كانت الفكرةُ التي تقول إن الذكاء یمكنه أن یختلف من جنس إلى آخرَ، قد تصدرت العناوینَ مجددًا؛ لكنَّ قوانینَ التطورِ جعلتها في النهايةِ فكرةً مستبَعدة!
رسم توضیحي لشریط الحمض النووي DNA
علم النفس الايجابي
عادت إلى الظهور مؤخرَا في الصحفِ، فكرةُ وجود اختلافات جینیّةٍ في الذكاء بین المجتمعات، وأشیرُ هنا تحديدًا إلى مقال الرأيّ بالنیویورك تایمز الذي نشره المختص بعلم الوراثة في جامعة هارفارد (دیفید رایك (David Reichإذ یركز د.رایك في مقاله على وجود طبیعة اعتباطیة ]جینیة[ في التجمعات العرقیة المتوارثة، لكنه یزعم مع ذلك، أنه عندما تتواتر السلالةُ الواحدة لفتراتٍ طویلة، على القارات باختلافها؛ فإن هذه الفترات تُخَلّفُ صفاتٍ وراثیةً لسكان القارات ذاتها المعاصرین، هذا یتضح أكثر في الصفات الجسدیة، مثل لون البشرة والشعر، تلك السمات التي لا یُجَاَدل البتة في وجودِ سببیّةٍ جینیةٍ؛ لظهورها، إلا أن د.رایك یشدد على ظنه بأن الصفاتِ الوراثیةَ جمیعَها؛ حتى تلك التي تؤثر في السلوك والإدراك، تختلف بین المجتمعات والأجناس.
وهذا استقراء من العوامل الوراثیة للصفات الجسدیة، في كیفیة عمل أدمغتنا؛ وهو استقراءٌ یعیدنا إلى افتراٍض عرَضه كلٍّ من تشارلزمورايCharlesMurray ، وریتشارد جاي هیرنستاین Richard J Herrnstei، وذلك في كتابیهما
[The Bell Curve] الذي نُشِر سنة 1994، وأحیاه موراي من جدیدٍ مع عالم الأعصاب والكاتب الأمریكي سام هاریس Sam Harris، وفيه يزعم موراي وهیرنستاین أن الاختلافات الملاَحظة في متوسط معدلات الذكاء في الجماعات العرقیة، هي “أقرب كثیًرا” إلى أن تكون بسبب عواملَ بیئیةٍ ووراثیةٍ تمامًا؛ أي أن العوامل البیئیَّةَ والثقافیة لها دورٌ كبیرٌ، في أي اختلافات تُرى في متوسط معدل ذكاء الجماعات المختلفة، وذلك یبدو مقبولًا -عقليًّا- في البدایةِ؛ لكنه یفترض كذلك أنه، بما أن التنوع الوراثيّ یُساهم في ارتفاع معدل الذكاء أو انخفاضه بجماعة معینةٍ من البشر، فإن الاختلافات الجینیة الموجودة بین جماعة وأختها تعزز أيضًا الاختلافات في معدل الذكاء.
على أن علم الوراثة والتاریخ التطوريّ للذكاء، یوحیان –يشيران- في الواقع إلى العكس تماًما؛ فغالبُ سماتنا، كالطول مثًلا، قد حُدِّدَتْ على المستوى الأمثل بالانتخاب الطبیعيّ؛ فالأمثل للبشر أن یكونوا بطولهم الذي هم عليه الآن، أي في المتوسط. لكنَّ بعضَ الاختلافات الجینیّةِ تمیل إلى جعلِ بعض الناس أقصرَ قلیلًا من المتوسط، وبعضهم أطول قلیلا، والذي یحافظ على التوازن بین هذه الاختلافات هو الانتخاب الطبیعي؛ وذلك لإبقاء متوسط الطول”منضبطٍ تماًما”. أما الذكاء فلیس هكذا؛ فالقوى التطوریة الشدیدة، قد دفعتِ بالذكاءِ إلى اتجاهٍ واحدٍ فقط عند أسلافنا القدماء، وذلك عكس الطول مثلا؛ فأن یكون الواحد أطول، لا يعتبر ذلك مزیة.
