قيل،
فلما استحكمتْ حلقات طرفة عن يدِ عمرو بن هند ولم يطقْ صبراً عليه، وتيقنَ أن شاعراً مثلُه لن يمتثلَ لسلطة ملكٍ مثلَه، ولن يسكت عليه، ناهيك أن يسعى إلى مديحه، اجتمعتْ لدى الملك الأسبابُ التي تجعله يرى في الشاعر المتمنع عن بلاطه خارجاً عن كل سلطةٍ وكل عُرفٍ وكل قانون. فلكأن عمرو بن هند يرى في الشاعر سماءً بعيدة عليه، لا يطالها ولا هي تنظر إليه.
قيل،
بعد أن اطمأن الملك إلى أن قوم الشاعر يستبعدون عنه، وأن قبيلته وأعمامه ضاقوا ذرعاً بسلوكه المتحرر، الذي يشيعه في الناس ويجتذب إليه الفتية ويسحرُ به الجميع، وبعد أن أصابَ مقتلاً بعدم مرافقة المتلمس إلى بلاط الحيرة، اعتبر الملكُ ذلك قمةَ الاستخفاف ونقضاً لاحترام المقام وشذوذاً عن شعراء ذلك الزمان.
قيل،
وكان من عادة ملوك الحيرة أنهم نَهّازونَ للفرَصِ، واستغلال الخلافات والمنازعات الداخلية بين أحياء وقبائل البحرين، في سبيل توطيد سلطة بلاطهم وتمكين سطوته في هذه البلاد.. «فالشعر من وسائل الخدمة السياسية التي استعان بها ملوك الحيرة في بسط نفوذهم في جزيرة العرب» (حسب جواد علي في «مفصل تاريخ العرب قبل الاسلام»).
ولم يفوّت عمرو بن هند ذلك لكي يحكم قبضته فيهم وتحقيق نيته المبيتة في التنكيل بطرفة بأيدي قبيلته وأدوات قومه. حتى قيل إن أعيان قبيلة «بكر» قد وعدتْ الملك أنها ستعمل على دفع طرفة لمرافقة المتلمس للقدوم إلى القصر.. وهي القبيلة التي عُرفَتْ باعتدال صلتِها بالحيرة، وميلها إلى التفاهم والمهادنات مع الملوك اللخميين والتواطؤ معهم، حتى قيل إن طرفة هو الاستثناء الأبرز في «بكر» لمعارضته سياسة عمرو بن هند، الأمر الذي سيشكل الشذوذ المحرج للبكريين في علاقاتهم التقليدية مع الملك، إذ إن أول ما سيُضربُ في تلك العلاقات هي المصالح التجارية لشيوخ البكريين، وذلك لما يعرفُ عن ملوك الحيرة من أنهم عصب التجارة، حيث تجوبُ لطائمُهم أرجاءَ جزيرة العرب والشام.
قيل،
إن طرفة كان يعي كل تلك الملابسات التي ستكون ذريعةً لقبيلته من أجل التنكيل به. فلم يزده ذلك إلا رفضاً للامتثال لصلف عمرو بن هند ورغبته الجارفة في اضطهاد أهل البحرين، التي ستكون الهدف الدائم للاستغلال والاضطهاد والظلم وإهانة الشعراء وتكريس امتثالهم.
قيل،
فبعث عمرو بن هند والياً جديداً على البحرين يدعى «عبد هند» ليكون عبداً فعلياً يحكم بما يمليه عليه «عمرو بن هند» لكأن الاسم هو أيضاً جزءٌ من تأثيث الأسطورة بما يستقيم مع دور الشخص في الحكاية. فيكون خبرُ موتِ الشاعر متحققاُ بأبطاله المعينين، اسما وفعلاً، بالصيغة التي تمنح الأمر أسطوريته الخاصة. وقد جاءَ والي البحرين الجديد بثلة من الجند المدججين المكلفين بتولي مهمة الفتك بالشاعر.
قيل،
فلم يكد «عبد هند» يصل إلى دار إمارته حتى بعث بالعسس خلف طرفة يتقصّون عنه ويطلبونه. فعرف أنه يعود كل يوم آخر الليل بعد سهرته مع رفقة القصف والمتعة، فترك الجند يذهبون إليه قبل الفجر ويأتون به مقيداً بالأغلال إلى سجن الولاية. وزيادة في الحيطة بعث بصاحب السجن شخصياً منذ منتصف الليل لكي يشرف على تنفيذ أمر القبض.
