إنَّ الله عزَّ وجلَّ تكفَّل بحفظ الدين الإسلامي الذي أنزله على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقد هيَّأ الله عز وجل لنبيِّه صلى الله عليه وسلم أصحابًا وأنصارًا حملوا الأمانة من بعده ورعوها حقَّ رعايتها، ثم سار التابعون لهم بإحسانٍ على طريقتهم ومنهجهم إلى يوم الدين.

ولمـَّا نشأت البدع وظهرت الفرق التي حذَّرنا منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، سخَّر الله من عباده الصالحين في كلِّ مكانٍ وزمانٍ من يدعون إلى السُّنَّة ويُبيِّنوها للناس، ومن هؤلاء العلماء الذين بذلوا جهدهم وأوقاتهم في سبيل هذا الأمر العظيم الأئمَّةُ الأربعة رحمهم الله، وهم: (الإمام أبو حنيفة، الإمام مالك، الإمام الشافعي، الإمام أحمد ابن حنبل).

وهؤلاء الأئمَّة هم المقتدى بهم في الإسلام، والمعتمد على أقوالهم وفقههم بين المسلمين، ولم يكن بين هؤلاء الأئمَّة خلافٌ في المعتقد وأصول الدين؛ وإنَّما وقع الخلاف بينهم في بعض فروع الشريعة وجزئيَّاتها، فما أحوجنا الآن خاصةً أن نتعرف على سيرة هؤلاء الأعلام الذين حفظ الله بهم ديننا الحنيف، ونجا بهم السنة من كل تحريف، وكانوا سببًا وأصلًا لكل فقه واجتهاد حصيف .

الإمام أبو حنيفة

هو الإمام الفقيه المحدث أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي، إمام أصحاب الرأي، وفقيه أهل العراق، وأعلم أهل عصره بالحديث، وصاحب المذهب الحنفي وإمام الحنفية، وأحد الأئمَّة الأربعة عند أهل السنة.

قيل: أصله من أبناء فارس، وُلِد بـ الكوفة عام (80هـ= 699م) في خلافة عبد الملك بن مروان ونشأ بها، وكان يعمل بالتجارة ويطلب العلم في صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء، وامتنع ورعًا أن يتولَّى القضاء أكثر من مرَّة، ويُعدُّ أبو حنيفة رحمه الله من التابعين؛ حيث لقي بعض الصحابة وروى عنهم الكثير.

كان أبو حنيفة رحمه الله عاملًا زاهدًا عابدًا ورعًا تقيًّا كثير الخشوع دائم التضرُّع إلى الله تعالى، وكان ثقةً قويَّ الحُجَّة، ذكيًّا فطنًا سريع البديهة، حسن المنطق والصورة، كريمًا في أخلاقه، جوادًا، جهوريَّ الصوت.

وقد تُوفِّي في بغداد سنة (150هـ= 767م) وله سبعون سنة، وأخباره ومناقبه كثيرة، وعلمه غزير، ومن مصنَّفاته: (مسند في الحديث، وكتاب العلم والتعلم، وكتاب الرد على القدرية، وكتاب الفقه الأكبر، وغيرها..).

وقد اشتهر مذهبه في الكوفة، وبغداد، ومصر، والشام، وتونس، والجزائر، واليمن، والهند، وفارس، والصين، وبخارى، وسمرقند، وبلاد الأفغان والقوقاز، والتركستان الشرقية والغربية .

الإمام مالك

هو شيخ الإسلام، وحجَّة الأمَّة، وإمام دار الهجرة، أبو عبد الله، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي، وأمُّه عالية بنت شريك الأزدية.

هو أحد الأئمَّة الأربعة عند أهل السنة، ومؤسِّس المذهب المالكي وإليه تُنسب المالكية، وُلِد في المدينة على الأرجح عام (93ه= 712م)، ونشأ في طلب العلم، فكان من سادات أتباع التابعين وجلَّة الفقهاء والصالحين، وممَّن كثرت عنايته بالسنن وجمعه لها.

يُعتبر مالك رحمه الله إمام أهل الحجاز في عصره وإليه ينتهي فقه المدينة، وقد أجمع العلماء على أمانته ودينه وورعه، وشهد له جميع الأئمَّة بالفضل حتى قالوا: «لا يُفتى ومالك في المدينة».

فكان حقًّا صلبًا في دينه، عظيم الجلالة كثير الوقار، ورعًا ثقةً ثبتًا حُجَّةً فقيهًا عالمـًا، روى عن غير واحدٍ من التابعين، وحدَّث عنه خلقٌ كثير، ومناقبه وأخباره كثيرةٌ جدًّا، وقد مات رحمه الله في المدينة سنة (179هـ= 795م)، وله من العمر خمس وثمانون سنة.