علم النفس
والذكاء هو السمة الممیزة لنا والمزّیة الوحیدة التي نمتاز بها على الحیوانات الأخرى؛ لأنه قد أعطانا الدفعة الأولى في سبيل استعمار البیئات على اختلافها، وتضاعفت ثمرته كثیرًا؛ باختراع الثقافة واللغة، وقد أسفرتْ تلك المزیةُ الانتخابیةُ للذكاءِ الذي یتضاعف أبدًا، عن تأثیر “كرة الثلج” الذي ربما یتوقف فقط عند حدود حجم قناة الولادة والاحتیاجات الأیضیة للأدمغة الناضجة.
وهكذا حبانا التطورُ ببرنامجٍ جینيٍّ به تعلیماتٌ عن كیفیة بناء أدمغتنا المعقدة ببراعتنا المعرفیة الناتجة عنها؛ على أن أيَّ برنامجٍ جینيٍّ، یتأثر بطفرات الصدفة، لكنه لا یختلف عن غیره مع ذلك، بل ما یُفَرِّقُ بین الذكاء وبین سماتٍ غیرِه مثل الطول، هو أن معظم الطفرات الجینیة العشوائیة التي تؤثر على الذكاء، تؤثر علیه
تأثيرًا سیئًا، والطفرات العشوائیة من الناحیة الاحصائیة، هي أقرب كثیرًا إلى أن تُفْسِدَ البرنامج الجینيَّ المعقدَ لتطور الدماغ، أكثر من أن تُصْلحَه، لاسیّما في السبل التي لم یُثِبتْها الانتخابُ الطبیعيُّ لجنسنا؛ وذلك للسبب ذاته الذي یُستبعد أن یؤدي الإصلاح العشوائي لمحرك سیارة فورمیلا وان Formula One عالي الضبط، إلى تحسین أدائه، فبالمثل لا یمكن أن نتوقع أن الذكاء يمكنُ أن یتأثرَ بموازنةِ طفرات تنشیط الذكاء، وطفرات تثبیطه، بل إن الاختلافات الجینیّة في الذكاء یمكن إلى حد كبیر أن تعكس حْمل الطفرات التي تسبب فی تراجعه. ولأن معظم الطفرات العشوائیة التي تؤثر على الذكاء تقلله؛ فإن التطور یمیلُ إلى انتخاب ما یقف ضدها، ولا شكّ أن طفرات جدیدة ستتولد دائًما في الأجناس، على أن الطفرات التي بها تأثیرٌ كبیرٌ على الذكاءِ -كالتي تسبب عجًزا فكريًا واضحًا مثًلا- سیزیلها الانتخاب الطبیعيّ على الفور، وقد تدوم الطفرات ذات التأثیرات المعتدلة لبضعة أجیال؛ لأن آلاف الجینات تساهم في نمو الدماغ؛ فلا یمكن للانتخاب الطبیعيّ أن یبقیَها كلَّها خالیةً من الطفرات طوال الوقت، فالأمر أشبه بمحاولةِ لعبِ أدوارٍ كثیرةٍ من لعبة Whack-a-mole في آن واحد وباستخدام مطرقة واحدة.
