نقلا عن مؤسسة تراث الامام الحكيم
لقد اختلف المراقبون في تفسير ثورة الحسين (عليه السلام) وأهدافها ودوافعها الحقيقية اختلافاً كبيراً، فالأعداء فسّروها بتفسيرهم المعادي، ومن آمن بالحسين (عليه السلام) وبخطّه وبإمامته فسّروها بتفاسير أُخرى، ومن لم يؤمن بإمامته (عليه السلام) حاول أن يفسّرها بتفسير قد لا يكون عدائياً، ولكنّه فسّرها من وجهة نظره الضيّقة وفهمه للحياة ولدور الإمام (عليه السلام) فيها.
ونستعرض بشكل إجمالي بعض هذه النظريات لنتعرّف على أصحها(1)، وبالتالي نتعرّف على الدرس العملي الذي أراده الإمام الحسين (عليه السلام) من وراء هذه الثورة.
النظرية الأولى: الصراع القبلي
تفترض هذه النظرية أنّ حركة الحسين (عليه السلام) حركة قبليَّة (عشائرية) تعبّر عن الصراع المحتدم بين قبيلتين قرشيتين ـ بني هاشم وبني أميَّة ـ تصارعتا على السلطة والهيمنة قبل الإسلام، واستمرّ هذا الصراع إلى ما بعد الإسلام.
وقد تبنّى هذا التفسير أعداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي مقدمتهم يزيد بن معاوية (لعنه الله)، حيث ذكر المؤرخون وأرباب المقاتل أنَّ يزيد حينما بلغه مقتل الحسين ووُضِعَ الرأس الشريف بين يديه، جعل يضرب ثناياه، ثم تمثل بأبيات من الشعر يصوّر فيها أنَّ صراعه مع الحسين (عليه السلام) صراعاً قبليّاً، وأنه أدرك ثأر أسلافه بقتله للحسين (عليه السلام) حيث قال:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلوا فــرحا ثــم قالـوا يا يزيد لا تشل
قـد قتلنا القرم من ساداتكم وعـدلنـاه ببـدر فاعتـدل
لـعبت هاشم بالملك فـلاذ خبـر جـاء ولا وحي نزل
لسـت من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل2
كما يدلّل على تبنّي يزيد لهذه النظرية قوله ـ بعد قتل الحسين (عليه السلام) ـ: ((يوم بيوم بدر))(3).
وبعد ذلك سار على منواله بعض المؤرّخين الحاقدين، حتى انتهى الأمر إلى المستشرقين الذين حاولوا تفسير تأريخ المسلمين وإرغامهم بشكل وآخر على قبول هذا التفسير بأساليبهم وحيلهم وأضاليلهم الخبيثة، بل تعدّوا في التفسير القبلي لهذا الصراع إلى دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) للإسلام، فحاولوا أن يفسّروا الصراع بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي سفيان بأنه امتداد لذلك الصراع القبلي والعشائري.
ولكن لايمكن أن ينسجم هذا التفسير مع الحقائق التأريخية الثابتة، فالمتأمل في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ومن خلال مجموعة من الظواهر يجد أنّ قضيته (عليه السلام) لا يمكن أن تكون صراعاً بين قبيلتين.
فمن تلك الظواهر، ظاهرة أصحاب الحسين (عليه السلام)، فإنَّ نوعيتهم سواءً كانت من ناحية الانتماء القبلي أم القومي أم المذهبي، بل حتى من حيث المستوى الثقافي والوضع الاجتماعي، تختلف اختلافاً كبيراً بينهم فلا يمكن أن تجمع هؤلاء، أو توحّدهم قضية الصراع القبلي، فجون العبد الأسود، وحبيب بن مظاهر سيد عشيرة بني أسد العربية لا يمكن أن يوحّد بينهما قضية صراع عشائري، كما لا يمكن أن يوحّد بين كل أولئك الذين كانوا بالأمس أعداءً للحسين (عليه السلام)، كالحرّ بن يزيد الرياحي، وزهير بن القين وغيرهما(4) من الذين انضمّوا إلى معسكر الحسين (عليه السلام) أثناء المعركة عندما سمعوا حديثه واستغاثته، وبين من كان موالياً للإمام الحسين(عليه السلام) منذ اليوم الأول لنهضته.
فمن الذي جعل زهير بن القين يتحول من عثمانيته(5) ـ الذي يمثّل القطب المعارض تماماً لخط أهل البيت (عليهم السلام) وكان زهير بن القين إلى حين لقاء الحسين(عليه السلام) به يتبنّى هذا الخط؟!(6) ـ إلى جانب الحسين (عليه السلام) إذا كان الصراع بين الحسين(عليه السلام) ويزيد (لعنه الله) صراعاً قبليّاً، مع أنَّه ـ زهير ـ كان في جانب بني أميَّة ومن خطهم.
