عدَ انتهاء العيدين (عيــد الزغير وعيـــد الجبير) ولاسيما في موسم الربيع، يخرج البغداديون من بيوتهم صباح كل يوم ولمدة اسبوع وفق الروزنامة التي يحفظها كل منهم عن ظهر قلب، فتأخذ النساء اطفالهن وهم بملابس العيد الزاهية ومعهن السماورات (وهي جمع سماور وهو جهاز لاعداد الماء الحار المستعمل في تخدير الشاي (واصل الكلمة من الروسية samovar) وعدة الشاي والقدور التي تحوي غالبا الدولمــة او كبة الحلب او العروك وغيرها من الاكلات البغدادية، مع بعض الافرشة الخفيفة كالزوالي الصغيرة او البسط والمنادر وعلاليك الفاكهة للتمتع بمباهج الطبيعة الزاهية التي تنعش النفس ولزيارة الاضرحة والمقامات، حيث يتخذن مجالسهن في ظلال الاشجار قرب السواقي او في ساحات المزار المقصود وفق تقويم الكسلات البغدادية.
وينتشر حيث الكسلة باعة الحلوى والكرزات والطرشي والمرطبات (كالشربت واللبن والسيفون وغيرها) والمأكولات (كالجرك والبقصم والسميط وغيرها) وهم ينادون على بضائعم ترويجا لها.
ويشير تقويم الكسلات الى اختصاص يوم السبت بزيارة مرقد الامام الكاظم (ع) في الكاظمية، والاحد بزيارة مريم بنت عمران في كرادة مريم في جانب الكرخ، والاثنين بزيارة مرقدي الشيخ عمر السهروردي والسيد ابراهيم، والثلاثاء بزيارة مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني في محلة باب الشيخ في الرصافة، والاربعاء بزيارة مرقد ابو رابعة في الاعظمية والشيخ جنيد في جانب الكرخ، والخميس بزيارة مرقد السيد ادريس في الكرادة الشرقية في جانب الرصافة، والجمعة بزيارة مرقد الامام الاعظم ابي حنيفة بالاعظمية.
ولابد للبغادّة من استيفاء الكسلات جميعا غبّ العيد في اسبوع موصول. ويذهب الاستاذ هادي العلوي الى ان اصل الكسلة مجهول وكذلك المعنى الذي ينطوى عليه، واغلب الظن انها وجدت بدافع الرغبة في مداومة المرح والتعطل الذي يستروحه الناس طوال ايام الاسبوع. وفي مجتمع ضيق يخفيه الحرمان كالذي زاملته بغداد في القرن الماضي مثل هذه النزعات تأثيرها القوى على الافراد.
ان حاجة الناس الى التفسح والخروج من اسر القيود الاجتماعية التي تكبلهم تؤلف على الدوام حافزا يدفع بهم نحو البحث عن منافذ يتنفسون من خلالها. وهكذا كانت لايام العيد في بغداد بما تحمله للناس من مسرات اهميتها البالغة واصداؤها البعيدة في النفوس، وكانت الكسلات مناسبة فرّعها البغداديون من اعيادهم تطمينا لهذه النزعة. ولعل اطلاقهم اسم (الكسلة) على هذه الايام، ما يؤيد هذا الظن او يقربه من الصواب، واتماما للفائدة توفرت على تخليد الكسلات البغدادية التي ادركها الانطفاء بعد ان زحف العمران الى ضواحي بغداد، وأزال بساتينها الكثيفة التي كان يؤمها البغادّة في كسلاتهم، مسلطا الاضواء على ما يكتنفها من جذور تضرب بعيدا في اعماق تاريخنا الاجتماعي.
مريم بنت عمران
إنّ الضريح الموجود في وسط ناحية الكرادة في الركن المقابل للسفارة الكويتية حاليا في بغداد ينسب الى السيدة مريم بنت عمران (ع) والدة السيد المسيح (ع) التي اطلق اسمها على الكرادة، والمرحج ان هذا القبر مثوى امرأة صالحة من نساء العهد العثماني اسمها مريم، وقد التبس الامر على الناس، فشاع بينهم انها السيدة العذراء، بينما العذراء لم تزر العراق ولا عهد لها بالكرادة.
