«أزمة» المراهقة!
بات مصطلح «المراهقة» على كلّ لسان وشِفَة، والكل يتحدث عنه ويُدْلي بِدَلْوِه فيه، الكبير والصغير، الأب والأُم، الصبي والفتاة، المختص وغيره، وتدور حوله دراسات وندوات وحوارات تكاد لا تنتهي.
والكل يُصوِّر مرحلة «المراهقة» كأنَّها رياح عاتية أو «عاصفة عمرية» تضرب كل مَنْ يحيط بهذا «المراهق» ولا بُدَّ أن تُخلِّف وراءها أضراراً وخسائر!
فما هو العمل، وكيف نواجه، وهل هناك إجراءات وقائية؟
«المراهقة» مصطلح حديث
وفي سائر النصوص الشريفة لم يرِدْ مصطلح «المراهقة» بصدد الذي نحن فيه، بل ورد «الشاب» و«الحَدَث» في التعبير عن هذه المرحلة العمرية من حياة البشر.
و«الشاب» هو الصبي اليافع قليل السن.
«والحَدَث» بمعنى «الجديد» أي نقيض القديم، وجمعه «أحداث».
وأمَّا الفعل «راهق» فيعني الاقتراب من الشيء، وراهق الغلام، فهو مراهق، أي قارب النُّضج والرُّشد.
مرحلة من مراحل
وبعيداً عن التعريفات الأكاديمية لهذه الفترة العمرية الانتقالية من مرحلة إلى مرحلة، وعن تقسيماتها وما يُكتب حولها ممَّا أصبح شائعاً بين الناس... بعيداً عن كل هذا، نسأل:
هل هناك فعلاً أزمة مراهقة إلى درجة التخوُّف منها والتأهُّب لمواجهتها بأقل الخسائر الممكنة؟
جُلُّ ما في الأمر أنَّ النُمُوَّ التدرُّجي «لابن آدم» يُحتِّم الدخول في مرحلة الاكتمال الجسدي والنُضج العقلي وبداية الاختلاط الاجتماعي والإدراك النفسي الجماعي، بعد أن كان تفكيره، وبحسب التربية السائدة «طفولي» يعتمد على غيره، وخاصة في هذه الأيَّام التي بلغ فيها الغَنَج مبالغ لم تكن حتى أمد قريب، إلاَّ لأفراد قليلة من أبناء السلطة والجاه، وأبناء الميسورين.
هذه التطورات ينبغي وضعها في إطارها السَّوي الطبيعي، والتعامل معها على هذا الأساس، بما فيها حالات الاختلاف أو النقاش أو محاولة إثبات الذات أو لفت النظر أو تضخيم الطموحات أو الجهر بأحلام اليقظة.
فهذه أُمور متوقَّعة من كائن بشري ينمو ويشتد {مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الـرُّوم: 54] ليصل أو ليتَّجه لإتمام ما كُتب له من عمر في هذه الدُّنيا، فهو يزداد كل شهر بل كل يوم خبرةً ودروساً وعِبَراً، دون أن يصل إلى حدٍّ معيَّن ولو بلغ {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النّحـل: 70] باستثناء حالات كُتب عليها أن لا تعلم من بعد علم شيئاً.
أما الناحية الجسدية، فهي عندي وعندك وعنده آخذةٌ بالضعف المتفاوت في نِسَبِهِ، لأسباب ذاتية أو خارجية أو ظروف طارئة... هذا الضعف يظهر تدريجاً علينا جميعاً ولا ينجو منه أحد {...مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الـرُّوم: 54].
هل هي «أزمة» حقاً؟
عندما نرى بعض الناس يتعامل مع هذه المسمَّاة «بأزمة المراهقة»، يتعامل معها بناءً على ما تقدَّم، بأنَّها حركة طبيعية يُتَعايَش معها، وتُعالج الأُمور برويَّة في أوانها، مع ما يتطلب ذلك من هدوء وصبر وضبط وحزم وتجرُّد وحنان... لا نجد عندها أزمة.
وصحيح أنَّ هؤلاء قلَّة في مجتمعنا، لكنَّهم موجودون فعلاً، ونراهم ونُعايشهم وندعو الله عزَّ وجلَّ ليُوفِّقهم ويُثيبهم أجراً على أعمالهم.
