إنّكَ لا تعي فداحة ما تفعل..
تعتقد لوهلة أن العالم الأزرق مهيبٌ لدرجة أنّكَ تُبصر أوّله ولا تدري أين ينتهي.
أصدقاء كُثر، معارفٌ أكثر، أُناسٌ لا تُحصى من حولكَ.
ترّكن إلى هذا وذاك، وتشكو حزنكَ إلى عابر وتخبره أنّه منفى أسرارك.
تتحدّث عن آلامكَ له وكأنّ أحدهم حشر كل ذكريات الحروب في صدركَ.
إنّكَ لا تُحاول نقل مدى بؤسكَ له، إنّكَ تُحاول جاهداً أن تجعله يعيش مِمّا أنتَ فيه، تُعطيه جرعة مناسبة من التهويل كونكَ قلت له سأخبرك سرّاً، كونكَ جعلته يُدرك مِمّا أنتَ فيه آملاً أن تُقدّم يدَ المُساعدة لشخصٍ يُعاني في حياته.
ثم تكتشف بعد حين أنه مُجرّد سراب، بينما كان يقتات على هشاشتك، يُسافر بكَ بعيداً من ألمه إلى حزنه، ومن مصائبه إلى خيباته، تُدرك أنّكَ مُستمع جيّد، لقد جعل منكَ رجلاً وقوراً شاحذاً كلّ حواسه المُنتبهة معك.
ثم تُدرك بعد حين أن دورك أنتهى، سوف تجف الرسائل بشكلٍ طبيعي، ثم يبدأ رحلة البحث عن صديق غيرك يكون منفى أسراره، ومنفى مصائبه، والكثير من وحدته المُطلقة.
أمّا عنك: يترك ذلك أثراً جميلاً بداخلكَ كونكَ أنّك ظفرت برفيقٍ وقدّمت يد العون له، تنظر لنفسكَ نظرة المُعتد بنفسه لأن الذي أقدمت عليه عملاً طيباً يستحق الفخر.
وما أن يتوانى الأمر حتى ترى أنّك جزءٌ من أجزاء مُجزّئة لرحلة طويلة من البحث، من التنقيب، ومن تأثير الكلمات عليكَ.
بعد وقتٍ وجيزٍ ترى بأم عينك أن المزاجية تتحكّم به، وأن مصائبه وأحزانه لا ترقى لجزء بسيط عمّا بداخلك، إنّه يُهوّل لكَ الأمر على طريقته الخاصّة، ويُجاهر لك بعوائقه التي من الممكن أن تجعله بائساً فريداً من نوعه.
يتغيّر عليكَ، يتخذ أفق غيرك، يسافر بعيداً عنك كون ظلّك الأبديّ انتهى في حياته، وعليه أن يكسب الوقت لأن يذرف الدموع لغيرك.
إنّها علاقة أقبح ما يُقال عنها تهكّم بالمشاعر، وصنعة وضيعة جداً في رسم خطوط الصداقة، والرفقة.
إنّكَ مُنطوي عن الناس، مُتخذ أفق آخر، لكنّك مُستطعف، وتلك مُعضلتك الكُبرى. أنّكَ تثق بآلام النّاس، وتجعل من نفسك جسراً طيّباً للعبور..
تسعى صادقاً في ذلك، وتمنح بعضاً من السّعادة. تتخبّط في حكاياتهم، وتولج قِبساً من نور على أعتاب ظلامكَ ليرى به غيرك.
إنّكَ مُجرّد سراج في عيني، وإنّهم مجرّد أوغاد في عينك: لأنّك كنت حلقة ضعيفة أمام سُخرية آلامهم التي لا ترقى لأن تكون خدشاً واحداً في حياتك.
ثم هاهنا ينتهي دوركَ تماماً، لأنّك تكتشف الكثير، والكثير: أن هناك حصّالة أُخرى للمُشكاة، للبكاء قد ظفروا بها.
تبتسم من داخلك، وتضحك من كلّ نفسك على حدّة غبائكَ، وعلى وضاعة ما يفعلون في هذا العالم الأزرق.
-م