ویكون مآل ذلك إلى أن أي شعبٍ، بأي وقتٍ، سیحمل مجموعةً مختلفةً من الطفرات التي تؤثر على الذكاء، وهذه الطفرات ستختلف بین الأجناس والعشائر والأسر والأفراد، وهذا التقلب المستمر في الاختلاف الجینيّ یسیر ضد أي ارتفاع أو
انخفاض في الذكاء طویل المدى، وهناك نقطة أخرى مهمة، هي أن العوامل الوراثیة تمیل إلى التأثیر على الذكاء بطرقٍ غیر مباشرةٍ، أكثر من تأثیرها على لون البشرة والطول وغیرها من الصفات الجسدیة؛ فالذكاء مثل أداء سیارةٍ “فورمیلا وان”؛ خاصیة ناشئة/ مكتسبة في النظام بأكمله، ولا توجد وحدة وراثیة مخصصة “للذكاء” یمكن أن یشتغل بها الانتخابُ الطبیعيّ دونما تأثيرٍ على الصفات الأخرى في الوقت نفسه، وغالًبا ما یكون هذا التأثیرُ تأثیًرا سیئًا.
فنحن بحاجة إلى أن نبتعد عن التفكیر في الذكاء، وكأنه حلیب یُدرُّ من قطیع أبقارٍ تحكمها مجموعة صغیرة ثابتة ومحددة من التغیرات الجینیة، التي یمكن انتخابها وزرعها في الحیوانات، ونقلها من جیل إلى الجیل التالي، بل هو العكس تمامًا؛ إذ تؤثر آلاف التغیرات على الذكاء، وهذه التغیرات في ذاتها تتبدل باستمرار، وتؤثرعلى الخصال الأخرى، ولیس من المستحیل أن ینتج الانتخاب الطبیعي جنسًا
به اختلافات في الذكاء، لكن هذه العوامل تجعل ذلك مستبعدًا إلى حدٍ كبیر، ولكي ینتهي الأمر إلى وجود اختلافاتٍ جینیةٍ منظَّمةٍ بین الأجناس القدیمة الضخمة؛ لابدّ أن تكون القوى الانتقائیة التي تؤدي إلى هذه الاختلافات هائلةً، ولابدّ -أكثر من ذلك- أن تعمل عبرَ قاراتٍ بأكملها، وفي بیئات مختلفة اختلافا كبيرًا، وأن تبقى صامدة أمام عشرات آلاف السنین من التغیر الثقافيّ الضخم. وسیناریو كهذا، لیس
مجرد تكهنات، بل إنني أزعم أنه لا یُحتمل وقوعُه أصلا، وفصل الخطاب هو ذاك: ففي حین أن الاختلاف الجینيَّ یمكن أن یساعد في تفسیر السبب وراء أن شخصًا أكثر ذكاءً من آخر؛ فیستبعد أن تكون هناك اختلافات جینیة مستقرة ومنظمة؛ تجعل جنسًا أكثرَ ذكاءً من غیره، لذلك فإذا كان یعنینا ذكاء الناس، فالأفضل لنا أن نصب تركیزنا على العوامل البیئیة والثقافیة التي نعرف أنّ لها یدًا فیه، ویمكن تغییرها. ولا یوجد نقص بهذه العوامل: الرعایة الصحیة للأم والرضیع، الاحتضان في الحیاة المبكرة، والتعرض للذیفات النمائیة العصبیة مثل الرصاص، والتعلیم وجودته؛ كل ذلك یصنع فرًقا حقیقیًّا. إن درجات معدل الذكاء، هي مقیاسٌ لقدرةِ الشخص الفكریة، ولیست حدًّا لإمكانیاته الفكریة؛ وینبغي أن یضمنَ التركیزُ على الأشیاء التي یمكننا تغییرها، أنه یمكن للجمیع أن یحققوا ما قُسم لهم من إمكانیاتهم.
المصدر
الماركسية اللينينيية، وبلدان الشرق، والإسلام – صفوت حاتم
جدل المعرفي والتربوي: نحو قراءة نقدية لأطروحات أنثروبولوجية – محمد فاوبار
اللهجات العربية القديمة وأثرها في التراث الشعري – العبدلاوي قدور
تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة لأبي الريحان البيروني – أحمد محمود الساداتي
مفهوم التحليل النفسي عند جان بول سارتر – نفيسة عبدالفتاح شاش