هذه الفئة، وإن كانت قليلة، لكنَّها جمعت: سكينة الفطرة + والخُلُق الحسن + والخبرة المختزنة = فلم تواجه «أزمة مراهقة» كالذي تُثيره الوسائل الإعلامية «والمختصون»، بل واجهوا حالات طبيعية من الصعوبات التي يُمكن أن نراها مع الأخ أو الأسرة أو الشريك التجاري أو الجار أو الصديق أو في الحياة الزوجية... دون أن يكونوا هؤلاء في فترة «المراهقة» وإن كان بعضهم أشد وأخطر وقد يُحكم عليه «بالحَجْر» الشرعي هو مصطلح شرعي له أحكامه التفصيلية، يقضي بمنعه عن التصرف في ما يملك نتيجة سوء تصرفاته، ويوكل أمره للحاكم الشرعي. !
أزمة غير المراهقين!
هل فكَّر أحدٌ منَّا يوماً أنَّ غير المراهقين قد يكونون «مراهقين»؟
إنَّ كثيراً من المشاكل التي قد تتفاقم فيما بعد، والتي تحدث مع الشباب، هي ردَّة فعل منهم على طريقة التعامل معهم وعدم تقدير ما يواجهون من ظروف «وامتحانات» تحيط بهم في:
أ ـ وسائل الإعلام بأغلبيَّتها الساحقة، في استفزازهم وإثارتهم...
ب ـ المجتمع المادي المحيط، الذي بلغ درجة «توثين» الصنم الذي يُعبد من دون الله سبحانه. الجسد و«الأنا» والمظهر والشأنية..
ج ـ الحصار الاقتصادي والنَّهب العلني الذي تمارسه السلطات والعائلات الحاكمة على حساب مستقبل الشباب.
د ـ سدُّ أبواب الترقي العلمي والتخصُّصي أمامه.
هـ الجرائم والمجازر اليومية المرتكبة بحق أبناء أُمَّته لكلّ مجتمع وأُمَّة استفزازاته «المراهقية» الخاصة، ونحن نتكلم عن البيئة الإسلامية. .
و ـ بَطَرٌ وإسرافٌ ونَزَق من فئات معيَّنة يراهم كلَّ ساعة عبر الفضائيات يُنفقون المليارات سنوياً على الرقص والغناء، وهو لا يكاد يحصل على لقمة عيشه.
محيطهم مسؤول
إنَّ تفهُّم حالة هؤلاء الشباب ومجاملتهم والاستماع إليهم وبذل الجهد لمعونتهم، هو جزء من حلِّ المشكلة التي باتت من «المسلَّمات» التربوية!
إنَّ حماسة هذا الشاب ونقاشه وغَيْرته ليست بالأُمور المعيبة بل الخلل في أن لا تكون، والخطر أن تُوظَّف في غير الطريق السَّوي من خلال الانضمام إلى مجموعات فاسدة، بينما التجربة الشخصية علَّمتنا أنَّ كثيراً من هؤلاء هم من أطيب الناس، وعندهم حنان ورأفة وبذلٌ لا نجدها عند غيرهم، وعندما تمَّ توجيههم وإنقاذهم أمكن الاستفادة منهم كثيراً بفضل الله تعالى.
إنَّ أنماط المعيشة الخاصة (الأسرة) والمحيطة (المجتمع) التي تُحيط بالشباب، وخاصة العيش في بيئة متفلِّتة، هي المسؤولة عن ما يُسمَّى بأزمة المراهقة، وهذا ما نراه جلياً في المجتمعات الغربية.
فالتطورات والتغييرات الجسدية والنفسية والاجتماعية وغيرها للشباب، ليس من شأنها أن تُؤدِّي بالضرورة إلى حدوث أزمة لدى المراهقين، بل النُّظم الاجتماعية الحديثة التي يعيش فيها المراهق هي المسؤولة عن حدوث «أزمة المراهقة».
بينما يختلف الوضع نسبياً في المجتمع ذي البيئة المتديِّنة والمضبوطة في مظهرها ومسلكها، والتي تحترم الآداب الدينيَّة والأخلاقية المسنونة.
وحتى الدراسات والأبحاث التجاريبيَّة والأكاديميَّة الشائعة اليوم، تُقرُّ وتعترف بما تقدَّم، عندما تُقسِّم أشكال المراهقة إلى:
أ ـ السويَّة الخالية من المشكلات (وهذا ما لمَّحنا إليه أعلاه).
