التغذية السليمة :
كما أن جسم الطفل يحتاج إلى غذاء ، فإن روحه أيضاً تحتاج إلى غذاء . إن النمو الطبيعي والاعتيادي لجسم الطفل يكون نتيجة التغذية السليمة ، والنمو الكامل لروح الطفل يخضع أيضاً لأسلوب التغذية التربوية الصحيحة والتنمية النفسية السليمة . يقول القرآن الكريم : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ).
بديهي أن الإنسان يجب أن يهتم بطعامه وينظر إليه بعين الدقة والبصيرة . والظاهر أن المراد من الطعام هنا هو المواد النباتية التي يتغذى منها الإنسان بقرينة الآيات اللاحقة التي تتحدث حول نزول المطر ، واخضرار الأعشاب ونمو الأشجار المثمرة . إن التفكّر في المواد الغذائية والدقائق الموجودة في عالم النبات والحيوان يدفع الإنسان إلى الإيمان بالله والمعاد ، كما أنها تعتبر من زاوية العلوم الطبيعية مجالاً واسعاً للبحوث العلمية والاستنتاجات المفيدة منها . لكن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) يفسّران الطعام في هذه الآية بالعلم :
1 ـ عن أبي جعفر في قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) قال : (علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه فلينظر الإنسان إلى طعامه) (1).
2 ـ عن أبي عبد الله في قوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) قلت : ما طعامه ؟ قال : (علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه) (2).
غذاء الروح :
بالإضافة إلى الحديثين السابقين نجد الأئمة (عليهم السلام) يعبِّرون في
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير البرهان ص 1173.
(2) نفس المصدر ص 1173.
موارد أخرى عن التعاليم الروحية بـ (الغذاء) أو (الطعام) ، ويعتبرون التعلّم بـ : غذاء الروح . وسيكون بحثنا معتمداً على هذين الحديثين لننطلق منهما إلى التعليم والتربية على أساس هذه التعبير ، أي باعتباره غذاء روحياً.
وعلى الرغم من أنه يمكن عقد المقارنة بين غذاء الروح والجسد من عدة جوانب والاستفادة من هذا التشبيه لأغراض مختلفة ، لكن بحثنا هذا سيدور حول نقطتين : (الأولى) نظافة الغذاء وسلامته (الثانية) كون الغذاء جامعاً ، وكاملاً . وقبل الخوض في الحديث لا بأس بتقديم مقدمة في أهمية الغذاء للجسد والروح ، ومجاري تغذية كل منهما.
يحتاج الإنسان كسائر الأحياء إلى الغذاء ، فبالغذاء يستطيع أن يستمر في حياته ، وإذا لم يتناول طعاماً فإنه يموت . إن جميع الشهوات والميول الإنسانية التي هي مصدر النشاطات المختلفة تستيقظ بعد تناول الطعام وتدفع الإنسان إلى الحركة والعمل والسعي . وفي العصور المظلمة كان بعض الناس يتوهمون أن الأنبياء لا يحتاجون إلى الطعام لمنزلتهم السامية ، ولذلك فقد جاء القرآن الكريم مفنداً هذه النظرة بصراحة : (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) (1).
خطر الجوع :
الجوع من أخطر حالات الإنسان وأدقها تأثيراً ، حتى كأن الجائع ينسى دينه وإيمانه ، ويغفل عن الحنان والعاطفة . ومن أجل أن يملأ بطنه ينقلب إلى حيوان مفترس.
لقد حدث في البصرة في القرن الثالث من الهجرة انقلاب عظيم . فقد قام (صاحب الزنج) في السنوات القليلة التي حكم فيها بأعمال إجرامية شديدة من إهراق الدماء البريئة وما شاكل ذلك حتى ذهب ضحية سيفه آلاف الرجال والنساء والأطفال . أما الذين قدر لهم أن ينجوا بأرواحهم من طغيانه فقد كانوا يقضون النهار مختفين ، ويخرجون ليلاً بقلوب مليئة بالرعب والخوف
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنبياء |8.
للحصول على بعض الطعام . وقد عطلت الأعمال وتركت المزارع واستولى على الناس قحط شديد ، فاضطر الناس إلى أكل لحوم الكلاب والقطط وحتى أجساد الأموات فيما بعد . وكان يؤدي بهم الجوع أحياناً إلى أن يقتلوا الأشخاص المشرفين على الموت وأكل لحومهم . والتاريخ يروي لنا قصه غريبة عن ذلك العصر ، فقد وجدت امرأة ماسكة رأساً مذبوحاً وهي تبكي ، فسألوها عن سبب بكائها . فأجابت أن الجياع كانوا مجتمعين حول أختها لتموت فيأكلوا لحمها ، وقبل أن تموت تماماً قطعوها وتقاسموا لحمها ، ولكنهم ظلموني فلم يشركوني في لحمها ، بل أعطوني رأسها فقط لأطعم منه . إن هذه المرأة كانت لفرط الجوع قد نسيت عواطفها فلم تفكر في قتل أختها ولم تتأثر لذلك ، بل كان بكاؤها لعدم إشراكها في لحمها (1).
وكذلك روح الإنسان ، فهي حية بالغذاء الروحي ، فالإنسان المحروم من التربية المعنوية والبعيد عن العلم لا يملك حياة إنسانية أبداً . فهو في صورة إنسان لكنَّه في الواقع أخطر وأوطأ من أي حيوان مفترس.
طريق تغذِّي الجسم :
إن جسم الإنسان يشبه قلعة محكمة الأسوار ، يحيط به الجلد كجدار يقوم حولها ، والعروق التي تعتبر بمثابة الطرق الرئيسية والفرعية في هذه القلعة لا ترتبط بالمحيط الخارجي . أما المواد التي يحتاجها ، فإنها تدخل فيه بواسطة طريقين رئيسيين ، هما : الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي . إن البدن يتصل بالبيئة الخارجية عن هذين الطريقين ، فهو يتلقّى بهما المواد الغذائية والعناصر الضرورية للحياة ويستمر في القيام بأعماله.
ومع أن الجسم يملك قوى دفاعية منظمة ، ويخضع الطريقان الآنفا الذكر لرقابة شديدة من جميع الجوانب ، فقد يصادف دخول المواد المضرة والخطرة من هذين الطريقين إلى الجسم ، فتؤدّي إلى اضطراب الصحة وإحداث الأضرار العظيمة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) تتمة المنتهى ص 380.
