عبرُ العمرُ بنا بالأسئلة
نصفها يغزلُ باللين ونصفٌ
يتشهى المقصلةْ
فدعوني أحرثِ الأحرفَ خلوني
على كيفي غناءً واشتلوني
نخلةً تندبُ تلك المرحلةْ
ودعوني أسردِ الآن لكم قصةَ موسى
كان جاري
لم يكن جاراً لصيقًا
سابعًا قد كان أو قُلْ ثامنًا
إنْ حسبنا بيتَ ليلى الأرملةْ
لم نكن نحسبهُ بيتا فقد كانتْ به
دكةُ الموتى وفيه المغسلةْ
لم يعدْ يدخلهُ الموتى كما كانوا
ولا حُزنُ الأهالي كلما ماتَ كبيرْ
زوجها آخـرُ من نامَ على الدِّكَّةِ
في صمتٍ وغادرْ
إنه الضيفُ الأخيرْ ..
كِدتُ أنسى سادتي قصَّةَ موسى
قلتُ إني سوف أرويها لكم قبل قليلْ
غير أني ، مُـذ تذكرتُ أحاديثَ لليلى ,
ضاعَ موسى
هكذا ضاعَ بلا قصدٍ كما ضاعتْ بلادٌ
حين لا يَسألُ عن قتلٍ قتيلْ
كان موسى ..
قبل أن أنسى فقد كان لليلى منزلٌ
جدرانه البيضُ كتابُ الأمنياتْ
ونداءاتُ البراءة
قد تعلَّمْنا به الرسمَ، فنونَ الحبِّ
بعضَ الأحرفِ الأولى لأسماءِ البناتْ
هكذا في واقع الأمرِ تعلَّمنا القراءَةْ
وتعرَّفنا على بعض المعاني للحياةْ
وعرفنا ثورةَ الأحرارِ في مصرَ
كتبْنا عن شعارات النضالْ
وعن الوحدةِ والقوميةِ الأولى
ولم نعرف معانيها بذاكَ العمرِ
إذْ أذكرُ لا نعرفُ معناها
ولكـنّا كتبنا ما يقالْ :
مرةً " تحيا بلادي " مرةً " يحيا جمالْ "
ورفعنا مرةً محمودَ كي يكتبَ بالفحمِ على الأعلى
سلاماً يا جمالْ
لا سلامَ السلمِ بالطبعِ عنينا
بلْ سلاماً للقتالْ
دكةُ الموتى ببطنِ البيتِ تُغرينا
وكانتْ ، ربما تُملي علينا ما كتبنا
وحماساً لا أرى الآن له فهمًا ومعنى
كان طعمُ الموتِ يدعونا إلى حائطِ ليلى
كان مسًّـا من خبالْ
وسنيناً رائعةْ
وتعلَّمنا من الحائِطِ عِلمَ الطَّرحِ والجمعِ
وعِلمَ الضربِ قد أتقَنَهُ عنَّا قفانا
حينما يدركنا والدُ ليلى بعصاهُ الموجعةْ
حائطاً كان صغيرًا
ربما كان حقيراً
إنما أكبرَ عندي من شموخ الجامعةْ
ها أنا ضيعتُ موسى مرةً ثالثةً أو رابعةْ
وأنا قبل قليلٍ قلتُ إني سوفَ أحكي
لكمُ قصةَ موسى
والذي قد قالهُ قبل المماتْ
إن ليلى ماتتْ الأخرى ببطءٍ
والذي أذكرهُ كان لها بيتٌ كئيبٌ
ولها خمسُ بناتْ
زوجها قد ماتَ من حسرتهِ
ماتَ بصمتٍ وكمدْ
عربياً كان لا يفخرُ بالخِلفةِ من خلفته دون الولدْ
غادرَ البيتَ بُعيدَ الطفلة الأولى لساعةْ
ثم عادْ
بعد أن مَنَّ عليه الله في ثانيةِ الأطفالِ
ما عادَ بساعةْ
وأتتْ ثالثةُ الأطفالِ تبكي أمَّها منها
ويبكي زوجها يبكي ببيتِ اللهِ في المسجدِ
قد آثـرَ أن يلجأ للهِ أخيراً
ومضتْ ليلى بباب الأولياءْ
ولبعضِ السِّحر ِقد تلجأ بالضعف النساءْ
أحزنتْ ليلى نساءَ الحي بعدَ الرابعةْ
زوجها قد غادرَ المسجدَ
في الشارعِ يمشي هائماً يضحكُ
من هذا العطاءْ
قال والناس ُتواسيهِ
دعوتُ اللهَ في المسجدِ لكنَّ الدعاءْ
ربما لم يبلغِ السَّقفَ ، فقالوا:
إنّ ليلى ما بها غيرُ البناتْ
فتزوّجْ مرةً أخرى سيأتيكَ ولدْ
يحملُ الإسمَ وما تملكُ
يأتيكَ ولدْ
رجلٌ قال: سآتيكَ بأخرى
آخرٌ قال: أنا أدفعُ مهرا
ثالثٌ ليس له مالٌ ولا حتى ولدْ
إنما يملكُ مِنْ خبثِ المرابينَ كثيراً
قال لم تخلُ البلدْ
كلهمْ كانوا رجالاً بخرابِ البيتِ
قد كانوا رجالاً كالزبدْ
إنه من يَغسلُ الموتى
ومَن يَسترُ عوراتِ الرِّجالِ الميتينْ
وإذا ما غادرَ الدنيا حزيناً , لا أحدْ
بعدهُ يَرضى بأنْ يَمتهنَ الغُسْلَ
ويلقى زوجةً تقبلُ بالموتى عَرايا داخلينْ
وعرايا خارجينْ
ويدُ الزَّوجِ التي مرَّتْ على الموتى
تمرُّ الآن فوقَ الخَدِّ والشَّعْرِ
كأنَّ الموتَ في راحتهِ يزحفُ
كي يحجبَ كلَّ النائمينْ
من ترى يقبلُ في ذاكَ سوى ليلى
وليلى...
أنجبتْ خامسةَ الأطفالِ في كل تحدٍ وعنادْ
زوجها لم يترك البيتَ لساعةْ
مثلما كان وعادْ
لا ولا غادرَ للمسجدِ و الشارعِ
أو شاركهُ الناسُ الحدادْ
وارتضى كلَّ الذي قالوه:
ليلى ما بها غيرُ البناتْ
وحدَها ليلى مع الدَّايةِ تبكي
والنساءِ النادباتْ
دخلَ الغرفةَ ، في صمتٍ تعرَّى
وعلى الدِّكةِ أرخى رأسه , نامَ وحيداً
ثم ماتْ
***
ها أنا ضيَّعتُ موسى
مرةً خامسةً أو عاشرةْ
وأنا قلتُ بأني سوف أروي
لكمُ قصَّةَ موسى
من ركام الذاكرةْ
كان موسى
أيُّ موسى !!
أنا لا أعرفُ موسى