بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته


إنّ معظم الناس في مقابل الدّعوات الإلهيّة كانوا على حالات من التكذيب والعناد والتبرير والمغالطة والرفض، فكان لابدّ من الصبر والحلم والجدال بالّتي هي أحسن، حتى تهتدي العقول، وتستجيب النفوس والقلوب، فيتقبّلوا أحكام الله وشرائعه، وما انزل إليه من الاعتقادات الحقة، وحتى يتخلّصوا من مخلّفات جاهليّاتهم الفكريّة والأخلاقيّة.
ومن هنا وجدنا أنبياء الله وخلفاءه سلام الله عليهم حلماء صابرين، عانوا ما عانوه من أقوامهم وأممهم، فتحمّلوا ذلك طاعة لله تبارك وتعالى حتى أدّوا ما أمر الله تعالى بتبليغه فكانوا عنده (جلّ وعلا) مرضيّين، وقد قال عزّ من قائل: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا» (الأنعام، ۳٤).
«وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ»
(السجدة، ۲٤).
«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (فصّلت، ۳٤-۳٥).
فكان خلفاء الله هم الذين صبروا ذلك الصبر الكريم، وكانوا هم الذين أصبحوا ذوي حظّ عظيم.
فالصبر ركن أساسي في خصوصيات خلفاء الله الصادقين، الصبر مختلف مصاديقه على أشكال ما يلاقونه وهم يهدون بأمر الله عباده الى الصراط المستقيم.
وهذا الصبر يشكل الى جانب اليقين العقائدي شرط التأهّل لمنصب الإمامة الإلهية كما ينصّ على ذلك قوله عزّ من قائل: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ».

.
واقعاً حتى يمكن ان نفهم شرطي الصبر واليقين في هذه الاية الشريفة: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» لابد اولاً ان نشير الى مسألتين مأخوذتين من كلمتين من هذه الاية، المسألة الاولى هي الجعل الالهين الائمة مجعولون ومنصبون من قبل الله سبحانه وتعالى ولذلك جاء هنا بمن التبعيضية «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ» يعني جماعة معينة من البشر هم الذين نصبهم الله عزوجل حتى يكونوا ائمة ولكن السؤال ائمة لماذا؟ انظروا هنا الله عزوجل يقول الغاية هي الهداية «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ» الغاية الهداية للقيم الالهية، هداية البشر الى القيم الالهية ولكن هذه الهداية انما جاءت بأمر الله تبارك وتعالى «يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» ولم يقل لأمرنا هنا الله سبحانه وتعالى يذكر الشرطين، الشرط الاول «لَمَّا صَبَرُوا» واقعاً لما الله عزوجل يريد ان يبين ان شرطاً من شروط التأهل للامامة هي ان القائد الديني او القائد الالهي انما تتبلور شخصيته في ساحات الجهاد فلذلك فأنه يعيش حالة المحراب كما ان المصلي اذا صلى في صلاته يقال له انه صلى في محراب الصلاة كأنما يحارب الشيطان هنا ايضاً القائد الالهي والقائد الديني انما يحدثنا الله عزوجل عن صبره لماذا؟ لأن شخصية القائد انما تتبلور في ساحة الجهاد وهنا لابد ان نشير الى خطر آخروهو خطر اولئك الذين يركبون موجات الانتصار، في بعض الاحيان وفي بعض المجتمعات ربما نلاحظ ان اناس يركبون موجة النصر يعني هم واقعاً ليسوا قادة الهيين وشخصياتهم لم تتبلور في ساحات الجهاد وانما شاءت الظروف ان يستفيدوا وان يوظفوا موجة الانتصار فيركبوها، هنا الله سبحانه وتعالى يبين لنا لا، يبين لنا القائد الحقيقي وان القائد الديني هو القائد الصابر وهو القائد الذي بنيت شخصيته في ساحات الجهاد وفي ساحات القتال وفي ساحات المعارك وفي مختلف انواع هذه الساحات والائمة (عليهم السلام) واقعاً صبروا في مختلف الاتجاهات يعني من يقرأ سيرة الائمة (عليهم السلام) واحداً بعد واحد يلاحظ انه كان صابراً وانه كان كاظماً للغيض وصابراً على ما يجري عليه، هذا بالنسبة الى الشرط الاول واما بالنسبة للشرط الثاني وهو اليقين، ماذا يعني الله عزوجل باليقين؟
امير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت الا يقيناً" كيف يمكن ان يكون القائد الديني متيقناً؟ او تعلمون لماذا؟
لأن الله سبحانه وتعالى شاءت ارادته ان لا يصل الانسان بالضرورة الى مبتغاه والى ارادته حتى لو كان قائداً دينياً، حتى لو كان نبياً، حتى لو كان رسولاً، حتى لو كان اماماً، الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم انه اذا ذهب الى كربلاء سوف يقتل ولكن هذا العلم لم يمنعه عن الذهاب الى كربلاء وعن التضحية بنفسه المقدسة، هنالك ربما تصيب القائد انتكاسات مرحلية وهذا الامر طبيعي وواضح، امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام اصباه ذلك، الامام الحسن كذلك، الحسين (عليه السلام) كذلك، حتى يتخلص القائد من هذه الانتكاسات المرحلية ومن هذه الهزائم التي ربما تكون نفسية في بعض الاحيان واقعاً ينبغي عليه ان يكون موقناً ولذلك صفة اليقين من الصفات العالية التي كان يتميز بها ائمتنا (عليهم السلام)، حتى القائد الحالي اليوم، اي انسان يريد ان يكون قائداً في مجتمعه يجب عليه ان يتحلى بهذه الصفة العظيمة حتى يتمكن بعد ذلك من ان يصل الى مرحلة القيادة الالهية اما اذا لم يكن موقناً ولم يكن صابراً لا يمكن له ان يصل الى مرحلة الجعل الالهي وهي جعل الائمة، الائمة صلوات الله وسلامه عليهم تمكنوا من هداية الناس بأمر الله عزوجل بعد توفر هذين الشرطين.