(تستمد المادة الغذائية التي يحملها الدم إلى الأنسجة من ثلاثة مصادر : من الهواء الخارجي عن طريق الرئتين ، ومن سطح الأمعاء ، وأخيراً من غدد الأندوكرين . وجميع المواد التي يستعملها الجسم ، فيما ـ عدا الأوكسجين ـ تأتي عن طريق الأمعاء ، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . ويكاد الجدار المعوي يحمي الجسم حماية تامة من غزو ذراّت تخص أنسجة كائنات أخرى ، وذلك بمقاومة تسرّب البروتينات الحيوانية أو النباتية إلى الدم . ومع ذلك فإنه قد يسمح أحياناً لمثل هذه البروتينات بالدخول) (1).
طرق تغذِّي الروح :
إن الجهاز الروحي للإنسان ـ بما فيه من الروح ، والنفس ، والمخ ، والعقل ـ ليس متصلاً مع المحيط الخارجي بصورة مباشرة . فهناك طريقان رئيسيان تربطان من الجهة المعنوية بين البيئة الخارجية والجهاز الروحي للإنسان ، هما : العين والأذن . فإن القسم الأكبر من الواردات الفكرية والتغذية المعنوية عند الإنسان يحصل من هذين الطرقين . وكما وجدنا إمكان مرور المواد المضرة من حدود الأمعاء وحويصلات الرئتين أحياناُ بالرغم من وجود القوى الدفاعية التي تراقب الواردات الغذائية والتنفسية ، يشتد هذا الخطر بالنسبة إلى الواردات الفكرية والتربوية عن طريق العين والأذن بلا رقابة ، أو تمييز بين الصحيح والفاسد منها ، حيث تنفذ هذه الواردات بواسطة هذين الطريقين إلى النفس وتصل إلى أعماق الفكر وتؤثر آثارها الصالحة أو الفاسدة.
* * *
سلامة الطعام ونظافته :
بعد هذه المقدمة الوجيزة ننتقل إلى صلب الموضوع فنقول : إن النقطة
ـــــــــــــــــــــ
(1) الإنسان ذلك المجهول ص 75 ـ 76.
الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي مسألة سلامة الطعام ونظافته . إن مما لا شك فيه أن بعض النباتات وكذلك لحوم بعض الحيوانات لا تلائم البناء الإنساني ، وإذا تغذّى شخص منها فإنها تسبّب مسموميته أو حدوث أمراض أخرى له . في العصور المتمادية كان الإنسان ـ لقلة الموارد الغذائية من جهة ، وجهله بالغذاء المفيد والمضر من جهة أخرى ـ يأكل كل حيوان يصطاده ، ويتغذّى على لحم الكلب ، والقطة ، والحوت ، والفيل ، وغيرها من الحيوانات والحشرات ، وحتى من لحوم الإنسان واللحوم العفنة والفاسدة . ومن جراء ذلك فقد لاقى ملايين الناس حتفهم لتسمم الطعام أو أنهم فقدوا الاعتدال والسلامة في مزاجهم على الأقل . واليوم أيضاً توجد طوائف وشعوب تقتفي أثر ذلك السلوك الخاطئ ويأكلون من لحوم الحيوانات المفترسة والسباع وحتى من لحوم البشر ـ إذا قدر لهم ذلك ـ ولا يزالون يصابون بنفس العوارض والآلام.
(أثبتت البحوث الجغرافية للتغذية أن الإنسان الذي يعيش في أحضان الطبيعة شأنه شأن الشعوب المتمدنة في العالم في عدم الالتزام بعقيدة معينة ، وهو يأكل أي موجود حي ، كالحية ، والحشرات ، والديدان ، واللحوم المتعفنة ، ولحم الكلب والفار وما شاكل ذلك ... هذا عندما لا يجدون لحم أبناء جنسهم) (1).
إن إحدى الخدمات المهمة التي أسداها الأنبياء لهداية البشر هي الاهتمام بالمواد الغذائية . إن أولئك القادة الروحانيين قد قسّموا الأطعمة منذ أمد بعيد إلى الخبيث والطيب ، واعتبروا بعض الحيوانات محلّلة الأكل وبعضها محرّمة الأكل ، وأجازوا لأتباعهم أن يتغذّوا مما يحل أكل لحمه ، ومنعوهم عن أكل ما لا يحل أكل لحمه منعاً باتاً.
الأطعمة المفيدة والمضرة :
لقد استطاع الإنسان في عصرنا هذا أن يعرف ـ بفضل التقدم
ـــــــــــــــــــــ
(1) جه ميدانيم ؟ تغذية انسان ص 11.
العلمي ـ الأطعمة المفيدة والمضرة ، إلى درجة ما . فالأمم المتمدنة تمتنع عن أكل اللحوم الفاسدة والحيوانات المريضة.
ولقد عرف العلماء المواد الغذائية والعناصر المعدنية وغير المعدنية الضرورية للإنسان وتوصّلوا إلى كمية المواد العضوية الموجودة في أنواع الخضراوات واللحوم والزيوت الحيوانية والنباتية ، ولقد استطاعوا تعيين الكميات اللازمة من كل نوع لفرد واحد في الأعمار والحالات المختلفة في قوائم الإعاشة والتموين ، فتوصّلوا مثلاً إلى بيان نوعية الغذاء اللازم لطفل في السنة الثانية ، أو صبي في العشرة ، أو عامل يبذل جهداً عضلياً ، أو أستاذاً يصرف جهداً فكرياً ، أو شيخ عجوز يقضي وقته كله في الراحة.
إن معرفة الأطعمة المفيدة والمضرة من جهة ، وازدياد إنتاج المواد الغذائية من جهة أخرى ، عاملان رئيسيان في إنهاء الاضطراب الناجم من سوء التغذية في دول العالم المتمدن . فشعوب هذه الدول ليسوا مضطرين إلى أن يأكلوا من لحوم السباع والحيوانات المفترسة والميتة واللحوم المتعفنة أو أن يملأوا بطونهم من الأطعمة المسمومة والحيوانات المريضة والملوثة.
وعلى الرغم من الخطوات الواسعة التي قطعها علماء الغرب في هذا المضمار ، فإنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة جميع الجوانب المفيدة والمضرة في الأطعمة ، فهناك جوانب كثيرة لم تصل إليها يد العلم.
(وبفضل التقدم العلمي في مجال صناعة الأدوية ومعرفة الأطعمة ، ظهرت فوائد وخصائص عديدة في المواد الغذائية ، وازدادت أهمية الغذاء يوماً بعد يوم . وفي القرن الأخير قامت بحوث عميقة في المواد الغذائية وحصل الباحثون على نتائج ومعلومات دقيقة وقيمة ، ولكنه يمكن القول بأنهم لم يتوصّلوا بعد إلى معرفة فوائد جزء من الألف جزء ، بل جزء من المئة ألف جزء منها) (1).
ـــــــــــــــــــــ
(1) إعجاز خوراكيها ص 15.
