رُويَ أنه لما طار غضبُ الملكِ عمرو بن هند شَراراً، التفتَ إلى المتلمس الماثل أمامه، يسألُه عن ابن أخته المترفِّع المتمنِّع عن البلاط دونَ سائر الشعراء. ولما كان في سؤالِ الملكِ غيظٌ لم يرحمْ النفس الصغيرة التي ينطوي عليها المتلمس، شَعرَ هذا أنَّه ليس في مقدورِه حمل وزرَ طرفة في حضرة ملكٍ تفجَّرَتْ نيرانُ غضبِه، وليس لأحدٍ الصبر على أسبابه. قيلَ إن المتلمس في ذلك الموقف تشبَّثَ بتلابيبِ كيانِه الهشّ، وصَفَـنَ برهةً محملقاً في مَنْ حوله، محدّقاً في الوجوه المسمّرة عليه. ثم استجْمَعَ أشلاءَ روحِه التي بَدَتْ كأنهّا تتفَسَّخ في مسكنها، وتتحدَّرُ من بدنِه. ثم بدأ ينهضُ من جثوتِه ببطءِ المذبوحِ كمنْ عزمَ على أمرٍ ذاهبٍ به لا محالة. وما إن اكتملتْ وقفتُه وخرجَ من صفنَتِه، استدارَ على عقبيه دورةً كاملةً، ماسحاَ بنظره الوجوهَ الشاخصةَ، لكي يصلَ أخيراً بعينين ذاويتين إلى الملك، الذي كان يرقبُ من مكانه لحظةَ التحولات العنيفةِ، التي كان المتلمس يكابدها بقدرٍ محسوسٍ من العويل المكتوم. فيما يكمل دورته، كأنه يريدُ أن ينتقلَ بكاملِ كيانِه وحواسِه، من كوكبِ الشِعرِ إلى حضيضِ الوشايةِ، مستعيناً بأقصى ما يمتلكه من فذلكةِ الطهاةِ الدهاةِ، وهُمْ يُولِمُونَ بأقربِ من يَحِبّونَ في مائدة أقصى مَنْ يَرهَبُونْ. ورُويَ عمَنْ جاوَرَ موضع المتلمس في تلك الوقفة، أنه سَمعَ ما يُشبُه صوتَ زُجاجٍ يتهشَّمُ، صادرٍ عن جسد المتلمس ويتحَرك حوله، في حَتٍّ وفي شظايا، وأن صَريراً انبثقَ لحظتها من أعطافِه، يُضاهي صريخَ الكواحلِ منحولةً بفعل صليلِ أصفادٍ باهظةٍ حول العظام البشرية، وقيل إنَّ بعضَهم سَمِعَ المتلمس يكتمُ صوتاً غريباً هو مزيجٌ من النحيب والتضرَّع، فيما يُخرِجُ رقعةً مُهَـلْهَـلةً من ثنايا قفطانه ويرفعها في فضاء الأحداق المترقبة، كمن ينشر أرشيفاً حائلَ اللون والطبيعة، متوجهاً بجماع حضوره إلى الملك:
«مولاي، لا أعرف كيف تكترثون بشاعرٍ مثله كل هذا الوقت، وهو الذي قالَ فيكم وفي آلِكم ما تمنعني الخشيةُ من مجرد ذكره في حضرتكم».
فهبَّ الملكُ ناهضاً في تخته:
«لا تخفْ. أخبرنا بما لديك، فالكلامُ كلُه مهما ارتفع لا يصلُ إلى كعبِ هذا العرش».
انتفضَ جسدُ المتلمس برهةً، وأغمضَ عينيه وهو ينفصل عن لحظة المكان وحقيقة الأمر. منطلقاً في حالٍ من الهذيان والغفلة:
«انه يا مولاي يُخادِنُ ضدَّكُم الصعاليكَ قراصنةُ البرِّ ويستقوي بهمْ عليكم. ولديَّ في هذه الرقعة ما يمحق القائل».
فاستعاد الملكُ مقعدَه كمن يتحصَّنُ لمواجهة الكلام:
«اقرأ .. ولنسمع».
طفق المتلمس يقرأ كأنه يطلقُ نواحاً يرثي نفسه. مرتعشَ الفرائصِ لفرط الخوف. خوفٌ يتجاوز الملكَ والبلاطَ والجندَ والعسسَ والكوكب برمَّتِه. فخشيةُ الواشينَ في موقف الغدر تتجاوز المكانَ وتعبرُ الزمانْ. راح المتلمس يتلو أمام الملك ورجال البلاط ما تيسَّر له من سورة الغضب التي تنتابُ كلَّ شاعرٍ يشهدُ على الدم في الناس، وهي قصيدة ذاعَ صيتُها في البدوِ والحضرِ.. يهجو فيها طرفةُ عصراً كاملاً ويمدَحُ البحر جميعه.