إنّ الحلم خلق عظيم من أخلاق الله تبارك وتعالى، وقد تخلّق به أنبياؤه ورسله، وكذا أوصياء أنبيائه ورسله (صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً) لا سيمّا رسول الله محمّداً (صلى الله عليه وآله)، حيث لم يؤذ نبيّ قطّ كما أوذي هو (صلّى الله عليه وآله) فصبر على قومه إذ حاربوه وأخرجوه، وقاتلوه وناوؤوه، وأضمروا العداوة لأهل بيته ونووا أن ينتقموا منه من خلال قتلهم وتشريدهم وحبسهم، كما فعل ذلك بنو أميّة وبنو العبّاس بآل البيت وذراريهم وأصحابهم وتلك وقائع التاريخ تطيل الوقوف على حوادثهم المفجعة، وقد أخبر الوحي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما سيجري على أهل بيته، فكان منه الحزن العميق، والإخبار المتكرّر يروي للمسلمين ما سيكون على أعزّته أهل بيته من الظلم والجور والهوان، والتشريد والتقتيل والحبوس، فيبكي ويقول: كأنّي، كأنّي. ومع ذلك كلّه لم يكن من النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع قومه إلاّ العفو والرحمة، والرأفة والشفقة والحلم.
يروي خادمه انس بن مالك قائلاً: كنت أمشي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجذبه برادئه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله وقد أثر بها حاشية الرداء من شدّة جذبته، ثمّ قال ذلك الأعرابيّ: يا محمّد، مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك، ثمّ أمر له بعطاء.
وكان (صلّى الله عليه وآله) قد نشأ حليماً، هكذا يفهم من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه حيث يقول: إنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) أوتي الحكم والفهم صبيّاً بين عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، فلم يرغب لهم في صنم قطّ، ولم ينشط لأعيادهم، ولم ير منه كذب قطّ، وكان أميناً، صدوقاً، حليماً. أجل، كان هذا قبل أن يخاطبه الباري تبارك وتعالى بقوله: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف، ۹۹).

أمّا الكلام حول سعة حلم رسول الله وصبره فذلك ممّا لا يكاد تبلغ حقيقته أقلام الكاتبين، ولا خطب البلغاء والمتكلّمين، فقد واجه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من المصائب والمصاعب وإيذاء القوم وجفاء الجفاة وإلتفاف المنافقين وتدبير الأعداء ما لا يطاق، لكنّه صبر في الله، وواجه ذلك كلّه بالحلم والتحمّل، وقد تظاهر العرب على قتاله، وأعانهم اليهود والأجانب، فثبت، وكسرت يوم أحد رباعيّته، وشبحّ وجهه الشريف، فشقّ ذلك على أصحابه وقالوا له: لو دعوت عليهم!
فأجابهم: (إنّي لم أبعث لعّاناً، ولكنّي بعثت داعياً ورحمة، اللّهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
ويوم يتصدّى له غورث بن الحارث ليفتك به وهو (صلّى الله عليه وآله) جالس تحت شجرة وحده، نائم نوم القيلولة، فانتبه فإذا غورث قائم والسيف مصلت في يده، وهو يقول لرسول الله: من يمنعك منّي؟!
فيجيبه النبيّ (صلى الله عليه وآله): الله وهنا يرتعد غورث فيسقط سيفه من يده، فيأخذه النبيّ ويسأله: من يمنعك منّي؟!
فيقول له غورث برجاء وتوسّل: كن خير آخذ. فما كان من رسول الله إلا أن تركه وعفا عنه حياءً من طلبه: كن خير آخذ، فلمّا عاد غورث على قومه قال لهم: جئتكم من عند خير الناس!
ولم يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الدنيا حتى وضع أمّته على المحجّة البيضاء، فعرض لهم الاعتقادات الحقة الواضحة، وبيّن لهم مكارم الأخلاق في وصاياه وسننه الطاهرة، وأشار كراراً ومراراً إلى خليفته ووصيّه من بعده، فكانت منه تلك الخطبة العظيمة الطويلة في غدير خمّ بعد حجّة الوداع، وقد قال فيها بعد حمد وثناء وتمجيد لله جلّ وعلا: أشهد له بالرّبوبيّة، وأؤدّي ما أوحي إليّ، حذراً من أن لا أفعل فتحلّ بي منه قارعة، لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته، لأنّه قد أعلمني أنّي إن لم أبلّغ ما أنزل إليّ فما بلّغت رسالته، وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة وهو الكافي الكريم، فأوحى إليّ: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ» في عليّ، يعني في الخلافة لعليّ بن أبي طالب، «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».
معاشر الناس، ما قصّرت في تبليغ ما أنزل الله تعالى إلي، وأنا مبيّن لكم سبب نزول هذه الآية: (إنّ جبرئيل هبط إلىّ مراراً ثلاثاً يأمرني عن السلام ربّي وهو السلام، أن أقوم في هذا المشهد فأعلم كلّ أبيض وأسود، أنّ عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي، وخليفتي، والإمام من بعدي وهو وليّك
م من بعد الله ورسوله).
لقد جاء إختيار الله عزَّ وجلَّ للإمام علي المرتضى (عليه السَّلام) وصياً وخليفة لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لتحلّيه (عليه السَّلام) باخلاق الله ورسوله ومنها خلق الصبر وخلق الحلم اللذين كانا محور حديثنا في هذه الحلقة من برنامج خلفاء الله.