عندما اقترب الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من الأربعين سنة حُبِّب إليه الخلاء، فكان يأخذ التمر والماء ويذهب إلى غار حراء الذي يبعد عن مكة بمقدار ميلين تقريبًا، وهناك كان يقضي وقته في عبادة الله والتفكير في قدرته العظيمة في الكون، مبتعدًا عن شواغل الدنيا، مرتقيًا بنفسه عمّا تتعلق به قلوب أهل الأرض من متاع دنيوي زائل.

وبدأت طلائع النبوة وإرهاصاتها في الظهور، ومن ذلك: أن حجرًا من مكة كان ينطق ويتكلم ليسلم عليه[1].

ومن ذلك أيضًا الرؤيا الصادقة في منامه، حيث كان لا يرى أي رؤيا إلا وقعت كما رآها تمامًا واضحة مثل فلق الصبح[2].

نزول الوحي:
وبعد بلوغ الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره، نزل عليه الوحي في شهر رمضان، حيث جاءه الملك العظيم جبريل في غار حراء وقال له: "اقرأ"، فكانت هذه الكلمة هي أول كلمات الوحي الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان -مثل غالب قومه حينئذٍ- أمّيًا لا يحسن الكتابة أو القراءة من كتاب؛ ولذلك قال للملك: "ما أنا بقارئ".

ثم ضمّ الملك جبريل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حتى يؤكّد له أن ما يراه ليس مجرد تخيلات أو توهمات، وحتى تطمئن نفسه وتتهيأ لاستقبال الوحي.

ثم قال الملك جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1-3]، وهذا أول ما أُنزل من القرآن الكريم.

والمقصود بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ...} الآيات: أي إنك لن تستطيع أن تقرأه بقوتك ومعرفتك يا محمد، لكنك ستقرأ هذا القرآن بحول الله وقته وإعانته لك، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلّم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمة أمية لا تكتب[3].

ثم انقطع الوحي لفترة قصيرة حتى يذهب ما كان في نفس النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الروع، وليحدث له التشوّف والتشوق إلى مجيء الوحي مرة أخرى[4].

وعاد جبريل ليظهر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم جالسًا على كرسي عظيم بين السماء والأرض ولينزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1-5]، ثم كثر نزول الوحي وازداد بعدها في تتابع واستمرار[5].

ومعنى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}: أي يا من تغطّيت واستغشيت بثيابك، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد تغطى بثيابه حين رأى الملك جبريل من شدة خوفه وفزعه.

{قُمْ فَأَنْذِرْ}: أي قم فحذّر وخوّف المشركين من العذاب الذي ينتظرهم إن ظلوا على شركهم وعبادتهم للأوثان.

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: أي اختص ربك ومولاك بالتكبير والوصف بالعظمة والكبرياء أن يكون له شريك.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}: أي طهّر نفسك باطنًا من الذنوب والمعاصي وأعمال الشرّ، وظاهرًا بتطهير الثياب من القاذورات والنجاسات، وهذا الخطاب موجّه لكل مؤمن.

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}: هذه دعوته لمحاربة الشرك والوثنية لأنها سبب العذاب والذل في الدنيا والآخرة.

فاشتمت هذه الآيات على تكليف النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بتطبيق أوامر الله على نفسه أولًا ثم دعوة الناس إليها، فاُمِر في الآيات بترك المعاصي والذنوب وتطير نفسه ظاهرًا وباطنًا، كما اشتملت الآيات على أمره بإنذار الناس على عاقبة الشرك وعبادة الأوثان، ودعوتهم لعبادة الله وحده لا شريك له.

الألوكة
[1] صحيح مسلم (4222).
[2] البخاري (3) صحيح مسلم (231) وفيق الصبح هو ضياؤه ونوره.
[3] فتح الباري (1/4)، والروض الأنف (1/400).
[4] فتح الباري (1/4).
[5] البخاري (4545) صحيح مسلم (231).