاب ليفوزوا بأحد الكتب الثمينة من مزاد العم نعيم، الذي يبدأ بالصراخ بصوته الجهوري، نفتتح المزاد بقصة الحضارة، من يشتري.. من يشتري وهكذا يتوافد الأدباء على هذا الصوت ويستمر حتى المساء، ثم تحول مع الزمن، ليس مجرد مكان للفسحة أو النزهة، بل هو جزء من المشهد الثقافي العراقي وقبلة للمثقفين العراقيين، حيث تتحول أرصفته صباح كل يوم جمعة إلى مكتبات لبيع الكتب، ويزدحم الشارع برواده من مثقفين وسياسيين وكتاب وصحافيين وطلاب ومواطنين، من مشارب وطبقات مختلفة، وبعد أن كان شارع المتنبي مقصدا للنخبة من فنانين ومفكرين وأدباء، كما تشهد المقاهي البغدادية التاريخية القريبة من القشلة، وأبرزها مقهى الشابندر والزهاوي اكتظاظا كبيرا، بات اليوم وجهة رئيسة لعائلات تسعى لتنشئة أبنائها على حب الثقافة والأدب والفنون والاطلاع على النشاطات بكل أشكالها.

في مرحلة ما بعد الحصار ازداد الإقبال على سوق الغزل والذي بدأ بتسميته سوق الطيور بعد ان كان مقتصرا على هواة الطيور فقط،، هذا السوق تقتصر إقامته على صبيحة كل يوم الجمعة، والتي يؤمها العراقيين من مختلف الشرائح والطبقات في هذا اليوم للاستمتاع بمشاهدتها ومنظرها، او لغرض البيع والشراء، الهواة والزبائن الدائمون من مختلف الطبقات الاجتماعية والانتماءات الثقافية وعدد من محبي تربية الحيوانات الأليفة والغريبة لا من بغداد وحدها، بل من عدد من محافظات العراق، كما انها اصبحت مقصداً لزائري بغداد، وللصحافيين في شكل خاص، وفي الصيف عادة تكون السوق في أوج نشاطها، وتعرض خلالها النماذج والأنواع الأكثر غرابة، يتـبادلون أطراف الحديث عن نوعــية الحيوانات والطيـور ومواطنها ومواقيت هجـرتها وخارطـة انتشـاره، وغيرها من الأمكنة التي تعكس خصوصية بغداد وأجواءها الشعبية، وبدأ بعض الباعة يتفنون في الحصول على النادر من الحيوانات، حتى تحول الأمر الى تجارة مربحة ودائمة، وبمرور السنين بعد سنوات الحصار اصبح هذا السوق معلماً سياحياً وبين هذه الأسواق يمكنك العثور على كل "ممنوع" في بلاد من النادر ان تجد فيها قيمة لرادع.

انتشر هرج ساحة الميدان الى مناطق أخرى في بغداد، حيث وجد «سوق الباب الشرقي» أو <<سوق الخردة فروش>> او سوق <<البسطيات>>، منذ أكثر من سبعون عاما أنشأ سوق باب الشرقي بموازاة حديقة الأمة ونصب الحرية أبتداءً من ساحة الطيران وأنتهاء بساحة التحرير قلب بغداد، أذ يعتبر واحداً من أهم الأسواق التجارية الرئيسية في بغداد للملابس المستعملة والأجهزة الكهربائية وبيع الأحذية المستعملة، اشتهر سوق البالة في بغداد في منطقة الباب الشرقي على مدى أجيال، حيث كان السوق يعتبر النافذة الرئيسية للمتسوقين من الفقراء وذوي الدخل المحدود في بغداد وما حولها من سكان المدن والقرى، في التسعينات، كان عدد العربات التي تعرض ملابس مستعملة تعد على أصابع اليد الواحدة ومثلها كان عدد النساء اللواتي يخاطرن بالوقوف امامها لتقليب تلك الملابس، فقد كانت القدرة الشرائية معقولة والرواتب تتناسب مع السلع المعروضة بسبب دعم الدولة لمختلف الأنشطة الاقتصادية، ومع هبوب رياح الحصار الاقتصادي في عام 1991، ومارافقه من توقف لذلك الدعم من الدولة وبقاء نسب الأجور والرواتب دون زيادة مع ارتفاع نسب التضخم نتيجة انخفاض قيمة الدينار، اضافة الى محدودية نشاط القطاع الخاص وماترتب على ذلك من ارتفاع في اسعار السلع والخدمات،

