ليست ساقيةً في حانةٍ. هي امرأةٌ تُحسنُ صقلَ الأقداح باللطف، وسكبَ الراح بالظرف، وملاعبة أرواح المولعين باللهو والعبث. وَرَثَتْ الحانةَ من أبيها وأتقنتْ عنه المِهنةَ وبَزَّتْ أمَها في الجمال والحيلة. فلم يبق شاعرٌ مَرَّ الحيرةَ إلا زارَ «حانة شهلاء» و تولعَ بها. ولا عاشقٌ إلا تدلَّه بغنجها. حتى قيل: ليلتان في الحيرة تغنيان عن العمر الباقي. ليلةٌ في هوائها وليلةٌ في هواها»
وكانوا يَعنُونَ حانة «شهلاء» بهوى الليلة الثانية.
فما إن انتهى طرفة من كأسِه الثالثة حتى التفتَ إلى «المتلمس» قائلاً: يا متلمس، أظنكَ ستذهبُ إلى ملكك وحدك.
انتفضَ المتلمس كمن استشعرَ تخلي طرفة عن الأمر برمته: لكنهم حَمَّلوكَ رسالتَهم وأودعوكَ أمانةً لابد لك من أدائها.
فقال طرفة مستخفاً: ها أنتَ أحرصَ مني عليها وأقدَرَ على صونها، ولك خبرةٌ في حضرة الملوك. أما أنا فلا قِبَلَ لي بالملوك. لا أقصدُ ملكاً ولا أقفُ بباب ملكٍ ولا أنتظرُ ملكاً ولا أطلبُ شيئاً من ملكْ. فاذهبْ عني.
ثم مالَ ناحية شهلاء مداعباً: يا مليكة الليل والنهار. بحق ملكٍ لن أذهب إليه تعالي أتزوجُكِ هذه الليلة.
وقع هذا القولُ صاعقاً على شاعرٍ يقال له «الأقيشر» كان حاضراً في الحانة ليلتها، وكان مأخوذاً بشهلاء، فالتفتَ منقضَّاً بكلامِه على طرفة:
«لكنكَ نصرانيٌ يا طرفة».
فردَّ عليه طرفة:
«وماذا يعني هذا؟».
وكانتْ شهلاءُ قد اشتملتْ كأس طرفة لتسكب له. فيما تقول له مستجيبةً لدعوة طرفة:
«أهذه الليلة أمْ لهذه الليلة؟»
طارَ عقلُ «الأقيشر» صارخاً بها:
«ولكنكِ يهوديةٌ يا شهلاء».
فالتفتتْ إليه مستنكرة:
«وماذا يعني هذا؟»
فارتجتْ أرجاء الحانة ضاجَّةً لفرط الترنّح الذي بعثه بوحُ طرفة، والغنج الذي استجابت به شهلاء. فأمعنَ طرفة تحديقاً في جيبِ شهلاء، الذي يَفْسحُ لصدرها العارم ما يكفي لاندلاعة نمرين هاجمين يتجليان في مرمى نظرات الثملِ وبصيرةِ السكرانْ. حتى إذا ما تجاسَرَ طرفة على مَدِّ يده لجَسِّ الجسد البضّ. نهرته شهلاء:
«لا أسمعُ كلامَ السكارى ولا أقبلُ تطاولهم».
رَمَقَ طرفة المتلمس المذهول، الذي كان قد بدأ يتخبَّط في وحشة مهمته المتعثرة. منحه ابتسامة صارمة. وأمسك يد شهلاء بثبات كمن يؤدي طقساً: «كوني بيتي في الحيرة كلما قصدتُها. تعالي أبني بكِ وأكتب عليك».
فرَدَّتْ شهلاء:
«أخرجْ من خمرتك الليلة تدخل بي غداً. فعلينا أن نذهب إلى من يشهد على ذلك. فهل تأتي نحتكم إلى النار؟».
فقال طرفة:
«هل تأتين أحتالُ بكِ أمامَ الجنة؟»
هبّ المتلمسُ صارخاً كمن فاضَ به:
« أيها الغلامُ الفاجرُ. تترك رسالة قومك لتذهبَ الى جحيم هذه اليهودية. ما أجبنك عندما يطلبك الموقفُ الشجاع ».
فانفجرَ طرفة:
«فلتأخذك شجاعتك إلى ملكك. وليذهب كل منا إلى ما يُحبْ. أما أنا فلستُ من باب الملوك. ففي الحياة ما يُغني عنهم. وقلْ لقومي أن يعدلوا في ما بينهم قبل أن يطلبوا عدلاً من ظالم».
تفجرَ الغضبُ بالمتلمس. وعرف أنه لا محالة ذاهبٌ بالرسالة وحدَه. فعمد إلى ترهيب طرفة:
«اعلمْ أن الملك يعرفُ انك قادمٌ معي غداً للقائه. فإذا بلغه رفضُك الذهاب فلن يغفر لك»
فعاجله طرفة:
«أبلغه ألا ينتظرَ مني زيارةً ولا مديحاً».
قال المتلمس:
«بحق المسيح إنك تلعبُ بالنار مع ملك فاتكٍ. هذا الذي يدعونه «مضرِّط الحجارة» لفرط بطشه».
ضَحكَ طرفة مستجيباً لنزوع السُخرية والعبث في كيانه. فيما الخمرةُ تصعدُ به:
«لا أفهمُ كيفَ أن ملكاً يقبل بمثل هذا الوصف. لولا أنه فعلاً كيسُ ضراطٍ كبيرٍ».
ثم نهض متألقاً بخمرته:
«اِذهَبْ إلى ملكك وقل له إنني ذاهب إلى العرس وعليه أن يذهبَ إلى ما يُريد».
هاجَ المتلمسُ خارجاً من الحانة. كمن يهرب عن سَماع كلامٍ يُضاعفُ ذعرَه، راكضاً نحو مهمةٍ أدرك بغتةً أنها أثقلُ على كاهلهِ من القتل.
رُويَ أن أحداً لم يعرف ما الذي كان يذهبُ إليه المتلمس. غيرَ أن روايةً قالت أن قوماً صادفوه هائماً على وجهه في طريق الشام بعد أيام. ورَوى بعض السابلة أنهم صادفوا شخصاً يعبر دجلةَ يهذي سائلاً عن أقرب طريقٍ إلى الجزيرة. ويتلفتْ مذعوراً كمن يهرب من نارٍ تلحقُ بثيابه. وقيل أن طرفة هو الآخر قد فَرَّ هارباً بعد ليل شهلاء. تاركاً الحيرة نحو الأرجاء الشاسعة. وقيلَ أن عمرو بن هند قد سَمعَ عن وقائع حانة شهلاء. فغضبَ وعزمَ على مطاردة طرفة والفتك به. فأرسلَ إلى عماله في طلب طرفة وملاحقته بعد أن دخل عليه المتلمس وحده.
ماذا يريد ملكٌ من شاعرٍ لا يريدُ شيئاً ؟