وقد شاهدت هذا القبر بتاريخ 1/ 9/ 1967 فوجدت امامه ساحة تبلغ مساحتها نحو الف متر مربع يحيط بها سور مشيد بالطابوق والاسمنت ارتفاعه متر ونصف له باب حديد عرضه نحو عشرة اقدام وارتفاعه ارتفاع السور. وقد شيدته وزارة الاوقاف سنة 1958 كما علمت من المرأة التي لديها مفاتيح الباب. وقد اخبرتني (حفظها الله) ان هذه الارض قد اشتراها (الحاج حسن الخزعلي) وحبسها وقفا للسيدة مريم، وان المتولي الحالي لهذا الوقف هو (مجيد بن نعمة)، وفي ارض الساحة ثماني عشرة نخلة وثلاث اشجار كالبتوس، وينتشر في ارجائها العاقول وبعض الاشجار البرية، وفي الجهة اليسرى منها غرفة متداعية بلا سقف مساحتها 4 × 5 م (20 مترا مربعا)، وقد تصدعت جدرانها الاربعة، وظهر جليا للعيان ان بناءها من الشكنك والطين مملوجة بالجص، وفي وسط هذه الغرفة قبر مريم وهو عبارة عن مجموعة من المرمر تراكم بعضها على البعض، بلا تناسق وقد احيطت بيقايا سياج خشبي اكلته الارضة بعد ان غطيت بقماش اخضر لماع حديث الصنع. وعند خروجي من هذا المزار صادفتني احدى الكراديات وبادرتني بقولها "انخيها تــره هيه أم النطيات".
ابو رابعة
ومنْهم من يسميه "أم رابعة" او "رابعة بنت جميل". ومذهب الدكتور مصطفى جواد ان بالقرب من جامع الرصافة قبر عبدالله العلوي، وموضع هذا القبر يعرف اليوم باسم (ابي رابعة) و(أم رابعة)، وهو يقع على مسافة قليلة من شرق شارع الامام الاعظم بإزاء منعطف الضريح الملكي.
والسبب في نسبته الى أم رابعة ان السيدة شمس الضحى شاهلبني الايوبية بنت عبد الخالق بن ملكشاه بن صلاح الدين زوجة الامير ابي العباس احمد بن المعتصم بالله العباسي ثم زوجة علاء الدين عطا ملك الجويني والي العراق والاحواز، كانت قد انشأت عند هذا المشهد رباطا للصوفية ومدرسة سميت بالمدرسة العصمتية، ويفهم من اسم المدرسة ان هذه السيدة كانت تلقب بعصمة الدين، أي ذات العصمة، ولما توفيت سنة 678 هــ دفنت في التربة التي بنتها بجوار مدرستها عند مشهد عبدالله المذكور. وفي سنة 685 هــ توفيت ابنتها رابعة العباسية بنت الامير احمد ودفنت في تربة والدتها فرابعة وأم رابعة مدفونتان هناك.
وقد زرت قبر ابو رابعة بتاريخ 15/ 3/ 1968 ويقع في الاعظمية محلة النصة على بعد 500 متر تقريبا من الطريق الذي يلي عمارة فاروق الجدة في داخل البيت المرقم 63، وهو بيت بسيط مشيد بالطابوق والجص ذي طابق واحد وبابه خشبي يتألف من فردتين. ويفتح باب الدار على ممر مكشوف طوله نحو عشرة امتار، ويؤدي الى باب حديد حديث الصنع مصبوغ بلون اخضر، فتحه لي صاحب الدار (نعمان مسعود) الذي ورث قيمومة رابعة بنت جميل عن اجداده، وقد ابرز اليّ ورقة مسجلة عليها اسماؤهم، ويفضي الباب الحديدي الى ممر (طوله نحو ستة أمتار وعرضه نحو مترين) مبنى بالطابوق والجص، وقد عقد سقفه على شكل اقواس، وفي منتصف الجدار الايسر من الممر باب خشبي واحد في وسطه صفان من مسامير نحاسية دائرية الشكل قطر الواحد نحو اربعة انجات، وفي كل صف خمسة مسامير. ثبّت الباب بالجدار بإطار خشبي. وفي الجهة البعيدة من الجدار حلقة قطرها خمسة انجات تقربيا فوقها سلسلة حديد طولها نحو قدم واحد، وتتألف من ثلاثة زردات (حلقات)، والغرفة مربعة الشكل طول ضلعها نحو اربعة امتار وسقفها معقود على شكل (عرقجين) نصف كرة بالطابوق والجص، وفي كل جدار شباك مربع الشكل مغطى بإطار خشبي (قيم) مربعات صغيرة، وارض الغرفة مبلطة بالطابوق ومفروشة بحصير الخوص والكمبار، وفي وسط الغرفة صندوق من الخشب الجاولي ارتفاعه عن الارض نحو متر، وهو مغطى بقماش اخضر لماع (كريم ستن)، وفيه يرقد الشيخ حماد الدباس بن مسلم الذي يعتقد السيد نعمان انه زوج رابعة بنت جميل. اما قبر رابعة فهو في داخل الجدار المقابل لمدخل الغرفة وقد ثبّت على الجدار شباك خشبي مربع الشكل طول ضلعه نحو قدمين وهو مقسم الى مربعات صغيرة، وفوقه توجد رازونة صغيرة فيها صخرة على هيئة شبه منحرف وحجمها يملأ الكفين، وقد اخبرني السيد نعمان ان فيها كتابة بحروف صغيرة ولكني لم اتمكن من رؤيتها. كما اخبرني بأن عدداً من الزائرين الاجانب رغبوا في شرائها، الا انه رفض بيعها لاعتقاده في قابليتها على شفاء (وجع البطن) اذا وضعت على مكان الالم. هذا وقد انيرت الغرفة مؤخرا بمصباح كهربائي.
السـيد ادريس
لم أجد مصدراً او جذراً تأريخياً لمزار السيد ادريس الذي يقع في الكرادة الشرقية. وقد زرته صباح يوم 31/ 3/ 1968 فوجدته بناء جديدا يقع في شارع فرعي يبعد عن الشارع العام (الذي يربط الجسر المعلق بمفرق الكرادة داخل) بنحو 500م في وسط مقبرة اسلامية عامة يحتضنها سياج حديث ارتفاعه نحو متر ونصف، في وسطه باب عرضه نحو ثلاثة امتار كتب على مدخله في لوحة بيضاء مساحتها قدمان مربعان ماهذا نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم، ان الله لايضيع أجر من احسن عملا، قام بتشييد السياج الخارجي لمقبرة الامام السيد ادريس في الشهر التاسع سنة 1963 السيد احمد جفال البجري ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره).
ويؤدي الباب الخارجي بعد قطع عشرين مترا تقريبا الى ارض مبلطة بالكونكريت عرضها نحو ثلاثة امتار الى بناء عال مربع الشكل طول جبهته نحو ثلاثين مترا، وفي وسطه مدخل المزار، وفي كل من جانبيه (ليوانان) لجلوس الزائرين. وتفتح الباب على مصلى يحيط بغرفة القبر من جميع الجوانب. اما غرفة القبر فعليها قبة عالية مكسوة بالقاشان الازرق، وفي وسطها صندوق خشبي ارتفاعه نحو مترين وعرضه ثلاثة امتار مصبوغ باللون الجوزي وارضه مبلطة بالموزائيك. وقد قام بتجديد (مقام السيد ادريس) علوان عيسى الكوزل (وهو من اهالي الكاظمية) على نفقته. ورأيت قيم المزار وهو (عبد الامير عيسى) فوجدته في السبعين من عمره يرتدي دشداشة وسترة وعلى رأسه (غترة يشماغ) ويتوكأعلى عصا. والجدير بالتنويه ان في ساحة المقبرة وخلف ضريح السيد ادريس غرفة مشيدة بالطابوق والجص اتخذت مغتسلا للموتى.
وفي تلك الساحة ايضا عدد من الاشجار وثماني عشرة نخلة. وقد قيل لي ان السيد ادريس كان سيدا شريفا بلغ من تدينه وتقواه حدا جعل الناس يتهافتون على كسب وده والتبرك به. ويقول الاستاذ يونس سعيد ان احد المؤلفين تنسم اخبار سير المتصوفة فأخبرني ان ادريسا هذا كان رئيسا للخياطين، فلما توفي اعتزم الخياطون الاستمرار على موالاته بزيارة قبره في كل سنة، فكانوا يحجون اليه وهم بكامل ملابسهم الجديدة المزركشة بما كانت تجري عليه سنن الازياء في ذلك الوقت، فتعقبهم الجمهور الى هذه الزيارة معجبين بوفائهم لامامهم وبزينة ملابسهم المتميزة عن سائر الازياء.