لقد حظر الإسلام بعض الأطعمة ومنع من استعمالها قبل أربعة عشر قرناً . واليوم نجد العالم المتحضّر في أوروبا وأمريكا لا يرى مانعاً من أكلها . إن الشعوب الغربية تتغذّى على دم البقر والغنم . أما في الإسلام فإن شرب الدم حرام . وكذلك يأكلون لحم الخنزير والأسماك المحرمة في الشريعة الإسلامية . والدول الأوروبية والأمريكية تتناول الخمر بكل حرية . أما في الشريعة الإسلامية ، فإن الخمرة محرمة .
إن ما لا شك فيه أن تداول هذه الأطعمة عندهم نتيجة قصور العلم في دنيا الغرب . ولو كان العلم الحديث متوصلاً إلى معرفة جميع جوانب الفائدة والضرر في الأطعمة لما كان يبيح تناول الدم أو شرب الخمرة أصلاً . وسوف لا تمضي مدة طويلة حتى يكشف العلم في تقدّمه ، الحقائق العلمية المتينة التي جاءت بها التعاليم الإسلامية فيعترف حينذاك بعظمة الإسلام.
أثر الطعام في روح الإنسان :
والطريف هنا أن أثر الطعام لا يقتصر على جسم الإنسان منتجاً آثاره الصالحة أو الفاسدة ، بل أنه يترك من الجهة المعنوية آثاره الحسنة أو السيئة على روح الإنسان ، وهذا الأمر متسالم عليه من قبل العلماء المعاصرين . وقد صرّح الإسلام بذلك في تعاليمه القيمة .
إن المختبرات العلمية في العصر الحديث قادرة على فحص المواد الغذائية من حيث العناصر الطبيعية المكوِّنة لها وخواصّها الكيمياوية إلى حد ما . أما الآثار المعنوية والأخلاقية للأطعمة فإنها إما أن تكون غير قابلة للفحص المختبري أبداً ، أو أن الوسائل الحديثة لم توفّق لهذا الموضوع لحد الآن على الأقل ، وعلى هذا فما أكثر الأطعمة التي تضر بسعادة الإنسان من الجانب المعنوي والنفسي ، والعلم قاصر عن إدراك تلك الحقائق في العصر الحاضر.
(إن تأثير المخلوطات الكيميائية التي يحتوى عليها الطعام على النشاط الفسيولوجي والعقلي لم يعرف معرفة تامة حتى الآن ... فالرأي الطبي فيما يتعلق بهذه المسألة ليست له غير
قيمة ضئيلة لأنه لم تجر تجارب ذات أمد كاف على البشر للتحقيق من تأثير طعام معين عليهم . وليس هناك شك في أن الشعور يتأثر بكمية الطعام وصفته)(1) ، (نحن نعرف كيف نغذّي أطفالنا كي يصبحوا رشيقي القامة وعلى جانب كبير من الجمال وتقل وفياتهم . وذلك بمعونة علم معرفة الغذاء الحديث . لكن هذا العلم لم يعلمنا كيف نوجد جهازاً عصبياً متيناً ، وفكراً معتدلاً وشجاعة ، وحسن خلق ، ومقدرة عقلية ، وكيف نحميهم من الانهيار النفسي)(2) .
يقول الإمام الرضا (عليه السلام) : (إن الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلاّ لما فيه من المنفعة والصلاح ولم يحرم إلاّ لما فيه الضرر والتلف والفساد)(3) . فتحريم الأشياء إذن أو إباحتها عن أساس المصالح والمفاسد لا أكثر.
شرب الدم والقساوة :
إن نظرة أئمة الإسلام إلى الأطعمة كانت تشمل جميع منافعها ومضارها الروحية والبدنية ، وقد صرحوا في بعض الموارد بالمفاسد الروحية والنفسية لها عند التعرض لذكر أضرارها البدنية . وها هو كلام الإمام الرضا عليه السلام في علة حرمة شرب الدم بعد ذكر الأضرار البدنية لذلك : (ويسيء الخلق ، ويورث القسوة للقلب ، وقلة الرأفة والرحمة ، ولا يؤمن أن يقتل ولد ووالده )(4).
الخمر والإجرام :
والإمام الباقر ( ع) حين يتطرق لعلة حرمة الخمر يقول : (إن مدمن
ــــــــــــ
(1) الإنسان ذلك المجهول ص 232.
(2) راه ورسم زندكى ـ المقدمة ـ ص (ب).
(3) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 3|71.
(4) بحار الأنوار للمجلسي ج 14|772.
الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروءته ، ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء ، وركوب الزنا )(1).
إن العوارض التي تصيب البدن من جراء شرب الدم يمكن قياسها . أما قساوة القلب ، فلا يمكن فحصها في المختبرات . وكذلك أثر الكحول على الأعصاب والابتلاء بالخرف فإنه غير مخفي على العلماء ، ولكن لا يمكن مشاهدة المروءة والقيم الأخلاقية في المختبر.
إن التغذية تلعب دوراً أساسياً في المسائل الاجتماعية في العصر الحديث . فالمؤسسات المختصة بهذا الموضوع ، والمجهّزة بالوسائل العلمية المختلفة ، تفحص جميع جوانب الغذاء بأن لا يكون فاسداً ، وأن يكون الباعة أو الطهارة سالمين ، وأن تكون المطاعم مطابقة للشروط الصحية من كل جانب . وبصورة موجزة فإنها تعمل جهدها مستعينة بالوسائل العلمية والقوى التنفيذية الصارمة لكي تقف أمام تلوث الغذاء وفساده . فقد يصادف تسمّم البعض من جزاء تناول ( الدوندرمة) وحينئذٍ تعمل جميع المؤسسات ، والناس يعترضون ، والجرائد تتحدّث حول الموضوع ، البائع يُوقف ويحقّق معه : لماذا صنعت الدوندرمة من حليب فاسد وسببت تسمم مئات الأفراد !!
وإذا لم تكن قيمة التغذية الروحية أعلى من قيمة التغذية المادية فهي ليست أقل منها . فمن الضروري أن يبذل الاهتمام للغذاء الروحي بنفس النسبة من الاهتمام بالغذاء المادي ، والذي يرغب في أن يكون سعيداً يجب عليه أن يلتفت إلى سلامة غذائه الروحي كالتفاته إلى سلامة غذائه المادي . إن خطر التسمّم الروحي أشد بكثير من خطر تسمّم الجسم ، فإذا تسمّم ألف شخص في مدينة من جراء تناول طعام فاسد ولم تنجح علاجات الأطباء معهم وماتوا جميعاً فقد مات من تلك المدينة ألف شخص فقط . أما إذا أصيب ألف فرد في تلك المدينة بالتسمم الفكري والروحي فمن المحتمل أن يتسبّب هؤلاء
ــــــــــــ
(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 14|771.
في تسمم أهل المدينة كلهم ، وقد يؤدّي وجود ألف فرد منحرف في دولة إلى انهيار تلك الدولة بأجمعها.