ب ـ والمراهقة الانسحابية بالانفراد والانعزال (ولها أسبابها والتي يُعالجها الإسلام بالتواصل والبرّ والتردُّد إلى المسجد وغيره...).
ج ـ والمراهقة العدوانية على النَّفس والمحيط.
ما هي مهمتنا؟
إنَّ عملنا الأساس يجب أن ينصبَّ على «تعقيل» وتوجيه الشباب للاستفادة قدر المستطاع من انفعالاتهم وإسرافهم العاطفي وعظيم خيالاتهم وأحلام يقظتهم ومغامراتهم... وذلك بالاستماع والتفاعل والتقدير والتأكيد والتصويب «والتبريد»...
ويكون ذلك بحُسْن التعبير المادي والمعنوي (الاحتضان، الشدُّ على الأيدي، التربيت على الكتف، التقدير لآرائه، الافتخار به أمام الجميع، مدحه، استشارته، توكيله ببعض الأعمال والمسؤوليات، اصطحابه، عدم تجريحه أمام الناس).
إنَّ المتأمل بأحكام الإسلام يجد أنَّ رسول الله كلَّف الشباب بمسؤوليات جهادية حسَّاسة ... وبشَّر مَنْ جعل شبابه وجماله في طاعة الله تعالى، بأنَّه سبحانه يُباهي به ملائكته ويقول: «هذا عبدي حقاً».
أما الإمام الصَّادق ع فقد وجَّه مَنْ شكا إليه قلَّة المؤمنين في البصرة، بقوله: «عليك بالأحداث فإنَّهم أسرع إلى كل خير».
وفي النصوص مدح للمتَّزنين في تصرُّفاتهم من الشباب يستبطن حثاً لهم على ذلك.
كقوله: «خير شبابكم مَنْ تشبَّه بكهولكم، وشرُّ كهولكم مَنْ تشبَّه بشبابكم».
وعنه: «فضل الشاب العابد الذي تعبَّد في صباه على الشيخ الذي تعبَّد بعدما كبرت سِنُّه، كفضل المرسلين على سائر الناس».
والشاب الذي نشأ في عبادة الله عزَّ وجلَّ هو من جملة السبعة في ظل عرش الله عزَّ وجلَّ.
فَلْنلاحظ الفرق بين لغة اليوم السائدة، ولغة الإسلام: لغة تتحدث عن المشاكل والصِّدام والخلاف...
ولغة تتحدث عن «عبدي حقاً» المسارع إلى كل خير المتعبِّد الذي يُباهي به الملائكة لتركه شهوته لوجه الله عزَّ وجلَّ مضمون نصوص مختلفة. .
فهو المولود الذي يولد على الفطرة...
بحاجة إلى مَنْ يستمع إليه بصبر وتقدير...
يحتضنه..
يُجيب على تساؤلاته..
يتفهَّمه..
لا «يُبرمجه» كما يريد!
يهتم به...
يسأل عنه...
يُقدِّره...
يحترمه...
يصطحبه...
يُخصِّص له وقتاً...
نظرتهم إلى المراهقة... ونظرتنا
أيُّها الأحبَّة
«المراهقة» لا تعني الفوضى والتفلت أبداً، بل هي سِنُّ التكليف في الإسلام وتحمُّل المسؤولية الشرعية في العبادات والمعاملات...
وبكلِّ بساطة:
إنَّ نظرة المسلم والمجتمع والبيئة الإسلامية إلى الخالق تعالى والكون والإيمان والآخرة والتشريعات الإلهيَّة... تختلف جميعها تماماً عن نظرة الفرد في الغرب ومجتمعه، الذي يستغرق في إيمانه بالماديات، والمحاصِر للدِّين في طقوس وشكليات تتبدَّل وتتغيَّر دوماً وباستمرار، حيث نرى في كثير من مصطلحاته ما يُناقض الثوابت، والذي يحمل مُسميَّات «فكرية» لا يُمكن التسليم بها بحال، والتي تُلقي بظلالها الثقيلة اليوم على واقعنا بكلِّ عناوينه، مِمَّا سبَّب خللاً نعيشه.
هناك غزو مقنَّع بعناوين «إنسانية» جذابة فيما يُسمَّى تضليلاً «حقوق الطفل» و«حقوق المرأة» و«حقوق الإنسان»!
