دائماً ما يذهب الشعراء الى ذواتهم، بحثاً عن رديف لهواجسهم يعتقدونه مازال مختفياً في ثنايا التردد، وقد يتصادفون معه لحظة انثيال، او تحت تأثر شهوة الكتابة، باعتبار ان القصيدة مولودة من رحم الهذيان والإنثيال الباطني. وإذا أردنا الدخول الى ذات شاعر ما، وحاولنا تناول نصوصه الشعرية بكل تجلياتها التي نتلقاها، فعلينا الصمود بوجه أمواج تلك النصوص المتلاطمة، أو علينا أن لا نكف عن البحث في الأعماق المليئة باللوحات متعددة الهاجس، فلا يمكن إستقراء كل الهواجس ما لم نركز على ذات الشاعر وتفاصيل نزواته الشعرية، من تحديد مسبق، او تصميم على فك شيفرة الروح المخبوءة في العمق.
عدنان الفضلي

وهذا ما حاولت أن أحققه هنا حين قررت أن ألج ذات الشاعرة (شذى فرج) من خلال مجموعتها الشعرية (دويّ القبل)، وحين بدأت، وجدتني ابحث عن تنظيم معين للتجربة الذاتية من خلال التوغل في الأنساق الاشارية التي رتّبت بها الشاعرة هواجسها وانثيالاتها، فكان أن التقيت بهواجس متسربة .. لا يجرؤ الكثير من الشعراء على التوغل فيها، كما في هذا المقطع الذي اخذته من نهاية قصيدة (دوي القبل) حيث قالت فيه :
" نتمنى أن نبقى بحاسة واحدة
حاسة الذوق
أتعرف يا حبيبي
لم أسمو الذوق ذوقاً"
او في هذا الانثيال المليء بالكثير من التكثيف المتمكن والإخماد الهتافي للسطور المتمردة على ذاتها وذات الشاعرة التي تحسم دوماً ترددها ببجنون شعري يصيب المتلقي بنشوة الوصول سريعاً ، حيث تقول في قصيدة (أول اشتعال):
" العطر عند الرحيل بقايا دخان أزرق
تتهاوى الشموع وتنطفئ القناديل
ونصفق حجراً بحجر
لنعود لأول اشتعال .. دون جدوى"
وفي نص آخر بعنوان (ولادة)، نجد لغة الحلم وسرمدية التمني تأتي على كل مفاصل الصورة الشعرية، حيث تذهب شاعرتنا بعيدا باتجاه سمو يخصها، ونراها ترتقي الآفاق واحداً تلو الآخر لنصل بصحبتها الى حيث أراد لنا المكوث . وهاهي ترتب بعض جنونها ، كما سلم متصل بسماء شعرية ويطلب منا الارتقاء حيث تقول :
" ألثم حلمة العشق الزهرية
وأنفث بقايا رضاب فم مبلل
في مسامات الأثداء المجنونة
وأمضغ وداً .. وقد لا تود
القصيدة الحديثة برأيي الشخصي تعتمد على ذات الشاعر وشاعريته وليس بالضرورة ان تأتي مكتملة .. أي أنها ليست ملزمة بكل شيء.
