إنَّ الخطوة الأولى في معرفة كيف يتعامل المسلم مع الهواء كأحد مكونات البيئة التي حوله، هي معرفة رؤية المسلم لهذا العنصر البيئي ابتداءً، وحيث إنَّ الرؤية الإسلامية هي ما يُحَدِّده القرآن الكريم والسُّنَّة الصحيحة؛ فإن النظر فيهما هو الخطوة الأولى لمعرفة تعامل المسلم مع هذا العنصر البيئيِّ المهم.

لقد ورد ذِكْرَ الهواء في القرآن الكريم، عبر لفظي: (ريح) و(رياح) أكثر من عشرين مرَّة، وعبر تلك الآيات نرى أنَّ الريح هي:

أولاً: جندٌ من جنود الله تبارك وتعالى:

سخَّرها الله سبحانه وتعالى لنبيه سليمان عليه السلام فقال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36]، و {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. وهو سبحانه وتعالى يُسَخِّرها للمؤمنين أيضًا، ففي غزوة الأحزاب نصر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالريح: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

قال مجاهد: يعني: ريح الصبا أُرسلت على الأحزاب يوم الخندق، حتى كفأت قدورهم على أفواهها، ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم، {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]؛ يعني: الملائكة[1].

قال ابن كثير: وهذا –أيضًا- من قدرته التامَّة وسلطانه العظيم، وهو أنَّه تعالى يُرسل الرياح مبشرات؛ أي: بمجيء السحاب بعدها. والرياح أنواعٌ في صفاتٍ كثيرةٍ من التسخير؛ فمنها ما يُثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشِّرًا، ومنها ما يكون قبل ذلك يَقُمُّ[2] الأرض، ومنها ما يُلقِّح السحاب ليمطر[3].

ثانيًا: نعمةٌ وبشرى:

هي التي يدفع الله بها السحاب، ثُمَّ يُؤَلِّف بينه ويبسطه كيف يشاء: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48]. ومِن ذَا يَنْزِل المطر فتحيا الأرض وتحيا الكائنات: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} [الأعراف: 57]. وقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9].

قال الفخر الرازي: "وقد سمَّى الله تعالى المطر رحمةً فقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]. لأنَّه إفضالٌ من الله وإنعام، فذَكَرَ الله تعالى الرأفة أوَّلًا... ثُمَّ ذكر الرحمة لتكون أعمَّ وأشمل"[4].

وصف الله سبحانه وتعالى الرياح بأنَّها "لواقح" فقال عزَّ وجلَّ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].

قال ابن عاشور: "ومعنى الإلقاح أنَّ الرياح تُلقِّح السحاب بالماء؛ بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين، فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماءً في الجو، ثُمَّ ينزل مطرًا على الأرض؛ وأنَّها تُلقِّح الشجر ذي الثمرة؛ بأن تنقل إلى نَوْره غبرةً دقيقةً من نَوْر الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت، وبدون ذلك تثبت أو لا تصلح؛ وهذا هو الإبار، وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة، وبعضه يكتفي منه بغرس شجرةٍ ذكر في خلال شجر الثمر، ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح، وقد فسرت الآية بهما، واقتصر جمهور المفسرين على أنَّها لواقح السحاب بالمطر"[5].

ثالثًا: أثرٌ من آثار قوته وقدرته سبحانه وتعالى:

امتنَّ الله سبحانه وتعالى به على عباده، ولفت إليه النظر، ودعا الناس إلى التفكُّر والتأمُّل فذاك هو الطريق إلى الإيمان، قال سبحانه وتعالى في معرض بيان نعمه وآثاره: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. وبالرياح يزجي الله سبحانه وتعالى السفن؛ وذلك كان أمرًا لا يُجادل فيه الناس قديمًا؛ حيث كانت السفن تعمل بالأشرعة، وقد جادل فيه بعض المكذبين حديثًا؛ حين بدأت السفن تعمل بالطاقة، ولكن حادثات الأيام والليالي تُثبت أنَّ لا سفينة على وجه البحر أقوى من قدرة الله عزَّ وجل، قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 32، 33]. ومن نعمة الله سبحانه وتعالى أن تجري الفلك بريحٍ هادئةٍ طيبةٍ جارية، ومن قدرته أن ينقلب الحال في اللحظة لتأتي الريح العاصف ويهيج الموج من كلِّ مكانٍ وجهة؛ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]. بل من يملك ألَّا يأتي الله عزَّ وجلَّ لا بالريح العاصف، بل بالريح القاصف أيضًا، فكلُّ ذلك من آثار قدرته تبارك وتعالى، وكلُّه ممَّا يستحقه المكذِّبون؛ {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء: 69].

قال قتادة: إذا شاء جعلها رحمةً لواقح للسحاب، وبُشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقِّح[6].

رابعًا: عذابٌ للمكذبين:

أخيرًا، فإنَّ الرياح من عذاب الله سبحانه وتعالى للمكذبين، ولقد كذَّبت عادٌ قوم هودٍ عليه السلام {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16]. ووصفها في موضعٍ آخر بالريح العقيم؛ ذلك الوصف الذي يُجرِّدها من كلِّ خيرٍ ونفعٍ وفائدة: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}[الذاريات: 41، 42]. قال ابن القيم: "هي التي لا تُلَقِّح ولا خير فيها، والتي تُعْقِم ما مرَّت عليه"[7].

إذًا فخلاصة التصوُّر الإسلامي لذلك الهواء وتلك الرياح أنَّها نعمة؛ نعمةٌ فيها البشرى والنفع والفائدة وعليها تتوقف الحياة؛ لذا فهي تستوجب الحُبَّ كما تستوجب الشكر، كما تستوجب العناية والرعاية.

لذا عَلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمته فقال: "لا تَسُبُّوا الرِّيحَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ[8] اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ"[9]. وكان صلى الله عليه وسلم -كما تروي عنه أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها- إذا عصفت الرِّيح قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ". قالت: وإذا تخيَّلت السَّماء تغيَّر لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرِّي عنه، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ: عَائِشَةُ فَسَأَلْتُهُ؛ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24].

هي كذلك نعمةٌ يجب ألا يُعصى الله عزَّ وجلَّ فيها بإفسادها أو إتلافها {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]. وعلى هذا الأساس من التصوُّر والرؤية ينبني تعامل المسلم مع الهواء؛ هذا العنصر الحيوي من عناصر البيئة.

د. راغب السرجاني
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ

[1] السيوطي: الدر المنثور 6/573.
[2] قَمَّ الشيء: كنسه. ابن منظور: لسان العرب، مادة قمم 12/493.
[3] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/114.
[4] الرازي: مفاتيح الغيب 2/401.
[5] الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 13/31.
[6] الشوكاني: فتح القدير 1/212.
[7] ابن القيم: بدائع الفوائد 1/126.
[8] الريح من رَوْح الله: بمعنى الرحمة، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. أي: يُرسلها الله تعالى من رحمته لعباده. العظيم آبادي: عون المعبود 14/3.
[9] رواه أبو داود (5097)، وابن ماجه (3727)، وأحمد (21177) عن أبي بن كعب واللفظ له، وصححه الألباني في التعليق على سنن أبي داود وابن ماجه، وصححه شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد.