من يقرأ روايات الكاتب سعد سعيد، يقف على ظاهرة خاصة بالكاتب، ألا وهي خصب مخيلته واتساعها، والتي هي عامل ايجابي وسلبي في الوقت نفسه، إذ تتحول إلى عامل ضعف حين يعمد الكاتب إلى شطر السرد وتوليده في عدد من رواياته، بدءا من روايته الأولى "الدومينو" وحتى ما قبل الأخيرة "انسانزم"، مما يؤدي إلى تكثير الأحداث وتكرارها وتشعبها في العمل الروائي.
د. شجاع العاني
إلا أن الكاتب في روايته الأخيرة "صوت خافت جدا" يحقق قفزة نوعية في فنه القصصي، فهي تخلو من الانشطار وتوليد الأحداث، فضلاً عن أنها ذات نزعة حوارية عالية تبرز فيها أصوات الشخصيات وخاصة صوت بطلة الرواية. وفي هذه الرواية أو الأحرى (القصة الطويلة القصيرة) يعود الروائي إلى موضوعات الرواية العراقية التي عرفتها حتى السبعينيات، ثم ما لبثت أن انحسرت خاصة بعد الاحتلال الأخير للعراق عام 2003م، وأعني بها الموضوعات ذات الطابع الاجتماعي كالغنى والفقر وصراع الطبقات والمآسي الاجتماعية كالقتل غسلاً للعار، فضلاً عن موضوعات برزت بعد الاحتلال كالتطرف الديني والتفجيرات والقتل العشوائي والخطف والاغتصاب وانتشار الاستجداء بشكل واسع في الشارع.
ويتصل بهذه الموضوعات مضامين خاصة تقوم على نقد المجتمع والانتصار للطبقات والشرائح الفقيرة والمعدمة في المجتمع والتي تشكل قاع المجتمع العراقي.
ولقد اشتقت الرواية عنوانها من هذا المحتوى، فالبطلة وأختها تستمرئان منذ طفولتهما ترديد كلمة (نئيم) بديلاً عن كل مظاهر الرفاه وتعوضان بها حاجياتهما الملحة، وهي تعني الصوت الخافت جداً، أي صوت الفقراء الذي اتخذ منه الكاتب عتبةً لنصه القصصي! ومن هنا يمكن القول أن الرواية تنتمي إلى الواقعية النقدية أو تعود إلى احيائها بعد أن انحسرت في أدبنا العراقي.
وقصة "صوت خافت جداً" هي ببساطة قصة فتاة أرادت بكل طاقة الحياة فيها، أن تحب ووجدت موضوعاً لحبها الطبيب الذي ساعدها لتعمل سكرتيرة في عيادته، إلا أنه لم يبادلها الحب، وحين تكتشف وهي الفتاة الفقيرة أن أختها الطالبة الجامعية "سلوى" قد باعت عفتها لقاء ملابس داخلية مرتفعة الثمن لا ترتديها إلا بنات الأغنياء، قررت أن أفضل حل لطمس الفضيحة هو الهجرة خارج العراق، وتفاتح الطبيب بذلك فيساعدها بمبلغ من المال ليمكنها وأختها على الهجرة، فتعرض عليه أن ينالها جسدياً قبل الرحيل، لأنه الرجل الذي أحبت فيرفض ذلك قائلاً أنه لا يمتلك شهية للنساء. وحين يفهم الطبيب منها أن عفتها تشكل عبئاً عليها وأنها ذاهبة لتتحرر منها يسألها، أذاهبة أنت هناك لتتحرري من عفتك؟ تجيبه: "هناك سأكون شريفة، كما يجدر بي، ولكن وفق مفاهيمي" ص264.
قلنا أن صوت البطلة هو صوت الفقراء الخافت جداً، ولكنه على صعيد الفن القصصي صوت مرتفع جداً، إذ يتظافر على سرد الأحداث راويان هما الراوي الموضوعي كلي العلم المقتحم للقصة، وخاصة في مطالع الفصول حيث يفتتح الراوي هذه الفصول برأي أو فكرة أوحكمة، والراوي الثاني هو الروائي الذاتي أو الراوي البطل حيث تقوم "سفانة" بطلة القصة برواية الأحداث مشاركة بذلك الراوي كلي العلم في روايتها، وتتسم رواية البطلة باستخدام اسلوبها ونغمتها في السرد بحيث تستخدم الألفاظ والعبارات العامية إلى جانب الفصحى. كما تتسم بروح التهكم والسخرية، وكأنها تتخفف من مأساتها الإجتماعية بابتسامتها وسخريتها.
وفي خطاب البطلة وسردها يكمن صوت آخر، هو صوت صديقتها "فضيلة" التي قتلها أخوها غسلاً للعار، ليتسنم بعد ذلك قيادة حركة دينية مسلحة، وينال من مجتمعه المحلي الصغير عفوه عن ما اقترف من أفعال مضرة بمصلحته "كانت فضيلة قمة بالنقاء.. آه لو تدري كم بكيتها يوم سمعت بذبحها.. ذبحها الحقير.. الكارثة هي أن سمعته تحسنت كثيراً في المنطقة بعد أن ذبحها" ص241
وتتجه البطلة في حكايتها للقصة إلى صديقتها فضيلة بحيث يرن في خطابها صوتان، صوتها هي، وصوت صديقتها المغدورة فضيلة، عبر ما يدعوه "باختين" بالخيال الحواري، إذ وهي تسرد الأحداث مخاطبة لفضيلة نسمع ردود فضيلة عليها، وردها هي على هذه الردود، ومثال هذه الردود قول البطلة مخاطبة صديقتها المغدورة: "فضيلة ما بك؟.. أنا أفهم منك عشرات المرات وأعرف ما أقول، فلا تظلي تناقشينني، اسمعي فقط.. وإلا ماذا؟ أنا أعرف بأنني لا أستطيع أن أقاطعك يا نبض قلبي" ص202. وقد يكون الحوار باللغة العامية لا الفصحى كما هو الأمر حين تتخيل "سفانة" أن صديقتها تظن بها الظنون: "ها أدبسز، بشنو تفكرين؟ ولج شجاب هاي السالفة ببالج؟ عم أحدثك؟ ثم ألم تجدي خبيرة أفضل مني تسألينها عن هذا؟ ألا تعرفين بأنني مثلك، ما زلت مثقلة ببكارتي.. فمن أين آتيك بخبرة في شيء لم أمارسه؟" ص201
وهذا يعني أن فضيلة قتلت ظلماً ولم تفعل شيئاً تستحق عليه القتل.
إن هذا الخيال الحواري واستخدام الحوار الصامت أو المونولوج إلى جانب ذلك أدى إلى بروز الشخصية وحسناً فعل الكاتب حين جعل البطلة تتحدث بلغة وأسلوب هكا غير لغة وأسلوب الراوي الموضوعي كلي العلم، كل ذلك جعل هذا الرواية رواية حوارية قلّ نظيرها في السرد أو الرواية العراقية!.
أود أن أشير إلى بعض التناصات في الرواية، ولعل أبرزها الإشارة إلى نجيب محفوظ وشخصية "زيطة" في زقاق المدق، تقول البطلة: "أنا أتصور لو جاء زيطة إلى العراق الآن، لعجز عن استخدام مواهبه، فقد أصبح عندنا زيطات" ص28، ووددت لو أن الكاتب أشار إلى الشخصية الأساسية التي استنسخ منها زيطة وهو "ميتشام" في رواية "البنسات الثلاثة" لبريخت، كما كنت أتمنى لو أن القاص عمد إلى اقتطاع بعض نصوص أو شعر المتصوف الحسين بن منصور الحلاج الذي تذهب البطلة لزيارة ضريحه بعد أن حاصرتها المأساة، في مجتمع تصفه الرواية بأن فيه "يتوطن.. الحقد، وتتسيد الكراهية" ص261.
وتفتتح الرواية برسالة من "سفانة" إلى الطبيب فارس الذي عملت معه، تخبره بأن المجتمع الذي تعيش فيه، قدم لهم الأمان، وهيأ لهم سبل العيش فوراً، ولكنها لم تنس موطنها العراق وهي مستعدة للعودة باشارة منه، لأنها لا زالت تحبه.
أشد على يد الكاتب وإلى مزيد من التطور والإبداع.