لمّا رأى الإمام الحسين (عليه السّلام) الجمع الحاشد للجيش الاموي ، الضال في أمره ، والحائر في مصيره ، أراد أن يوقظ ضمائرهم الميّتة ، ويرشد جمعهم نحو الهدى والحقّ ؛ فوقف فيهم واعظاً ، خطب الخطبة الأولى في صبيحة اليوم العاشر من محرّم , فدعا (عليه السّلام) براحلته فركبها ، ونادى بصوت يسمعه جلّهم :
(( أيّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ ، وحتّى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري , وصدّقتم قولي ، وأعطيتموني النَّصف من أنفسكم ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تُعطوا النَّصف من أنفسكم ، ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ )، إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.
فسمعن النساء صوته , فبكين وارتفعت أصواتهن , فقال الحسين لأخيه العباس وابنه علي الأكبر (عليهم السّلام) : (( سكّتوهنّ ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ )) .
ولمّا سكتن , حمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء , فذكر ما لا يُحصى ذكره ، فما سمع متكلّم قبله ولا بعده أبلغ منه , ثمّ قال : (( الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال , فالمغرور مَنْ غرّته ،
والشقي مَنْ فتنته ، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا ؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها ، وتُخيب طمع مَنْ طمع فيها . وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته , فنعم الربّ ربّنا ، وبئس العبيد أنتم ! أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم ! لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم , فتباً لكم ولما تريدون ! إنّا لله وإنّا إليه راجعون , هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين
أيّها الناس ، انسبوني مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيه ، وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ؟ أوَ ليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمّي ؟ أوَلم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة ؟
فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ , والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ بمَنْ اختلقه . وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي . أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟ ))