خطّ كلمته الأخيرة في منتصف السطر، في عين الورقة، في المسافة بين الحبر و الدواة. بسط ريشته العليلة على خد الورقة، رفع رأسه بتثاقل الحالم وقال لهم:
هاتوا النبيذ.
اجتاحت أجساد الحرس رجفة الدهشة.
-نبحث لك عن طريقة لموتك وأنت تطلب النبيذ؟
-ها اني قد اخترت طريقتي في الموت. لا يليق للشاعر أن يموت كما يحلو للآخرين. مثلما عشت أموت. وما عشت معه أموت به. ثمة موت يضئ للشاعر مواقع أقدامه.
هاتوا النبيذ.
- وكيف؟
- أشربُ حتى الثمالة، و في اللحظة التي يصعد الدم من عروقي في جمرٍ وفي شظايا،تفصدون كاحلي في المكان الذي حملني الى المجرات، فأنزف حتى ينفد الأحمران في مزيجٍ واحد. الجسدُ هو زجاجةٌ أيضاً. وإذا كان لأحدٍ حقُ بذل زجاجته بنفسه فهو الشاعر. يرفع كأسه الأخيرة بجذوة الروح في الجسد، وينتخب حريته الأخيرة، فلا يكون للملك ميزة حق القتل وحق اختيار الشكل.
هاتوا النبيذ،
فجاءوا له بالنبيذ، فيما كان يرتب أوراقه الأخيرة ويحزمها بالابريسم الأخضر، ويختمها بزجاج القدح والنبيذ يندلق ويمنحها القرمزي الحزين الذي استُدرجَ ليكون شاهداً على الفجيعة. أخذ يصبُّ الاقداح ويعبّها وهو يستسلم لاندلاعاتٍ متتاليةٍ من البوح والهذيان والهلاس، وقمصانه تتهدل بما يطيش من النبيذ ويطفر من القرمز وما يفيض من الولع. كلما انتهتْ قارورةٌ وترنحتْ فارغةً لفرط الفقد، جاء الحرسُ له بالمزيد، وهم ينظرون ويسمعون مذهولين إلى ما لا يُصدَّق.
-لكي تذهب الى موتك حراً كما في حياتك، يتوجب عليك أن تختار السبيل الجميل إليه، فحقيقة الموت تكمن في انتظاره والطريق إليه. إذا تيسر لك أن تذهب وأنت في ذروة الانتشاء، فسوف تقابل الموت وأنت أقوى منه. ليس مثل الخمرة سلاحٌ يهزم صَلَفَ الموت وعنجهيته ومزاعمه. هذا النبيذ قرمزٌ يمنح الدمَ طبيعته الخالدة، فاللون ليس صدفة، كما الشعر والحب في الحياة.
هاتوا النبيذ أيضا وايضاً،
وتعالوا أطلقوا دمي من أسره، فها أنا أشعر الآن بالنيران تتفجر في أوردتي، والكحول يتصاعد شواظاً في الشرايين. افتحوا الطريقَ له، هاتوا أكثر شفراتكم رهافةً واجرحوا كاحلي بين الجوزة والكعب.
هاتوا النبيذ هاتوه.
قيل،
فلما جرحوا العرق النافر، انفجر نهرٌ صغيرٌ من القرمز الدافئ، وطرفةُ ينظر في سكون، لا يصرخ ولا يتوجع، ممسكاً بقدحه الأخيرة وهم يصبون له الشراب كلما فرغ. يشرب وينظر، وابتسامة غامضة تطل من شفتيه المصبوغتين.
قيل،
فلما ارتختْ أعضاءُ جسده، كان النهر الأحمر الصغير يكبر ويتسع ويفيض، حتى امتزج الأحمران في برزخٍ شامخٍ بين اليد والكاحل. واختلط على الحرس الحدُّ بين الدم والنبيذ. فتجلى لهم شكلٌ من الموت لم يعرفوه ولم يسمعوا عنه.
قيل،
فلما جاءوا يفحصون جسد الشاعر، وجدوا العطر الزكي يفوح من الجثمان، ورأوا ورداً أحمرَ يتفصّد من أردانه، وعندما رفعوه عن الأرض يحملونه أحسوا كأنهم يحملون ريشةً صغيرةً في حلم.
قيل،
فلما سمع الملك عن طريقة طرفة في اختيار موته، صاحَ في حسرةٍ: « آهٍ ، قتلني طرفة قبل أن يموت».