ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نبي هدىً ورحمة لبني الإنسان ، وهكذا أهل بيته (عليهم السّلام) ، فهم فرع من ذلك الغصن المبارك ؛ لأنّهم أهل بيت النبوّة ، بيت هداية ورشاد .
والحسين (عليه السّلام) وليد هذا البيت ، وحفيد جدّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فهو شعاع هدىً ورحمة . لما رأى القوم في اليوم العاشر من المحرّم ، لم تهدهم خطب ، ولم تأثّر فيهم موعظة ، وهم مصرون على جهلهم وغيّهم ، فأراد (عليه السّلام) أن يعيد النصح عليهم ثانياً ، علّهم ينصاعون إلى صوت حق ، وكلمة خير ، وهو حريص على إنقاذهم من الضلال والغي ؛ لأنّه وليد نبي الهدى والرحمة .
فوقف (عليه السّلام) أمام ذلك الزخم الجاهلي ، بأفكاره ومشاعره ، حاملاً بيده قرآن هداية ونور ، مندداً بموقفهم هذا ، وموبّخاً لإصرارهم وعنادهم قائلاً : (( تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً )) أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في
أيمانكم ، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم , بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ؟ فهلاّ ـ لكم الويلات ! ـ تركتمونا والسيف مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستصحف , ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا ، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ، ثمّ نقضتموها .
فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذّاذ الأحزاب ، ونَبَذَة الكتاب ، ومحرّفي الكَلِم ، وعصبة الإثم ، ونفثة الشيطان ، ومطفئي السنن .
ويحكم ! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون ؟!
أجل والله ، غدر فيكم قديم ، وَشِجَتْ عليه اُصولكم ، وتأزّرت عليه فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر شجاً للناظر ، وأكلة للغاصب .
ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، واُنوف حمية ، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .
ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر )) . ثمّ أوصل كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي :
فـإنْ نُـهزم فهزّامونَ قُدماً وإنْ نُـغلب فـغير مُغلّبينا
ومـا إن طبّنا جبنٌ ولكنْ مـنايانا ودولـةُ آخـرينا
إذا ما الموتُ رفّع عن اُناسٍ كـلاكـلَهُ أنـاخَ بـآخرينا
فـأفنى ذلـكم سروات قومي كـما أفنى القرونَ الأوّلينا
فـلو خلدَ الملوكُ إذن خلدنا ولـو بقي الكرامُ إذن بقينا
فـقل لـلشامتينَ بنا أفيقوا سـيلقى الشامتونَ كما لقينا
(( ثمّ وأيم الله ، لا تلبثوا بعدها إلاّ كريثما يُركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّة إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراط مُسْتَقِيم )) .
ثمّ رفع (عليه السّلام) يديه نحو السماء وقال : (( اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة ؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا وإليك المصير , عليك توكّلنا .
والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه ؛ قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي )) .