من السهل إعادة الصحة والسلامة لمن أصيب بالتسمم الناشىء من تناول طعام فاسد بالعناية الصحية الدقيقة . أما الفكر المسموم والمشبّع بالأفكار الخاطئة والمنحرفة فإعادة السلامة إليه من الأمور الصعبة جداً . إن خطر إناء من الدوندرمة الفاسدة في محل أقل بكثير من خطر فيلم مسموم وهدّام . وحين يقدم أبو الأسرة على شراء طعام لأطفاله يحاول التأكد من سلامة ذلك الطعام ، أما حين يقدم على شراء كتاب أو مجلة ليضعها في متناول أيدي أطفاله ، فهو لا ينتبه إلى أن هذه المجلة إنما هي غذاء أرواحهم ، فإنْ كان فاسداً أصيبت الأسرة بأجمعها بذلك التسمّم الفكري.
عن أمير المؤمنين ( ع) قال : (ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلاً تكلّفوا إنارة المصابيح ليبصروا ما يدخلون بطونهم ، ولا يهتمون بغذاء النفس بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم ، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب في اعتقادهم وأعمالهم )(1).
قال الحسن بن علي ( ع) : (عجبت لمَن يتفكّر في مأكوله ، كيف لا يتفكّر في معقوله ، فيجنّب بطنه ما يؤذيه ، ويردع صدره ما يرديه)(2).
إن الذي يهتم بصحته لا يتناول طعاماً من يد شخص مصاب بالسل أو الجدري لأنه لا يطمئن إلى سلامة الطعام ونظافته . هناك أفراد مصابون بالأمراض الروحية والخلقية ولذلك فإن أقوالهم وكتاباتهم التي تعبر بمثابة غذاء روحي للناس ليست مأمونة ، وذلك لأن من الممكن أن يلوث فساد الفكر ألسنتهم وأقلامهم أيضاً ويؤدي ذلك إلى انتشار الانحراف والفساد في المجتمع . إلى هذا يشير الإمام الباقر والإمام الصادق ( ع) في تفسير الآية موضوع البحث : ( (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) ، قال : (علمه الذي يأخذه عمن يأخذه) ) فعلى الإنسان أن ينتبه إلى علمه الذي هو غذاء روحه عمن يأخذه . فإنْ كان المعلم منحرفاً وفاسداً فلا يمكن الاطمئنان إلى سلامة أقواله وتعاليمه .
ــــــــــــ
(1) سفينة البحار للقمي ص 84 ـ مادة طعم .
(2) نفس المصدر ، والصفحة .
أهمية التغذية في الطفل :
على الرغم من أن الاهتمام بسلامة الغذاء ـ بنوعيه ـ ضروري في جميع مراحل الحياة ويجب أن يخضع لرقابة شديدة دائماً ، لكن ما لا شك فيه أن سلامة التغذية الروحية والمادية بالنسبة إلى الطفل أهم منها بالنسبة إلى الشاب أو الشيخ ، لأن مرحلة الطفولة هي المتعهّدة ببناء كيان الطفل روحياً وجسدياً ، وإن خطأً واحداً يمكن أن تؤدي إلى انحراف الطفل عن طريق السعادة وبقاء آثارها السيئة طوال أيام حياته ؛ ذلك أن اللبنة الأولى في بناء البيت إذا وضعت بصورة منحرفة استمر البناء في انحرافه مهما علا في السماء.
(إن كثيراً من الأفراد بالرغم من أنهم يملكون أسساً وراثية جيدة يعجزون عن إدارة حياتهم يسبب العيوب المكتسبة التي لا يقل تأثيرها من العيوب الموروثة).
(يحتمل أن يكون 25% من حالات البلاهة نتيجة الاختلالات الحادثة على نمو المخ طوال الحياة الجنينية أو عند الولادة ، أو في المرحلة الأولى من حياة الطفل . إن اتزان الجهاز العصبي وسلامة التفكير يرتبطان إلى حد بعيد بتركيب المواد الغذائية في مراحل تكون المخ والنتوءات العصبية . من البديهي أن الجهاز العصبي والبنيان العام وشعور الأطفال الذين تغذّوا من القهوة والخبز الأبيض والسكريات ، والكحول أحياناً ... يكون مصاباً وغير سليم )(1) . (لقد علّمنا علم التغذية الحديث : أن التغذية الفاسدة يمكن أن تؤثر في الطفل ، فتوجد فيه نقائص بدنية وروحية غير قابلة للعلاج)(2).
يمتاز المتقدّمون في السن عن الأطفال في أنهم بفضل وجود العقل
ــــــــــــ
(1) راه ورسم زندكى ص 158.
(2) المصدر السابق ص 74.
يملكون قوة دفاعية ، فمن الممكن أن يقيسوا الأشياء التي يسمعونها أو يقرءونها في الكتب بعقولهم ، فإن لم تكن صحيحة رفضوها . وبعبارة أخرى : يستطيعون طرد الغذاء العقلي الفاسد من المخ ويمتنعون عن هضمه . أما الطفل فلضعف إدراكه لا يملك قوة دفاعية تجاه المستوردات الفكرية الفاسدة ، فهو يتقبّل كل كلام فارغ ، وكل عقيدة باطلة ، وكل أسطورة مسمومة ، وكل قول هدام . ويثبت ذلك في تفكيره وتستمر آثاره الفاسدة إلى مدى الحياة.
الانحرافات الخلقية عند الطفل :
كثيراً ما تتأثر نفوس الأطفال بالإيحاءات الجاهلة التي تصدر من الأبوين تجاه الطفل فينشئون ضعفاء جبناء ، أو كذّابين خونة . إن للاعتقاد بنجوسة العدد (13) والتشاؤم من صوت البوم وما شاكل ذلك أصولاً ثابتة في أفكار بعض الناس ، وقد تظهر أحياناً بصورة عقدة نفسية تجعل الحياة جحيماً لا يطاق . أكثر هذه الأفكار الخاطئة يرجع إلى أيام الطفولة ومنشؤها التربية الفاسدة والتغذية الروحية المنحرفة.
يقول المسيح (ع) في هذا الصدد : (بحق أقول لكم : إنه كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذه مع ما يجده من شدة الواجع ، كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبارة ، ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب المال)(1).
فالأطفال الناشئون على الأساليب التربوية الفاسدة لا يلتذون بحلاوة الفضلية التي هي الطعام اللذيذ لروح الإنسان ، ذلك أن أرواحهم مريضة والمريض لا يلتذ بالطعام اللذيذ.
***
إلى هنا نكون قد انتهينا من النقطة الأولى في الموضوع ، وهي البحث عن سلامة الغذاء ونظافته بكلا نوعيه . والآن لننتقل إلى النقطة الثانية في البحث ، وهي : الغذاء الكامل .
