خليل مزهر الغالبي
في مقدمة كتابه "رهانات شعراء الحداثة" يقول الناقد "فاضل ثامر" (كثيرة جداً هي رهانات الحداثة الشعرية العربية،وأكثر منها رهانات شعراء الحداثة انفسهم وهم يؤسسون لبرامج ومشروعات شعرية فردية وجماعية،ويسلكون فيها مسالك ومفازات متنوعة،متقاطعة احياناً،منذ بدايات ارهاصات الحداثة الشعرية العربية في خمسينيات القرن الماضي وللان).
لذا ذهب الناقد في دراسته النقدية هذهِ لاتخاذات لبعض النماذج و لإشارات مثلت مقدمة لرؤاه النقدية في التوجهات المحدثة للشعر والمنتجة منها والباصمة بوضوح لمنتجها الناجز في تحديث ومحاولة تحديث التجربة الشعرية،ومنها الذكر السريع المتعلق لاسماء شعراء غربيين وعرب وعراقيين لهم اثر كبير ازاء موضوعة الحداثة وتاسيسها الاول ، مثل ش بودلير وفرلين و رامبو وغيرهم،وكذلك المحدثين للشعر العربي الاول من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والبياتي ،اضافة لشعراء مجلة "شعر" اللبنانية و ولادة قصيدة النثر مثل الشعراء الماغوط وادونيس و الخال واخرين ،مؤكدا على دور شعراء المرحلة الستينية في العراق بتمزيهم الحداثوي الواضح وبقية الشعراء اللاحقين.
فلجهد الشاعر حلمه للبلوغ للاجمل في التوازن لخلقه الشعري ومن بدء الهاجس والتصور والشعور،حتى تنصيصه لغوياً وفق محاولة الوصول لتلك الذروة المؤثرة للمتلقي ،وبما نسمية افتراضاً(الكمال الشعري)،الذي يحلم به الشاعر ويطارده، وفق الفهم المعرفي لنشاط اللغة المفجر لها والمجسد للشعور،فلغة الشعر حالة تجديد لدلالات لغوية يعتمدها الشاعر كنهج خاص به وتفرد خاص له و فق قاموسه الشعري المناسب معه لخلق جمالية الشعر العابر للمتلقي ،فللشعر منطق لغوي فني في بناءاته يخالف منطق النثر وبدونه يسقط الشعر في خانة النثر المجردة التقريري.
وبعد ان اثار الشعراء في محاولاتهم الى ضرورة وجود شعري حداثوي يأخذ بهم لتلك الآفاق الشعرية العابرة للمتداول والمغاير للسائد المطبع بالقدامة الخانقة للذائقة الكلاسيكية والمانعة للأوكسجين التلقي الجديد بعد ان خلقت مفروزات حضارة المعدن المزدحمة بالدخان الخانق للتلقي كما الضوضاء المخلة للانصات الشعري وتأملاته .
ولتجربة الناقد الستيني "فاضل ثامر" الخاصة الطويلة والقريبة المتابعته للمشهد الادبي عموماً والشعري منه ،وفق الناقد في تكوين رؤاه الدارسة لمنتج النص الادبي العالمي والعربي والعراقي وكما اتضح في اصداره لهذه الدراسة ومن البدء الحديث عن التجديد الحامل للحداثة ومن خمسينيات القرن المنصرم ،بدءاً من خلق الشعر الحر في تجربة العراق الشعرية الى الشعر النثري ،القصيدة النثرية والنص المفتوح والقصيدة اليومية وقصيدة الشعر ، ومن تأثير الانفتاح بين الاجناس الادبية في تحديث الشعر، و تلاقحها البيني الآخذ لتنشيط توجهات الشعر والشعراء وتوسع مسالكهم ،خاصة والجنس الشعري من الاجناس الاكثر نزوعا وحركة للخروج العابر للاسوار والخطوط المرسومة والمحاصرة والمانعة له.
وقد ذكرها الناقد "فاضل ثامر" بتناول انار المناطق المظلمة من غموض الأشكلة الحادة من القبول الصعب للجديد الحداثوي المخالف لسلطة القصيدة العمودية والكلاسيكي التابع، لذا اتسمت الدراسة بفض الاشكال هذا وايضاح الحجة الشعرية لهذا الداخل الجديد الباحث عن قبول التلقي له وسماع حجته الشعرية.
