فتاة صغيرة أوهمها أشخاص بأنّ أهلها ماتوا، لتعمل في خدمتهم بالسخرة لأكثر من 50 عاماً.. وبعد اكتشافها الحقيقة، وبعدما وضع القضاء يده على القضية، تدهورت صحتها، وفارقت الحياة قبل أن تسمع حكم العدالة.. لكنها قبل موتها قالت بصوت متعَب أمام قاضي التحقيق: «بدّي حقّي، مش أكتر».
أواخر عام 1957، أُجبر والد سعدى (مواليد بلدة بيصور عام 1942)، وهو المزارع البسيط، على إرسالها من جزين، وهي في الخامسة عشرة من عمرها، للعمل خادمة لدى سيدة فرنسية في محلّة الأشرفية ببيروت، لكي تعيله على تربية أخوتها الثمانية الأصغر منها سناً، فعملت لديها ثلاثة أشهر فقط، بسبب مغادرة الفرنسية لبنان إلى بلادها.
وأثناء محاولة سعدى التوجّه نحو بلدتها، دخلت دكاناً في محلّة قصقص، لتستفسر عن «بوسطة» تقلّها.. فالتقت صدفة بالمدعو ف.ع. وزوجته، اللذين أوهماها بأن بلدتها دمِّرت خلال أحداث 1958، وأنّ أفراد عائلتها فارقوا الحياة جميعاً.. وبذلك استبقياها في منزلهما خادمة بلا أجر، وأطلقا عليها اسم مريم، رغم أنها أخبرتهما بأنها مسجّلة في دوائر النفوس باسم سعدى.
دون أجر
بقيت «مريم» تعمل في ذلك المنزل من دون أجر، لأكثر من 20 عاماً، إلى أن توفيا، وقرّرت ابنتا المتوفيَين توارث الخادمة، فأخذتا تستخدمانها كلّ في منزلها، بل صارتا تعيرانها إلى الأقارب من دون أجر.
وحين تقدّمت سعدى في العمر (65 عاماً)، اشتدّ عليها المرض، فقرّرت الشقيقتان التخلّص منها و«رميها» في مأوى للعجزة، ما استدعى مستندات ثبوتية لها.
ومن خلال تحريات دائرة نفوس جزين، توضّحت خيوط المأساة، وحصل اللقاء الأول بين المدّعية وأشقائها وشقيقاتها للمرة الأولى منذ عام 1957، والذين تعرّفوا إليها بسبب الشبه الكبير بينها وبين والدها، وبقيت سعدى في منزل شقيقها.
وفي التحقيقات، أوردت سعدى أن زوج إحدى السيدتين اللتين عملت لديهما، اعتدى عليها جنسياً 4 مرات.
وأصدر قاضي التحقيق في بيروت، فادي العنيسي، قراراً ظنياً في القضية، أحال بموجبه الشقيقتين وزوجيهما وابنة عمتهما لمحكمة الجنايات في بيروت.
بقيت القضية قيد المتابعة في القضاء 3 سنوات، من دون أن يجري توقيف أي من المدّعى عليهم، إلى أن صدر قرار الهيئة الاتهامية في بيروت، وقضى بإصدار مذكرة إلقاء قبض بحق المدّعى عليهم الخمسة.
عيناها
لم يتسنَّ لسعدى أن تقف تحت قوس المحكمة، وتشهد على النطق بالعدالة، إذ توفيت نتيجة تعرّضها لذبحة قلبيّة، بعد معاناة طويلة مع المرض.
لكنها قبل أن تفارق الحياة، أوصت بأن توهَب عيناها إلى أحد المحتاجين. فهل حاولت أن يكون «المحتاج» الذي منحته عينيها، شاهداً على حياة امرأة نشأت غريبة وعاشت غريبة ورحلت غريبة؟.