____________
(1) تحف العقول ص 507.
الغذاء الكامل :
الغذاء يجب أن يكون جامعاً وكاملاً ، فالبحوث العلمية الحديثة لفتت أنظار الناس إلى هذه النقطة وهي أن البدن يحتاج لاستمرار حياته إلى المواد الغذائية المتنوعة . فلا يكفي نوع واحد أو نوعان لحفظ حياة الإنسان وسلامته . فاللحم وحده أو المواد الدهنية وحدها ، أو المواد السكرية فقط لا تشكل غذاء كاملاً . إن نقصان المواد الغذائية يؤدي إلى عوارض ومختلفة كان يجهلها الإنسان فيما مضى ، فإن جانباً كبيراً من الأمراض والوفيات التي كانت تحدث في الماضي كان سببه نقصان المواد الغذائية الضرورية .
لقد ألف العلماء في موضوع الغذاء وتركيباته المختلفة كتباً عديدة وجرت بحوث دقيقة حوله في نقاط مختلفة من العالم . وهنا لا بأس من اقتباس بعض العبارات من تلك الكتب لزيادة الاطلاع .
(هناك ترابط وثيق بين النشاط الخلقي والفكري والغدي فان المواد التي تفرزها الغدد الواقعة فوق الكلية والتي تصنع (الهيبوفيزوثايروكسيد) هي التي أعدت دماغ باستور للاكتشافات التي تعتبر فاتحة للعصر الحديث في تاريخ البشرية . إن الذكاء وصلابة الإيمان التي تجعل الإنسان يتحمل المشاق العظيمة التي تعترض طريقه ، وفي نفس الوقت ناتجة من الغدد الداخلية ، وعدد الخلايا المخية . إن أبسط تغيير في مقدار الحديد والكالسيوم والفلزات من الدم يؤدي إلى فقدان الاتزان العضوي والنفسي عند الإنسان)(1).
(إن الاختلالات التي توجد طوال مرحلة الطفولة أو الشباب في بناء الغدد الداخلية والجهاز العصبي ، تنعكس على الشعور دائماً . فانعدام اليود في المناطق المسكونة من مرتفعات الألب وهمالايا يوقف نمو غدة الثايروكسيد ويصاب الأطفال بالبلادة
____________
(1) راه ورسم زندكى ص 167.
الثايروكسيدية )(1).
(يلاحظ انتشار انحناء العظام عند أطفال الفقراء خصوصاً في المدن الكبيرة ، ويظهر ذلك بتكلس عظام البدن وعدم انتظام ونزاكة الأسنان . وهذا المرض إنما هو نتيجة عدم كفاية الفيتامين D وعدم التوازن بين الكالسيوم والفسفور في البدن ) (2)
(إن خروج العينين من الحدقة مرض يمكن أن يؤدي إلى العمى ، وسبب ذلك نقصان الفيتامين A في الطعام (المادة الصفراء التي توجد في الجزر والخضروات تتحوّل في البدن إلى فيتامين A)ض (3).
(أحياناً يكون فقر الدم مرتبطاً بالغذاء ، إن عدم كفاية الحديد في الكريات يؤدي إلى نقصان المادة الملونة التنفسية في الدم أي الهيموغلوبين )(4).
(وربما كان بطء نمو الأطفال والمراهقين وانحراف مزاج البالغين ناشئاً من قلة الحوامض العضوية في البدن )(5).
التغذية السليمة :
تشكل الروايات المتعلقة بالأطعمة والأشربة وإرشاد الناس إلى التغذية السليمة ، جانباً واسعاً من التعاليم الإسلامية العظيمة ، فهناك نصوص كثيرة حول اللحوم المفيدة والمضرة والتوازن في استعمالها ، وكذلك الدهنيات والسكريات والفواكه والحبوب والخضروات.
إن الحقائق التي توصل إليها علماء البشر عن طريق التجارب العلمية في هذا المضمار ، سبقهم إلى كشفها أئمة الإسلام عن طريق الوحي والإلهام ولقد
____________
(1) راه ورسم زندكى ص 158.
(2) جه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان 24.
(3) نفس المصدر ، والصفحة.
(4) المصدر نفسه ص 25.
(5) نفس المصدر ، والصفحة.
طبقوها على أنفسهم وأرشدوا أتباعهم إلى العمل بها أيضاً وهنا نشير إلى زاويتين منها فقط على سبيل المثال .
أ ـ النخالة : (تشكّل نخالة الغلاّت كالقمح والشعير والرز وما شاكل ذلك مصدراً مهماً من مصادر الفيتامين ب) (1) .
(يظهر مرض الكساح مصحوباً بالاختلالات العصبية والمعدية والقلبية ، ويمكن أن يؤدي إلى الموت . لقد أثبت العالمان (إيكمان) و(كريتس) أن هذا المرض يحدث من فقدان نوع من الفيتامين BI في الطعام . إن حبة الرز الكاملة (مع القشرة) واجدة للفيتامين B1 . لكن الحبة المهبوشة لا تحتوي على هذا الفيتامين )(2).
والآن لننتقل إلى سيرة أئمتنا (عليهم السلام) في الأطعمة ، وبالنسبة إلى النخالة بالخصوص :
يقول سويد بن غفلة : دخلت على الإمام أمير المؤمنين (ع) يوماً وقد حان وقت تناول الغذاء فرأيته جالساً على جانب مائدة ، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه ، فذهبت إلى خادمته وقلت لها : يا فضة ، ألا تتقين الله في هذا الشيخ ؟! ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة ؟ فقالت : قد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاماً ... فرجع سويد إلى الإمام ثانية وذكر قصته مع فضة ، فتبين أن الإمام (عليه السلام) قد تعلم هذا الأسلوب من النبي الأكرم (ص) ... ثم تذكر عظمة النبي قائلاً : (بأبي وأمي من لم ينخل له طعام )(3).
____________
(1) إعجاز خوراكيها ص 95.
(2) جه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ص 23.
(3) بحار الأنوار للمجلسي ج 9|501.
وها هو الإمام الصادق (ع) يتحدث عن طعام سليمان فيقول : (ويأكل هو الشعير غير منخول)(1).
ب ـ الخضروات :
(كان البحارة والمكتشفون والجنود المرابطون في الأماكن القاحلة يصابون ـ لعدم وجود الفيتامين C في طعامهم ـ بمرض خطير يمسى بـ (رقة الدم) . إن حالة المصاب مؤلمة جداً ، فالدم يجري من لثته ، وأسنانه تسقط ، يجري الدم من مؤخره ، تلتهب رئتاه ، تتفكك عظامه ويصاب بالإغماء الشديد والإعياء المذهل ، ويموت بعد شهرين أو ثلاثة من معاناة الآلام الشديدة . إن الخضروات الطرية تعالج هذا المرض أو تمنع ظهوره . إن كيفية هذه المسألة قد اتضحت بفضل الاكتشافات الجديدة نسبياً في موضوع الفيتامينات)(2).