تطور هذا السوق مع الوقت فهو لا يعتمد على جود محال تجارية وانما جاء تلقائيا وببسطات وعربات ومناضد وبأيجار يومي وهكذا أزدهرت مبيعات فردية لمختلف السلع وانتشرت موجة ( البالات )وعمت الأسواق العراقية كافة ليصبح العراق هو من المستهلكين الكبار للبالات في العالم، بعد أن كانت سوق الجمعة قاصرة على بيع اللنكات والأحذية المستعملة والأجهزة الكهربائية أصبحت بعد التسعينات قبلة للتبضع من مدن أخرى، تحولت إلى سوق كبير لبيع الخردة، يزورها الآلاف، تفوقت سوق الجمعة على سوق الهرج، وكانت السوق ملتزمة من حيث الضوابط والرقابة والنظافة والسيطرة من قبل امانة بغداد والشرطة.
وبعد 2003 أصبح وضع السوق غير منظم تشوبه العشوائية بحيث أمتد حتى ساحة الخلاني وقسم كبير من ساحة الطيران وفروع شارع الجمهورية القريبة من الباب الشرقي وكذلك في الجهة الأخرى من الساحة لبيع العجلات الهوائية والعجلات البخارية، وشهد انتعاشاً كبيراً اثر عمليات النهب والسرقة، فيه كل شيء، وهناك بضائع كانت ممنوعة في بغداد أصبحت اليوم مباحة، من أجهزة كهربائية وطبية ورياضية وغذائية وأجهزة مكتبية ومعدات لاجراء عمليات جراحية، وأجهزة كومبيوتر وادوات منزلية وأدوية مجهولة المنشأ، بمعنى انها ترد تحت مسميات لشركات غير معروفة، وليس عليها تاريخ انتهاء للصلاحية أو ضمان ديمومة الاستهلاك له، حتى المنشطات الجنسية، وأفلام على أقراص، واشرطة" سي دي الجنسية"، والألبسة والاحذية المستعملة والجديدة بمختلف الماركات الاصيلة والمزيفة، واحذية وهكذا...
والعجيب ان كل مساحات البيع والشراء هذه مغمورة بالفوضى وانعدام الضوابط والرقابة وبكل الصور والحالات، ومع ذلك وبسبب الظروف الامنية الصعبة ، فقد اصبحت هذا السوق واحدا من المتنفسات التي يمكن ان يقضي فيها العراقيون من المهتمين بالبيع والشراء وقتهم ويجدون فيها وسيلة للمتعة وقضاء سياحة جميلة بين مجموعة من الحاجيات الغريبة والنادرة.

وفي العقود الاخيرة ظهر سوق مريدي المتخصص بتزوير الاوراق الرسمية والشهادات الجامعية اضافة الى كونها سوقاً لبيع السلع المسروقة إضافة إلى سوق «الشعب» في حي الشعب غرب بغداد، وأسواق أخرى كثيرة في بغداد، وبات شارع الرشيد أقدم شوارع بغداد يفقد معالمه التاريخية تدريجا يحيث اصبح شوقاً للعربات والبسطيات من اوله الى اخره وسط مخاوف من أن يصبح أثرا بعد حين نتيجة الإهمال والتسيب.
هناك بعض الحرف والمهن لا تعرف مفهوم عطلة الجمعة على سبيل المثال "الطيارون، البقالين والجزارين ، الحراس، سائقو التاكسي والوسائط العامة، ضباط المرور، الطباخون والعاملون بالمطاعم او النوادي الاجتماعية، الحلاقون وتكون إجازتهم يوم الإثنين.
كغيرها من المناسبات التقليدية، تراجع نشاط مراسيم الجمعة في السنوات الأخيرة بفعل تغير النمط المعيشي للبغدادديين وبما يدعى بالعصرنة والحداثة والتجديد، كما إن التكنولوجيا جاءت خصماً على أشياء جميلة داخل مجتمعاتنا من بينها التواصل بين الأقارب والأصدقاء أيام العطلات، خاصة الجمعة التي تعتبر العيد المصغر لكثيرٍ من الأُسر، إذ يجتمعون على الوجبات في محبة تتخللها الأحاديث حول شؤون العائلة، لكن الآن ومجرد الانتهاء من تناول الوجبة، يمسك كل فَردٍ بهاتفه ويبدأ مُسامرة الأصدقاء عَبر الأسافير ويَسُود الصمت المكان حتى ينتهي اليوم، حيث لا يتجاوز الحوار بين الجميع سوى ساعة، فغابت الاحاديث وطرائف الكلام،
غير أن هذه التطورات وهذه التغيرات ظلت عاجزة في أن تصيب بعد مظاهر الثقافة الشعبية و المتمثلة في بعض العادات و التقاليد اللصيقة للذات المحلية، حيث ظلت العائلة محتفظة ومحافظة عليها معتبرة إياها جزء من كيانها الروحي والعقائدي الأمر الذي أدى بها إلى تقديسها، وانا في غربتي يعود بي الحنين وينتابني الشوق لمراسيم وسحر يوم الجمعة في بغداد ومقاهيها وشوارعها ومحلاتها الغناء، ومن الله التوفيق.