ترك الإمام مالك الكثير من المؤلَّفات منها: (كتاب الموطأ الذي ظلَّ يُحرِّره أربعين عامًا وجمع فيه عشرة آلاف حديث، و-أيضًا- كتاب تفسير غريب القرآن، وكتاب في المسائل، ورسالة في الوعظ، ورسالة في الردِّ على القدرية، وكتاب في النجوم).

وقد ذاع صيت مذهبه في جميع الأقطار، فرحل الناس إليه من كلِّ مكان، وظلَّ يعلم ويفتي قرابة سبعين عامًا، وانتشر مذهبه في مصر، والمغرب الأقصى، والجزائر، وتونس، وطرابلس، وهو الغالب في السودان وبعض دول إفريقيا، والأندلس، والبصرة، والكويت، وقطر، والبحرين .

الإمام الشافعي

هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله، إمام عصره وفريد دهره، وأحد الأئمَّة الأربعة عند أهل السنة، وإليه نُسِبت الشافعيَّة كافَّة.

وُلِد عام (150هـ= 767م) في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، أقبل منذ صغره على تعلم اللغة العربية والأدب -خاصَّةً الشعر- وبرع فيهما، كما برع في الرمي حتى صار يُصيب من العشرة عشرة، ثم أقبل على تعلُّم الفقه والحديث على يد الإمام مالك وسفيان بن عيينة وغيرهما من العلماء.

وكان ذكيًّا مفرطًا حتى إنَّه حفظ القرآن في سنِّ السابعة، وحفظ موطأ مالك في سنِّ العاشرة، وأفتى وهو ابن عشرين سنة.

يُعدُّ الإمام الشافعي أوَّل من ألَّف في علم أصول الفقه، وقد زار بغداد مرَّتين وحدَّث بها، كما قصد مصر في سنة تسعة وتسعين ومائة (199هـ)، وظلَّ بها إلى أن تُوفِّي سنة (204هـ= 820م) وعمره أربعٌ وخمسون سنة.

وله تصانيف كثيرة، أشهرها: (كتاب الأم في الفقه، والمسند في الحديث، وأحكام القرآن، وكتاب السنن، والرسالة في أصول الفقه، والمواريث).

وقد انتشر مذهبه في الحجاز، والعراق، ومصر، والشام، وفلسطين، وعدن، وحضرموت، وهو المذهب الغالب في إندونيسيا، وسريلانكا، ومسلمي الفلبين، وجاوه، والهند الصينية، وأستراليا . .

الإمام أحمد ابن حنبل

هو الإمام البارع، شيخ الإسلام وسيِّد المسلمين، المجمع على جلالته وإمامته وورعه وزهادته وحفظه ووفور علمه وسيادته، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني.

إمام المذهب الحنبلي وأحد الأئمَّة الأربعة، وإمام المحدِّثين الناصر للدين، والمناضل عن السنة، والصابر في المحنة، وهو، وُلِد في بغداد سنة (164هـ= 780م) ونشأ بها، وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخها، وحفظ القرآن، وتعلَّم اللغة، ثم بدأ في رحلات طلب العلم، فذهب إلى الكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام، والجزيرة، وكتب عن علماء ذلك العصر.

كان الإمام أحمد مجتهدًا وبرز على أقرانه في حفظ السنة وجمع شتاتها حتى أصبح إمام المحدِّثين في عصره، وكان قوي العزيمة صبورًا ثابت الرأي قوي الحجة، جريئًا في التكلم عند الخلفاء ممَّا كان سببًا له في محنته المشهورة؛ حيث اقتنع الخليفة العباسي المأمون بقول المعتزلة بخلق القرآن، ولكنَّه مات قبل أن يُناظر الإمام أحمد رحمه الله، ولمـَّا تولَّى المعتصم بعده سجن ابن حنبل رحمه الله لامتناعه عن القول بخلق القرآن، وأطلق صراحه بعد ثمانية وعشرين شهرًا.

وتوقف الأذى عن الإمام في زمن الواثق بالله الذي تولَّى بعد المعتصم، وبعد أن تُوفِّي الواثق وتولى الخليفة المتوكل أبطل بدعة خلق القرآن وكرَّم أحمد ابن حنبل وبَسَط له يد العون، وظلَّ ابن حنبل على منهاجه ثابتًا على رأيه حتى تُوفِّي ببغداد سنة (241هـ= 855م) وله سبعٌ وسبعون سنة.

وللإمام أحمد رحمه الله تصانيف كثيرة، أشهرها المسند الذي يحتوي على ثلاثين ألف حديث، وقيل: نيِّفًا وأربعين ألف، وله كتب في التاريخ والتفسير وفضائل الصحابة والمناسك والزهد، وجمع تلاميذه من بعده مسائل كثيرة في الفقه والفتوى ودوَّنوها ونقلوها بعضهم عن بعض في مجاميع كبيرة، ومن هؤلاء التلاميذ: (محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح، ومسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب الصحيح، وأبو داود صاحب السنن، وولداه صالح وعبد الله، وغيرهم ..).

قصة الإسلام