ولم تكن نمذجة مفاصل الكتاب واختياراته للشعراء بعيدة عن واقع ماهية ابداعهم في المشهد الشعري العراقي،وبمثل ما يلبي القبول و يقارب لرؤى القارئ الخابر والمتابع لموضوعة الشعر،وهذا من اساسيات التوفيق في نجاح الكتابة هذه ومن توفيرها لذلك الدرس المعرفي النافع لنا،ولاننسى ما اثاره الكاتب الناقد في عنونته لتوزيعات فصول الكتاب والبائن بوضوح في فعالية العنونة ودالتها،التي تفتح بابا واسعا لفهم مايراه الناقد "فاضل ثامر" لكل مفصل متعلق ولكل شاعر في اختياره للدرس ذي الاهمية العالية في موضوعة الحداثة الشعرية وظاهرة الاهتمام والتوجه لشعرائها،وكما في دالة ذكره لانشودة المطر في ذكر السياب لقيمتها التي ارخها التاريخ الشعري والذائقة المتلقية وما يعني ايضا وصفيته للشاعر الستيني فاضل العزاوي (عراب الحداثة) لسلوكه الشعري وتنظيراته ، و هو وصف مقارب جدا لماهية الخروج الشعري البعيد للشاعر "فاضل العزاوي"،و كذلك الخروج الواضح لشعراء الستينيات في تمرده الشعري من تعبير ولغة ورؤى وسلوك. وما يراه عن الشاعر "رشدي العامل" في عبور رومانسيته بلبوسها الحداثوي المبدع،وبقية اشارات الناقد المعنونة لبقية الشعراء.
وقد اوضحَ رؤيته الخاصة للخطاب الشعري لتجربة الشاعر ومن خلال قراءته النقدية ولتكون العنونة الاشارية الواصفة ،عتبة لنا لفهم ما يراه الناقد "فاضل ثامر" لخصوص الخطاب الشعري لهم وكما في عتبة تسميته المتأتية من مكون ظاهرها الفني والاظمار فيها وفق تنشيط عامل الانفتاح الدلالي لمعادلة الخفاء والتجلي.
ولابد من ذكر عنونة فصول الكتاب هنا،لاهميتها في قراءة رؤاه الدقيقة في توصيف للشعراء ،والتي تشكل رؤية خاصة بالمؤلف الناقد التعني لنا الكثير في ماهية هؤلاء الشعراء ،لكنه وصف جانبه الناقد لتناوله الفني والجمالي لتجربة الشاعر وحياته وبما يمكن فهمه اشارات رابطة للشاعر ونصه،ويمكن ان تكون اشارة قرأت الشاعر خارج النص وداخله، وكما دونها ((انشودة المطر للسياب نموذجاً ،عراب الحداثة الشعرية الستينية في العراق فاضل العزاوي،ثلاثية القلق والعزلة والكأبة فوزي كريم،تجربة الاغتراب الروحي سرجون بولص،شعرية اخر العمر ياسين طه حافظ ، الرومانسية تتسربل برداء الحداثة رشدي العامل،سادن المتحف الخيالي خزعل الماجدي،شعرية المفارقة والسخرية كاظم الحجاج،شاعر الكوميديا السوداء ومدون الفجيعة موفق محمد،من ثنائية الوطن/ المنفى الى منفى الشعر -عبد الكريم كاصد،رؤيا شعرية للواقع العربي -محمد علي الخفاجي،علي جعفر العلاق شعرية الوحشة والحزن والكآبة ،قصيدة النثر بين المطابقة والاختلاف عبد الزهرة زكي ، الشعر بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي زعيم النصار،تنازع اللحظتين البرهانية والعرفانية في شعرعارف الساعدي،البحث عن افق شعري:عمر السراي،ثنائية الحضور/الغياب –مرثاة لأفول مدونة النخل:طالب عبد العزيز،الكتابة الشعرية بالفرشاة:جواد الحطاب،عندما يتماها الشاعر مع المكان:باسم فرات)).
ويرى الناقد ان رهانات الحداثة اعتمدت على المزيد من التجريب و الابتكار و التجاوز،ومن التجربة الخمسينية وحضورها المتسم بالهدوء في خطابها الشعري المتجانس مع الدعوات المطالبة بالتغير، كما في وصفه لها بمثل الصوت المعبر عن هموم المجتمع في دراسته.