فالمتلقي هو من سيختار المناطق التي تؤثر به ، وأنا .. ولا ادري لماذا وجدتني أعيش هذه القصيدة الموسومة (مطر) التي احتوت فعلاً درامياً من خلال مسرحة النص الشعري ودسّ الانثيال بداخله على شكل شهادة حية لواقع تآكل لأسباب عدة .. نطقتها الشاعرة بلغة أهل الشعر، لا أهل المسرح حين قالت :
" تعال نطفو فوق القصيدة
نبحر في شهوة الكلمات
نغادر الأحزان
نهجر كل معتاد
نغادر أنفاس الأجواء
نعتاش على أنفاسنا
وحبة مطر سقطت في تجوالنا
على صحن خدك"
وفي ذات القصيدة نجدها وقد خلقت إزاحات مثيرة وظفت من خلالها (النص المثير) عبر مغادرة المألوف والدخول في حقائق بطّنتها بالهتاف من خلال طاقة تصويرية غير اعتيادية بل كانت استثنائية، فانتقال مستوى الهتاف لدى الشاعرة من صورة ساكنة الى صورة صاخبة ساعدنا على اعتماد القصيدة كـ (مدهش) ومض أمام أبصارنا القرائية حيث قالت :
" تعال نقرأ الشعر بأعلى أصواتنا
فيسمعنا المارة
ويظنون بنا الجنون"
"لكي يستمر عملك من جيل الى جيل، يجب ان يكون لك أسلوبك المتميز" هكذا كان يقول الشاعر الصيني ( سونغ زيجينغ ) وقد وجدنا (شذى) تسعى لان تترك بصمة شعرية يتداولها جيلها الحالي باهتمام .. ومعنى ذلك أن شعرها أثار من حولها .. إذن فقد رسخته بينهم وبالتالي فان الجيل القادم سيجد بعض نبض من هذه الشاعرة . وما أقوله لم يأت اعتباطاً ، بل هو رأي سمعته من الكثيرين الذين وجدوا في نصوص (شذى) ما يمكن تسميته بـ ( المحرز تقدماً ) فاتفقت معهم بعد تمحيص، فهي تكتب الشعر دون فرض مسبق .. لا.. بل هي تعتمد دوراناً خاصاً بها ينتج عنه قصائد تبقى معلقة في الهواء ، حتى وان ترنحت الشاعرة.
ما تمارسه شذى في اجواء قصائدها، هو رسم تفاصيل حياتها بضبابية قابلة للتبديد، وتجنح الى قراءة المتشابه معها من الآخرين وتنفر من (الفارقين) آراءهم من الوسط، متخذة من الخطأ المفترض لوحة تزيح بعضاً من الخراب والفراغات القسرية، لكنها لا تؤمن بكل ما ترسمه على أنه قدر، فهي ابعد جداً من القدرية في فلسفة نصها وهذا الموضوع ادركته جيداً وهي تشتغل قصيدتها المفترّة عن وجه إيروسي غير مبتذل رغم محاكاة (الجسد)، وتدلنا على اقتراح لذيذ يبدد ضباب الروح حيث تقول:
قال/ أنا مسكون بثرثرة اشتهائي
قالت / إنها أجمل ثرثرة
قال / سأمنح نفسي تأشيرة دخول
الى واحة نهديك .. ووسادة أحلامك
قالت / وهل النهود خلقت الا لناظريك
ووسادات الأحلام لطيفك
قال / قد تلبستني جنية التطفل
وهي تحاكي أزرار قميصك الشفاف
قالت / إسخر من الجن ما استطعت
ومرر أصابعك أنى شئت "
ربما لم يتوحد رأي النقاد على ان الأنثى اكثر قدرة في العطاء الشعري، حين يكون الجسد محوراً او ثيمة لقصيدة، وحين اقول القصيدة فانا مؤمن كلياً ان المرأة وعبر التكثيف الذي تسمح به القصيدة وحدها، تنجح كلياً في التعبير عن انوثتها دون ابتذال لصورتها العامة.
وقد وجدت في كثير من قصائد الشاعرة هذا التحرك الجسدي الخالي من الابتذال، كونها اصطبغت بتقدير وتقديس الجسد الانثوي ومنع المفردة الفارغة من دخول خانة شعرها الايروسي، فترسم لنا "ايروتيكيا" عالية، تفتح بوابة نشوة التلقي على مصراعيها، ويصير الراصد لتحرك جملها الشعرية راقصاً على وقع المفردة المتغنية بالرجل المعطاء، فهي في الشعرية والشاعرية التي تمتلكها كانت الانثى المحتفية بالاخر القريب منها، أو الملتصق كلياً بها لذلك جاء انزياح قصائدها متجاوراً مع رغباتها الحميمية الصادقة.