وإذا ما تصفحنا سيرة أئمتنا عليهم السلام بهذا الصدد ، نجد التأكيد الشديد على استعمال الخضروات مع الطعام . (عن أحمد بن هارون ، قال : دخلت على الرضا (ع) فدعا بالمائدة ، فلم يكن عليها بقل ، فأمسك يده ثم قال : يا غلام أما علمت أني لا آكل على مائدة ليس عليها خضراء ؟ فأت بها ، قال : فذهب وأتى بالبقل ، فمد يده فأكل وأكلت معه)(3).
فهنا نجد الإمام الرضا (ع) يمتنع عن أن يمد يده إلى مائدة ليس فيها شيء من الخضروات حتى تخضر له.
(إن جميع الأمراض ترتبط بسوء التغذية إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وإن علاج جميع الأمراض متوفر في المواد الغذائية . إن الغذاء الجيد لا يقتصر أثره على إشباع الإنسان
ـــــــــــــ
(1) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 3|103.
(2) جه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ص 22.
(3) مكارم الأخلاق للطبرسي ص 90.
ووقايته من أشد الأمراض فقط ، بل يمنحه عمراً طويلاً ، ويجعله وسيماً ورشيقاً ، وينشط دماغه ويقوي مواهبه)(1).
العلاج بالغذاء :
تعالج بعض الأمراض في العصر الحديث بواسطة الغذاء ، وبذلك تعود للأفراد قوتهم وصحتهم ، وعن طريق الغذاء الكامل المناسب نجد أنهم يحولون الوجوه الشاحبة إلى وجوه نضرة ، والعيون الغائرة إلى براقة ، ولد راعى الإسلام في العصور الماضية هذه النكتة تماماً . فمن بين الروايات العديدة التي وردت في موضوع الأطعمة على اختلاف أنواعها نجد الرسول الأعظم والأئمة الكرام (ع) قد عالجوا المرضى والعجزة بالإرشادات الغذائية ، وتجاوزوا ذلك إلى إرشادات حول تقوية الذكاء والحافظة عن طريق بعض الأطعمة .
إن العسل من الأطعمة اللذيذة ، ولقد تحدث القرآن عنه : (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)(2) . إن العالم الحديث يمتنع ـ قدر المستطاع ـ عن استعمال الدواء ؛ ذلك أن الدواء في نفس الوقت الذي يقع مفيداً من جهة يكون مضراً من جهة أخرى .
يقول الإمام الرضا (ع) بهذا الصدد : (ليس من دواء إلاّ ويهيّج داء)(3) . فأحسن طرق العلاج وآمنها ، هو الاستفادة من المواد الغذائية المختلفة التي أودعها الخالق العظيم بين أحضان الطبيعة لفائدة البشر.
(الكل يعلمون أن العامل الوحيد في انتشار الأمراض التي تنتقل بالعدوى موجودات صغيرة جداً تسمى بـ (الميكروبات) . وبعد أن اكتشف باستور وجود هذه الميكروبات ، تصور الناس جميعاً أنهم يستطيعون اقتلاع جذور الأمراض بمقاومة انتشار الميكروبات ، ولذلك فقد انتشر في أنحاء أوروبا طريقة شرب الماء المغلي والأطعمة المطبوخة تماماً).
ـــــــــــــ
(1) إعجاز خوراكيها لغياث الدين الجزائري ص 14.
(2) سورة النحل |69.
(3) روضة الكافي ص 273.
(كان الجميع يتوقّعون هبوط نسبة الوفيات والإصابات بالأمراض يوماً بعد يوم ، ولكن المؤسف أنه لم يتوقّف فشل هذا التوقع عند عدم إنتاج هذه الطريقة في تقليل الإصابات ، بل إن أكثر من نصف سكان أوروبا ـ والأشخاص الواعون منهم بالخصوص ، الذين كانوا مراقبين أكثر من غيرهم وكانوا يخافون من الميكروبات ويطيعون أوامر الأطباء بصورة عمياء ـ قد أصيبوا بأمراض عديدة . وبديهي أن أمراض هؤلاء لم تكن من نوع الأمراض المعدية التي تنتقل بالجراثيم ، بل كانت نتيجة الفرار من الأطعمة النيئة ، وغلي الأطعمة التي تموت فيتاميناتها بالغليان)(1).
تعادل المواد الغذائية :
يستنتج مما مر : أن سلامة الإنسان منوط بالتغذية الصحيحة والكاملة . إن الطعام يجب أن يكون حاوياً لجميع المواد اللازمة التي تحتاجها الأقسام المختلفة من الجسم . إن الاستفادة السليمة من النعم الإلهية والانتفاع الجامع والمعتدل من الأطعمة المطبوخة والنية ، من اللحوم المحللة والمواد الدهنية والسكرية والفواكه والخضروات كفيل بجعل الإنسان قوياً وسليماً طيلة عمره.
وكذلك سلامة الروح وسعادتها . فهي منوطة بالتغذية الروحية الكاملة والسليمة . فالذين يريدون أن يحصلوا على روح سليمة ونفس طاهرة وقوية يجب عليهم الاهتمام بجميع ميولهم الروحية وعواطفهم المعنوية وإشباعها عن طريق التغذية الكاملة.
إنه يجب البحث عن الغذاء الروحي الكامل في مجموعة الإيمان والعلم والفكر والأخلاق والعواطف الإنسانية وغير ذلك من المزايا الروحية.
إن من الأطعمة الضرورية والمفيدة للبدن ، اللحوم على اختلاف أنواعها (من لحوم الطيور والأنعام والأسماك) . وتبعاً للتعاليم الدينية والعلمية يجب
ـــــــــــــ
(1) إعجاز خوراكيها ص 25.
على الإنسان أن يستفيد لحفظ حياته وسلامته من هذه المادة الحياتية المهمة ، ولكننا على يقيم من أن الحم وحده لا يكون غذاء كاملاً ، ولا يستطيع أن يحفظ للإنسان حياته وصحته إلى الأبد.
والفروع العليمة المختلفة من طبيعية ورياضية وأدبية تشبه أنواع اللحوم الضرورية ، ولكن لا تشكل هذه العلوم وحدها غذاء روحياً كاملاً للإنسان ولا تستطيع أن تحفظ للروح الإنسانية حياتها وسلامتها إلى الأبد.