وعن الجيل الستيني قوله(اقترنت الموجة الحداثية في الستينيات بمنظور فلسفي و رؤيوي جديد و مغاير جذرياً عن منظور الحداثة الشعرية في الخمسينيات وانفتحت على المزيد من التجريب و الانفتاح على مستويات تعبيرية جديدة تفيد من بقية الأجناس الأدبية و أفادت من تجربة الشعر الأوربي و بشكل خاص الشعر السريالي و الرمزي و الدادي و المستقبلي)..
وأكد الناقد ان التجربة الشعرية في العراق لم تقطع الصلة بنوعها الغنائي،مثلما بقاء التفعيلة في الجيل الستيني،ويذهب لوصف الشعرية السبعينية بالقصيدة المهوسة،اما الجيل الثمانيني فقد كان جيل الحروب واستبداد السلطة والتسعيني بمعاودة الحروب وكتم الافواه.
كانت موضوعة الحداثة الشعرية او محاولات التحديث للشعراء ،ظاهرة اخذت الكثير من متابعة الاستاذ الناقد "فاضل ثامر" لمآثرها ورؤها في الداخل والخارج وكما قال (وتظل عملية ملاحقة رهانات حركة الحداثة الشعرية، وإلى درجة أكبر رهانات شعراء الحداثة وبرامجهم ورؤاهم الإبداعية المتباينة، هي الهدف الأسمى لمشروعي النقدي الاستقصائي والتأويلي والاستنطاقي هذا).
و قد اشار الناقد الى دور التلاقح والحوار الفني للشعراء مع الاجناس الادبية والاخرى الفنية من فنون تشكيلية وسينمائية وموسيقية وغيرها في اضفاء البعض من المؤثرات الشعرية وتوظيفها للاغناء الشعري وتحديثه وكما في تأكيد الكاتب الناقد (لقد راحت التجارب الشعرية الحداثية عموماً، والعراقية بشكل أخص، تتخلى تدريجياً عن جوهرها الغنائي الصرف من خلال الانفتاح على الأصوات الغيرية وعلى أجناس فنية وأدبية وإعلامية مثل السيناريو والسينما والمسرح والرسم والنحت وفن التصوير الفوتوغرافي أو المنشور السياسي والإعلان التجاري...)
وقد وصف المنتج الشعري المجدد في تلاقحه هنا بالتنوع ضمن منطقة الجنس الشعري الغنائي وعدم وقوعه في المنطقة البعيدة له والغريبة منه،وهذا ما صرح به الناقد (لكنها ظلت في تقديري تنتمي في الجوهر إلى الغنائي أجناسياً، وكل الاجتهادات التي تتحدث عن أجناس شعرية جديدة بعيدة عن الدقة، لأن ما نراه هو تنويعات أو ضروب ثانوية ملحقة ومتفرعة عن المتن البدئي للغنائية، لكنها لم تعد تلك الغنائية الكلاسيكية أو الرومانسية الصافية بل اكتنزت بمقومات وحمولات معرفية وفلسفية ومظاهر موضوعية، من خلال التعدد في الأصوات الشعرية والاحتشاد بعناصر كولاجية فسيفسائية وبنيات سردية ومشهدية من مختلف الألوان).
ان الشعراء المختارين في تميزهم الحداثوي من الناقد ،تميز ابداعي محقق وفق مفهوم متنوع ومختلف ومغاير،فلكل بصمته المختلفة وفق اختلاف اسلوب الشاعر وخاصته الشعرية والياته من لغة وتصوير وباناء، ومن خلال الفهم المتفق، ان النص سابق للنقد وعلى النقد ان يسمع صوت النص لا سماع ارغامات الناقد و عسفه ،بل نقد يضعه وفق القيم الجمالية الماثلة فيه والمحققة له.فلا واحدية للنهج النقدي العاملة على ارباك النقد لعدم ملاءمتة في احياين نقدية كثيرة لعدم التجانس بين النص الشعري والنهج الناقد له.
ويبقى كتاب "رهانات شعراء الحداثة" متابعة حريصة نبهت للكثير من اشتغالات الشعراء في تحقيقهم ومحاولات تحقيقهم المميز للإبداعية الجمالية المحدثة للشعر العراقي.