نصُّ شهادةٍ واحدةٍ وحيدةٍ. اختلقها المتلمسُ في رواقٍ معتمٍ من الملابسات. لكي يشيرَ إلى مرافقة طرفة له في بلاط الملك. زاعماً أنه لم يكن هناك وحده. رواية هي على قدرٍ من الخِفَّة والخُبث وسوء الطوية. لماذا وجبَ على المؤرخين الثقة والأخذ بهذه الرواية بوصفها الشهادة الناجزة، دون أن يتعثروا بما يشوب أفكارَها ولغتها من الافتراء والمبالغة الخرافية وقصد الإساءة، بما لا يليق بوصف رجل لابن أخته المفترض. فما بالك بوصف شاعرٍ شاعراً آخر. بل إننا نكاد نرى في وصف المتلمس لطرفة باعتباره شخصاً يتخلَّجُ بحركة القيان، لا رجلاً معتداً بنفسه، جريئاً واثقاً في رجولته ومكانته في الشعر والحياة.
لكن يبدو لنا فعلاً أن طرفةَ لم يكن هناك
وأن المتلمس كان قد ذهبَ، إذا كان حقاً قد ذهب، وحدَه. سَعياً إلى العطايا وحدَه. تحَمَّلَ المهانةَ وحدَه. حَمَلَ رسالة الغدر بمفرده. وليس أدلُ على ذلك من أن الرواة قد تناقلوا القول، الذي ذهبَ مثلا، على تلك الرسالة بوصفها «صحيفة المتلمس»، كناية عن ذهابِ المرء إلى حتفهِ بنفسه، ولم تذكر الصحيفة مقرونةً بطرفة وهو الأشهر شعراً ومكانةْ، يفترض أنه قد حَمَلَ صحيفةَ القتل ذاتَها. لكن يبدو أن المتلمس قد بَيَّتَ نيةَ الإساءة إلى طرفة، وتصوير الحكاية على أنها قد جمعتهما معاً، لئلا يبدو وحيداً في سياق سَعيه إلى بلاط الملك.
يبقى القول ثانية،
لماذا علينا أيضا أن نقبلَ تلكَ الروايةَ الفاجرةَ بَمَكرِها الخبيث، فنُصَدقَ الرواةَ جميعاً وهم يضعون الشاعرَ في مصاف الحمقى، كما سيسجل ذلك أبو القاسم حبيب النيسابوري صاحب كتاب «عقلاء المجانين».
لابد أن شبكة توافقات عديدة قد شارَكَتْ فيها الأطرافُ المختلفة ذاتِ المصالح المتقاطعة، لتحكم خناقها على الشاعر، وتنفذ قرارات القتل المتعدد المستويات، العابر للزمن، المتنوع الغايات والمآرب.