ونشهد اليوم انقلاباً في مفهوم «العيب» و«الحرام»... أفلا نقع في فخ «المراهقة» «وحقوق المراهق»؟!
إنَّ من الخطورة البالغة أن يُخاطب الغرب شبابه بمصطلحات وممارسات «ودعوات» ومقررات تنتقل إلينا ببغائياً، ومثاله «بأنَّ الصحة الجنسية والإنجابية حق لجميع الأفراد» (وليس الأزواج) وإباحة الحرية الجنسية للمراهقين... «واحترام السلامة الجسدية برضا الطرفين وأن تكون آمنة» (الحمل غير المرغوب فيه)... والدعوة إلى تأخير سن الزواج (لاحظ أنَّهم يدعون إلى تأخير سن الزواج، وخفض سن الممارسة الجنسية!)، وتطالب الوثائق الخاصة بالأُمم المتحدة «بحق المراهقين في الاستقلال عن ذويهم وعدم التدخل في شؤونهم باعتبارها أُمور لا تخص الأسرة بل هي من الأُمور الشخصية» ويجب على الأهل الانسحاب من حياة أولادهم المراهقين!!!
والمثال الثاني مصطلح «الأسرة» ففي الوثائق الدولية لا يعني هذا المصطلح بمفهومه الطبيعي الذي عرفته البشرية طوال تاريخها، وإنَّما يتسع ليشمل أشكالاً متعددة، حيث نجد في «وثيقة عالم جدير بالأطفال» التصديق على مواد الاتفاقيات التي تدعو إلى الاعتراف بالأشكال المختلفة للأسرة ولو تنوعت لتبلغ إباحة الجنس الحر والشذوذ الجنسي!
ففي المادة الرابعة عشر من وثيقة «وثيقة عالم جدير بالأطفال» تؤكد على أهمية الأسرة ودورها في رعاية وحماية الطفل، مع مراعاة أنَّ الأسرة تتخذ أشكالاً مختلفة باختلاف النظم الثقافية والاجتماعية والسياسية، وبناءً عليه وُجدت للأسر عدة أنواع منها:
ـ الأُسَر التي تقوم على مجرد الالتقاء بين رجل وامرأة متعايشين بدون زواج (المساكنة)!!!
ـ الأسر المِثْلية بين رجلين أو امرأتين، ومن حقهما الحصول على طفل بالتبني أو السِّفاح أو استئجار الأرحام!
ـ الأسر الجماعية وهي تتكون من مجموعة من النِّساء والرِّجال وقد ينجبون أطفالاً غير معروفي الأب!
وأمام هذا التنوع الغريب لأنواع الأُسر، أين تصبح حقوق الطفل حيث ينشأ في بيئة غير آمنة على مصالحه وحياته، وأين أصبحت مرحلة المراهقة وأين أمن المراهق النفسي؟!
(بينما الأسرة في اللغة العربية تعني «القوَّة والحبس والدرع الحصينة» وهي تتكون من زواج رجل وامرأة زواجاً شرعياً، واستقر على هذا النظام كافة النظم البشرية القديمة والمعاصرة، وهي أسر اجتماعية ممتدة كما هو في الإسلام، إلى الأُصول والفروع وتقوم العلاقات بينها على التراحم والرعاية والقيام بحقوق وواجبات متبادلة كما هو مُبيَّن في شرع الله تعالى، وعلى الأسرة العبء الأكبر في توفير النفقة والرعاية والحماية للطفل من خلال أواصر الرحم والمودة والتعاطف بين الأطفال وذويهم وسائر الأرحام، وما يترتب على ذلك من التزامات وواجبات وعلاقات وزيارات).
الخلاصة
ليس هناك مرحلة مراهقة كوارثية حتمية صِدامية، إلاَّ بقدر ما يُساهم «المراهقون الكبار» ومجتمع «الحداثة» الذي نعيش، بتأجيج ونشر والتزام «السلوك المراهقي» المنتشر طولياً وأُفُقياً ليكاد يشمل الجميع.
فكم من «مراهقين» غير مراهقين!
وكم ممَّن تجاوز مرحلة «المراهقة» وهو يعيشها في أعلى سلبياتها!
كل هذا يُذكِّرنا بزمن تنقلب فيه المقاييس والموازين ليُصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً!
فنعوذ بالله جلَّ جلاله من علامات آخر الزَّمان.
المصدر/ المراهقة والشباب / الشيخ عباس محمد