منذ نوح عليه السلام حين صنع السفينة، أوصى الله سبحانه وتعالى بحفظ حياة الأنواع من الانقراض؛ فقال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} [هود: 40]. قال القرطبي: "لبقاء أصل النسل بعد الطوفان"[1].
حيث إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق كلَّ شيءٍ بحكمةٍ وبقدر؛ فإنَّ كلَّ الكائنات الحية تُمثِّل جزءًا من منظومة التوازن البيئي، بما يجعل انقراض أحد أنواعها خللاً في هذه المنظومة، وكان طبيعيًّا أن يُحافظ المنهج الإسلامي على هذا التوازن البيئي، وأبرزه أن يُحارب انقراض الأنواع الحية.
عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْلا أَنَّ الْكِلابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ"[2].
لقد كان معنى التوازن البيئي قائمًا لدى الإمام الخطابيِّ وهو يُفَسِّر هذا الحديث؛ فيقول: "معناه: أنَّه كره إفناء أمةٍ من الأمم، وإعدامَ جيلٍ من الخلق حتى يأتي عليه كلَّه، فلا يُبقي منه باقية؛ لأنَّه ما مِنْ خلقٍ لله تعالى إلاَّ وفيه نوعٌ من الحكمة وضربٌ من المصلحة؛ يقول: إذا كان الأمر على هذا -ولا سبيل إلى قتلهن كلهن- فاقتلوا شرارهن؛ وهي السود البهم، وأبقوا ما سواها؛ لتنتفعوا بهنَّ في الحراسة. ويُقال: إنَّ السود منها شرارها وعُقُرها"[3].
بهذا الحديث تحدَّد المنهج الإسلامي تجاه مسألة الكلاب، على خلافٍ بين العلماء في قتل الكلب الأسود لاختلافهم في المراد منه.
قال النووي: "أجمع العلماء على قتل الكلب الكَلِب[4]، والكلب العقور، واختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه؛ فقال إمام الحرمين (الجويني) من أصحابنا (الشافعية): أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أولًا بقتلها كلِّها، ثُمَّ نسخ ذلك، ونهى عن قتلها إلا الأسود البهيم، ثُمَّ استقرَّ الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها؛ سواءٌ الأسود وغيره، ويستدل لما ذكره بحديث ابن المغفل"[5].
الإجماع على قتل الكلب العقور سببه ما يُسَبِّبه من الضرر، ومن قال من العلماء بقتل الكلاب السود مطلقًا يقول: بأنَّه "شرارها وعُقُرها". كما في كلام الخطابيِّ؛ فالأمر يدور عند العلماء على مسألة الضرر؛ فالشاهد في الحديث أنَّ الكائنات الحية يحرم إبادتها باعتبارها أمةً من الأمم.
بهذه التعاليم يقطع الإسلام تمامًا طريق الخطر الذي تُعاني منه البشرية اليوم، وهو خطر انقراض كثيرٍ من الأنواع والسلالات الحيوانية، وهي المعدلات التي بلغت حدًّا خطيرًا، وما زالت محاولات إنقاذ السلالات والأنواع -التي أصبحت نادرة- عاجزة عن تدارك معدلات الانقراض.
مسألة: ما يُباح قتله من الكائنات الحية:
بقي في هذا المبحث مسألة ما يُباح قتله من الكائنات الحية، وينبغي ملاحظة أنَّ المباح هو القتل، وهذا لا يعني: (وجوب القتل)، ولا يعني: (إباحة الإبادة للنوع).
عن عائشة رضي الله عنها، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ"[6].
سُمِّيت فواسق لأنَّ "أصل الفسق في كلام العرب الخروج، وسُمِّيَ الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله تعالى وطاعته، فسُمِّيت هذه فواسق لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب، وقيل: لخروجها عن حكم الحيوان في تحريم قتله في الحرم والإحرام"[7].
بهذا يدخل معها كلُّ مؤذٍ في حكمها، وعلى هذا رجَّح ابن دقيق العيد التنوين على لفظ "خمس" -وهو المشهور- على إضافتها إلى الفواسق، وقال: "التنوين يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى، وقد يشعر بأنَّ الحكم المرتب على ذلك -وهو القتل- معلَّلٌ بما جُعل وصفًا وهو الفسق؛ فيقتضي ذلك التعميم لكلِّ فاسقٍ من الدواب"[8].
استدلَّ على هذا الحافظ ابن حجر بروايات الحديث الأخرى، قال: "التقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك، لكنَّه مفهوم عدد، وليس بحجةٍ عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيُحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أوَّلًا، ثُمَّ بيَّن بعد ذلك أنَّ غير الخمس يشترك معها في الحكم؛ فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ أربع، وفي بعض طرقها بلفظ ست، فأمَّا طريق أربع فأخرجها الإمام مسلم من طريق القاسم عنها فأسقط العقرب، وأمَّا طريق ست فأخرجها أبو عوانة في المستخرج من طريق المحاربي عن هشام عن أبيه عنها فأثبتها وزاد الحية، ويشهد لها طريق شيبان التي تقدمت من عند مسلم، وإن كانت خالية عن العدد... وقد وقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد السبع العادي فصارت سبعًا..."[9].
فُسِّر الكلب العقور بما يشمل كلَّ ما يعقر من الحيوانات؛ قال الإمام مالك: "كلُّ ما عقر الناس وَعَدَا عليهم وأخافهم؛ مثل: الأسد، والنمر، والفهد، والذئب فهو الكلب العقور"[10]. وهذا المعنى هو قول الجمهور[11].
لمـَّا كانت العلَّة في الإيذاء فقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحبَّ من ذلك، ويُقال له: غراب الزرع. وعند المالكية خلافٌ في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكَّن من الأذى[12].
على هذا نرى أنَّ المنهج الإسلامي الذي ظهر على الأرض منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، قد اهتمَّ منذ ذلك الوقت بحماية ذلك العنصر البيئيِّ المتمثِّل في الكائنات الحية المحيطة بالإنسان، التي تُشاركه عالمه؛ فالحيوانات والطيور والحشرات صار لها بالإسلام حمايةً تستمدُّ قوَّتها من كونها دينًا يُتعبد به.
د. راغب السرجاني
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/34.
[2] أبو داود: كتاب الصيد، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره (2845)، والترمذي (1486)، والنسائي (4280)، وابن ماجه (3205)، وأحمد (16834)، وصححه الألباني في التعليق على أصحاب السنن، وصحح إسناده شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد.
[3] الخطابي: معالم السنن 4/289.
[4] الكَلِب: داءٌ يُصيب الكلب يُشبه الجنون، فإذا عضَّ إنسانًا انتقل إليه الداء، فصار يعوي عواء الكلب، ولا يستطيع الشرب حتى يموت. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كلب 1/721، والمعجم الوسيط ص794.
[5] النووي: المنهاج 10/235.
[6] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسقٌ يُقتلن في الحرم (3136)، ومسلم: كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحلِّ والحرم (1198).
[7] النووي: المنهاج 8/114.
[8] ابن دقيق العيد: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/311.
[9] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/36.
[10] الموطأ - رواية يحيى الليثي 1/357.
[11] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/39.
[12] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/38، 39.