وما أكثر البحارة الذين كانوا يملكون في بواخرهم المقادير الكافية من اللحوم والمواد الدهنية والسكرية ، ولكن حيث إنهم كانوا فاقدين للخضروات ، فقد خلت أطعمتهم من الفيتامين C ، فأصيبوا بنزف اللثة والمخرج والتهاب الرئة ، وماتوا أخيراً بأفظع صورة وأشد الآلام ، وكذلك ما أكثر الأشخاص المطلعين على المقدار الكافي من مسائل العلوم الطبيعية والرياضية ، ولكنهم عند هجوم المصائب عليهم ، أصيبوا بالأمراض النفسية أو الروحية أو أقدموا على الانتحار لعدم وجود الرصيد الإيماني والأخلاقي عندهم.
إن إصابة أولئك وموتهم كان لنقص المواد الغذائية البدنية ، وإصابة هؤلاء وانتحارهم لنقص المواد الغذائية الروحية ، ونتيجة كل منهما الشقاء والموت . فكما أن غذاء الجسد يتشكل من مجموعة من العناصر المختلفة : الدسم ، السكر ، الفسفور ، الكالسيوم ، الحديد ، اليود ، الفيتامين ، ونظائرها . وإن فقدان أي عنصر منها يؤدي إلى عوارض خاصة كذلك غذاء الروح يتشكل من مجموعة من الثروات المختلفة : العلم ، الإيمان ، العفة ، الأمانة ، الشجاعة ، التقوى ، وأمثالها . وإن فقدان أي واحد منها يتضمن عواقب وخيمة.
(وبصورة كلية فإن نظام التغذية الفاسدة عبارة عن فقدان بعض العناصر وعدم تعادلها ، من دون أن تظهر علائم بعضها في مقابل البعض الآخر . فحينذاك يصبح الجسم ضعيفاً ومستعداً لتقبل الأمراض المختلفة . وكما تقول (مدام راندوان) فأنه يمكن الوصول إلى الأسباب الرئيسية لبعض
الأمراض القاضية كالسل والسكر والسرطان في سلسلة من الأخطاء التي ترتكب بالنسبة إلى كيفية صنع الأطعمة طيلة أجيال عديدة . أن الجسم يستطيع أن يعيش مع وجود التغذية الناقصة وغير المتعادلة لفترة ما ، ولكن سرعان ما تظهر الاختلالات وحينذاك فالألم يكون شديداً جداً . وقد يؤدي ذلك إلى انهيار الصحة تماماً . إذا ظهر مرض سار فإنا نقاوم الجراثيم الناقلة لذلك المرض ونكافحها ، ولكننا لكشف العلة الأصلية في نشوء ألم ما نحتاج إلى دقة شديدة . وعلى أي حال ، فإن تشخيص المرض أصعب من إزالته بكثير)(1).
الروح الضعيفة :
لقد وجدنا أن الجسم يستطيع أن يعيش مع التغذية الناقصة ، وينمو قليلاً . ولكن عندما يصاب بمرض سار فلا يستطيع مكافحته إذ يواجه اختلالات عديدة ، فالآلام الشديدة تقض عليه مضجعه وقد تؤدي به إلى الموت.
وكذلك الروح فإنها تستطيع أن تستمر على الحياة مع التغذية الروحية الناقصة ، ويكون الفرد حينذاك فرداً اعتيادياً في المجتمع ظاهراً ، ولكن في المواقف الحرجة ، وأمام الحوادث المؤلمة ، لا يملك قدرة المقاومة وأخيراً يفشل في المعركة وينسحب بعد أن فقد شخصيته.
قد نجد شاباً مؤدباً ، وقراً ، يبدو اعتيادياً جداً ، ولا يشاهد منه أي انحراف ، يقضي الأيام في الذهاب إلى الثانوية ، وحين يحين موعد الامتحان يستعد لذلك ، ويجيب على الأسئلة ، ولكنه يرسب في ثلاثة دروس فيتألم لهذه الحادثة كثيراً ، ولا ينام ليله ، تسوء أخلاقه ويتشاءم من النظر إلى أي إنسان في الحياة ، وبدلاً من أن يتصرف بتعقل ويصمم على أن يجتهد أكثر ويعد
ـــــــــــــ
(1) جه ميدانيم ؟ تغذية إنسان ص 25.
نفسه لامتحانات السنة القادمة ، يختلي بنفسه وينهي حياته بتناول شيء من السم .
هذا الشاب لا بد وأن تكون تغذيته الروحية ناقصة ، فلم يعلم في طفولته على التحمل والصلابة والصبر ، فسقوطه أحدث اختلالات كبيرة في فكره وقضى عليه أخيراً.
وكما يعجز الجسم الذي نشأ على التغذية الناقصة من مكافحة الأمراض السارية ، تعجز الروح التي تربّت على التغذية الروحية الناقصة عن مجابهة الحوادث المؤلمة في الحياة.
إن مَن يصل إلى منزلة اجتماعية لائقة ولا يقدر على أن يتمالك على نفسه من الظلم والتعدّي ، ومَن يخسر شخصيته في مقابل الرشوة ويحكم على خلاف الحق والإنصاف ، ومن يسحق جميع مظاهر الشرف والأخلاق في سبيل إرضاء ميوله الجنسية ، ومَن يؤدّي به الغنى والثروة إلى التكبر والأنانية . وبصورة موجزة : من ينحرف عن طريق الفضيلة والأخلاق في مقابل عامل روحي واحد ؛ فذلك لأن روحه قد نشأت على التغذية الناقصة ولم تتغذ من جميع المواد الغذائية الروحية بصورة كاملة وسليمة.
قابلية المقاومة :
قابلية مقاومة الجسم تظهر في هجوم الأمراض السارية ، وقابلية مقاومة الروح تظهر في الحوادث والمصائب التي تلاقي البشر في مختلف مراحل حياتهم . يقول الإمام علي (ع) : (في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال) (1) .
وعلى سبيل الشاهد ، ننقل القصة التالية :
(... بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع ، فرأى جيوش المسلمين من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قد ملئوا السهل والجبل . فالتفت إلى مقدم العسكر وهو رجل يعرف بابن المضجعي ، فقال له : كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير ؟ قال :
____________
(1) نهج البلاغة ص 562.