قيل،
فلما حاصر الجند الدار في ذلك الليل، ووقف كبيرهم يطرق الباب منادياً على طرفة أن يخرج، إذا بفتية يزيدون على العشرين يخرجون من الدار معلنين أنهم جميعاً يدعون طرفة. بوغت الجند وقائدهم بالأمر. وبعد تردد لم يجد بداً من أن يقود الفتية جميعهم إلى دار الإمارة، معلناً للوالي أنه لا يعرف على وجه التعيين أي طرفة فيهم المقصود بأمر القبض. وأن على الملك أو أصحاب الأمر ممن يعرف طرفة أن يختاروه من بين العشرين طرفة المتقدمين.
قيل،
فأدرك صاحب السجن المكلف، بأن ثمة من هم على أهبة الاستعداد للدفاع عن طرفة والذود عنه وتحمّل العقاب فداء له. افتر ثغره عن ابتسامة رضا مكتومة متخففاً من شعور الوحشة في هذا الموقف الصعب. ثم أخذ يجول بين الفتية كمن يستعرض كائنات أليفة، مستعيناً بصلابتها على اجتياز ما هو فيه. فإذا بطرفة يبرز من بينهم مبتسماً متوجهاً إلى صاحب السجن:
- على الملك أن يعرف ماذا يريد. أما أنا فقد عرفت، فماذا تريدون مني؟
فقال له صاحب السجن :
- أنت تعرف أيضاً أننا لا نريد منك شيئاً، إنما هو الملك الذي يريد. وهذا أمر بينك وبينه. فالملوك لا يطلبون. إنهم يأخذون فحسب.
ضحك طرفة وأشاح بيده قائلاً :
- فليأخذ عمرو بن هند ما يريده من طرفة، واترك هؤلاء الفتية يذهبون. إنهم لأحرار هذه اللحظة أكثر منا.
قال صاحب السجن:
- جاء الفتية بمحض إرادتهم، ويذهبون متى يريدون. الملك لا يريد أحدا سواك.
قيل،
فلما دلف طرفة داخل السجن كان الجند لا يزالون يقفون مثل القيد المحكم خارج السور. فقال طرفة لصاحب السحن: «ألن يفك جندك حصارهم ويذهبوا إلى راحتهم. ألا تطمئنون لشخصٍ جاءكم بقدميه؟ هل يريدون أن يأخذوني إلى الملك أسيراً؟»
قال صاحب السجن:
- لقد بعث الملك والياً جديداً ليعمل على أمرك.
فرد طرفة:
«إذن لتمنح الجند راحةً للنوم، ثمة كوابيس في انتظارهم.
جلسَ صاحب السجن على أريكته وطلب من طرفة الجلوس ريثما يجهزون له الزنزانة».
قيل،
مرّت الدقائق طويلة ثقيلة. الاثنان ينظران إلى بعضهما دون أن ينبسا بكلمة. إلى أن كسر طرفة جهامة الصمت:
- والآن. ها أنا بين يدي سلطتكم، ماذا تريدون؟
قال صاحب السجن:
- إنه الملك.
قال طرفة:
- إن خضوع مثلي لمثله أمرٌ إذا جاز له فهو لا يليق بي. وإذا قبلته فلا يغفره الشعراء لي.
فنهض صاحب السجن بتثاقلٍ واضحٍ كمن يحمل الجبال على كتفيه:
- لو صح للسجان أن يختار سجناءه، لتخفف من مشقة حبس نفسه في قيد هو الجحيم بعينه. لكأنك تدرك أننا مكلَّفون بما يسحقنا.
فوقف طرفة ينظر إلى صاحب السجن ملياً كمن يريد أن يخفف عنه عبئاً بات محسوساً. ثم اتجه ناحية نافذة تطل على باحة السجن:
«يهجو شاعرٌ ملكاً، فيذكرون الملك بهذا الشعر. ويقتل ملكٌ شاعراً فيعرفُ الشاعرُ مقتولاً بالملك. على عمرو بن هند أن لا يغترّ بهدر دمٍ ليس للنسيان».