أرى جمعاً كثيراً وجيشاً واسعاً كبيراً ، فقال له المنصور : ترى هل يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والنجدة والبسالة ؟ فسكت إبن المضجعي . فقال له المنصور : ما سكوتك أليس في هذا الجيش ألف مقاتل ؟ قال : لا ، فتعجّب المنصور . ثم قال : فهل فيهم خمسمئة مقاتل من الأبطال المعدودين ؟ قال : لا . فحنق المنصور ثم قال : أفيهم مئة رجل من الأبطال ؟ قال : لا ، قال : أفيهم خمسون رجلاً من الأبطال ؟ قال : لا ، فسبّه المنصور وأغلظ عليه وأمر به ، فأُخرج على أسوأ حال . فلما توسّطوا بلاد الروم اجتمعت الروم وتصادف الجمعان . فبرز علج من الروم بين الصفين شاكي السلاح وجعل يكر ويفر ويقول : هل من مبارز ؟! فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة ، فقتله العلج . ففرح المشركون وصالحوا واضطراب المسلمون لها . ثم جعل العلج يموج بين الصفين وينادي : هل من مبارز ؟! اثنين لواحد . فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج ، وجعل يكر ويحمل وينادي ويقول : هل من مبارز ؟! ثلاثة لواحد !! فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج ، فصاح المشركون وذل المسلمون وكادت أن تكون كسرة ، فقيل للمنصور : ما لها إلاّ ابن المضجعي . فبعث إليه فحضر فقال له المنصور : ألا ترى ما صنع هذا العلج الكلب منذ هذا اليوم ، فقال : لقد رأيته فما الذي تريد ؟ قال : أن تكفي المسلمين شره . قال : الآن يكفي المسلمون شره إن شاء الله تعالى . ثم قصد إلى رجال يعرفهم . فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد تهرّت أوراكها هزالاً وهو حامل قربة ماء بين يديه على الفرس والرجل في حليته ونفسه غير متصنع ، فقال له ابن المضجعي : ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم . قال : قد رأيته فما الذي تريد ؟ أن تكفي المسلمين شره ؟ قال : حباً وكرامة . ثم إنه وضع القربة بالأرض وبرز إليه غير مكترث به فتجاولا ساعة فلم يرى الناس إلاّ المسلم خارجاً إليهم يركض ولا يدرون ما هناك ، وإذا برأس العلج يلعب بها في يده . ثم ألقى الرأس بين يدي المنصور فقال له ابن المضجعي : عن هؤلاء الرجال أخبرتك ، ثم رد إلى ابن المضجعي منزلته وأكرمة ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر الموحدين) (1) .
____________
(1) المستطرف من كل فن مستظرف للإبشيهي ج 1|218.
والخلاصة : إن كلا من الروح والجسد يحتاج في تأمين سعادته ووصوله إلى كماله اللائق به إلى الغذاء الكامل والجامع . وإن فقدان أي عنصر من الغذاء يهيِّىء تربة مساعدة للانحراف أو الضعف في الروح والجسد.
النمو السريع للطفل :
وبالرغم من ضرورة المراقبة الغذائية اللازمة في جميع مراحل الحياة ، لكن مرحلة الطفولة تحتاج إلى مراقبة أشد ، ذلك أن الطفل ينمو في الأعوام الأولى من حياته بصورة أسرع ، ويتكامل بناؤه الفكري أكثر سرعة.
(إن الجزء الوحيد من البدن الذي يستثنى من قانون التكاثر بالانشطار هو الجهاز العصبي أي المخ وشبكة الأعصاب ، ذلك أن الوليد يأتي إلى الحياة مع الخلايا العصبية الكاملة ، ولا يصنع الجهاز طيلة أيام حياته حتى خلية مخية أو عصبية واحدة . ولذلك فإن انعدام هذه الخلايا نتيجة لصدمة أو مرض لا يمكن أن يجبر . ومع هذا كله فإن المخ ينمو على الرغم من ثبات عدد خلاياه وهذا النمو يحصل في الأعوام الثلاثة الأولى بسرعة عجيبة بحيث يمكن إرجاع 95% من نمو الدماغ عند الإنسان إلى تلك الأعوام الثلاثة) (1) .
مسئولية الوالدين :
إن عبء مسئولية الوالدين في هذه المراحل ثقيل جداً . فان الغفلة عن سلامة الغذاء المادي والروحي للطفل وكمالها تؤدي إلى عوارض غير قابلة للتدارك . فالطفل يكتمل بناؤه في الأعوام الأولى من حياته ، ولا بد من الاعتناء بجميع جوانبه المادية والمعنوية . إن نقص التغذية الروحية أو الجسدية في هده الأيام تتضمن نتائج وخيمة ، إن خطأة صغيرة يمكن أن تؤدي إلى مشكلة عظيمة يستمر أنين الطفل منها إلى نهاية عمره.
قال رسول الله (ص) : (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .
____________
(1) هورمونها ص 11.
فالأمير على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع عن أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهى مسئولة عنهم . ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (1) .
فعلى الوالدين المسلمين أن يتنبها إلى المسئولية الدينية العظيمة عليهما في تربية أطفالها . وليعلما أن الأطفال ودائع الله في أيديهما فالوالدان اللذان يؤديان واجبهما الديني في تربية الأولاد بصورة صحيحة يكونان قد أديا الأمانة أداء كاملاً ، ويستحقان الأجر والثواب عند الله على ذلك . أما الوالدان اللذان يتخلّفان عن ذلك فهما خائنان لأنفسهما ولأطفالهما ، وللمجتمع الذي يعيشون فيه ، وهما يستحقان العقاب والحساب العسير أمام الله تعالى.
ليست المسئولية العظمى للآباء في أن يجمعوا في حياتهم ثروة ضخمة ويورثوها إلى أولادهم . ذلك أن الولد إذا لم يحصل على تربية صحيحة فان الثروة تبعثه على الفساد والشقاء . إن مسئولية الوالد تعني أن يربي ابنه على الملكات الفاضلة والقيم العليا والإيمان الصحيح وإعداده لخوض معركة الحياة بطهارة ونبل . وولد كهذا يستطيع أن يحيا حياة عزيزة وسعيدة وفي نفس الوقت يستطيع أن يكتسب ثروة كبيرة عن عن طريق مشروع . يقول الإمام علي (ع) : (خير ما ورث الآباء الأبناء الأدب) (2).
ونعمة كبيرة يمتاز بها الأولاد الذين تحدّروا عن آباء مؤمنين قاموا بتربيتهم تربية صحيحة ومن نتائج تلك التربية أنهم يعيشون حياة مطمئنة محبوبون لدى الجميع . إنهم يجب أن يشكروا الله تعالى على تلك النعمة ويترحموا على والديهم ، ويحافظوا على الملكات الفاضلة التي تربوا عليها ، فلا يفقدوها بمعاشرة الفساد ومجالسة الأشرار.
أما الأولاد الذين لم يتلقوا تربية صحيحة من آبائهم ، فان عليهم أن يبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، ليكونوا واثقين من أنهم قادرون على تدارك تقصير والديهم بحقهم إذا تمسكوا بالأساليب العليمة والدينية الصحيحة ، وبذلك يستطيعون أن يسلكوا الطريق إلى السعادة والطهارة والعفة.
____________
(1) مجموعة ورام ج 1|6.
(2) غرر الحكم ودرر الكلم ص 173 طبعة دار الثقافة.