وكذلك موقف الحر بن يزيد الرياحي الذي كان إلى آخر لحظات المواجهة قائداً عسكريا يقود ربع جيش عمر بن سعد، ثم تحوَّل إلى جانب الحسين (عليه السلام)ليستشهد معه؛ بعد أن خيّر نفسه بين الجنّة والنار فاختار الجنَّة في اللحظة الأخيرة وحظى بالسعادة الأبديَّة(7).
فظاهرة أصحاب الحسين (عليه السلام) إذا تمت دراستها بتأمل وموضوعيَّة نجدها ترفض بشكل قاطع هذه النظرية، ولا يمكن افتراض بناءً على هذه الظاهرة أنّ الصراع كان عشائرياً، خصوصاً إذا عرفنا أنَّ أصحاب الحسين(عليه السلام) كانوا يعيشون الحقيقة بعقولهم كما كانوا يعيشونها بوجدانهم وضميرهم، وأنَّهم كانوا يعيشون الأوضاع السياسية والاجتماعية بكلّ ظروفها ومواصفاتها وجزئياتها؛ لأنَّهم قريبون منها وليس حالهم كحالنا، حيث ننظر إلى التأريخ من خلال هذا الفاصل الزمني الكبير.
فهذه النظرية مرفوضة ولا يمكن الأخذ بها، بل هي نظرية معادية، حيث إنّ الأعداء دائماً يحاولون تفسير أيّ تحرّك يقوم على الحقّ بإعطائه بعداً ضيقاً من قبيل البعد القبلي أو العنصري؛ لكي يحجّموا الحقّ ويقفوا في وجهه.
النظرية الثانية: الصراع على السلطة
تفترض هذه النظرية: أنّ الحسين (عليه السلام) إمام معصوم مفترض الطاعة منصّباً من قبل الله سبحانه تعالى، فهو أحقّ بالحكم من غيره، وقد وجد يزيد إنساناً ضعيفاً في الحكم لا يملك القاعدة السياسية التي كان يملكها معاوية بدهائه وخبرته، وأنّ يزيد كان معروفاً بمجونه وتمرده على الإسلام وتجاهره بالفسق، وأنَّه يعيش العزلة والبعد عن المجتمع الإسلامي، ولذا رأى الحسين (عليه السلام) أن من واجبه السعي إلى السلطة؛ من أجل أقامة حكم الإسلام العادل وإرجاع الحق إلى نصابه.
إذن، فصراع الحسين (عليه السلام) مع يزيد أنما هو صراع على السلطة، ولكن لا من أجل الهيمنة والتسلُّط فحسب، وإنما من أجل إحقاق الحقّ وإقامة العدل الإلهي، ولكن لم تسنح له الظروف لتحقيق هذا الهدف رغم أنَّ أهل الكوفة أرسلوا له آلاف الكتب ووعدوه بالنصرة والوقوف إلى جانبه، غير أنّهم خذلوه في اللحظة الأخيرة، وإذا به يجد نفسه وحيداً فريداً غريباً الأمر الذي أدّى به إلى النهاية المأساوية المعروفة، فلو كان يعلم أنَّه لا يمكن له أن يحقق هدفه لجلس في بيته كما جلس أخوه الحسن (عليه السلام)، وقبله أبوه علي (عليه السلام) مدة طويلة حتى تهيّأت له الظروف المناسبة.
وهذا التفسير يذكره الكثير من المؤرّخين، وهو المتبادر إلى أذهان الكثير من الناس، فالحسين (عليه السلام) باعتباره الأحقّ بهذا المنصب، فمن الطبيعي أن يسعى إليه باعتبار المسؤولية الدينية التي يشعر بها تجاه إقامة الحكم الإلهي في الأرض، وقد سعى بجدّ وتخطيط لتحقيق هذا الهدف السامي لا حبَّاً بالسلطان، وإنَما لإقامة العدل الإلهي، ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى هذا الهدف لا لضعف في قيادته، وإنما لتخاذل الناس عنه، وهذا ما حدث بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث سعى لهذا الأمر واستلم الخلافة، ولكنه لم يستمر بسبب استشهاده على يد ابن ملجم.
ولكن هذا التفسير أو النظرية لا نقبلها أيضاً؛ لأننا نرى أنّ هدف الإمام الحسين (عليه السلام) من وراء حركته لم يكن الوصول إلى السلطة، لا بسبب أنَّ السعي إلى الخلافة أو السلطة وإلى الحكم الإسلامي وإقامة العدل والقسط بين الناس سعي غير مشروع، أو أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يكن مسؤولاً عن ذلك، بل إنَّ هذا السعي كان سعياً مشروعاً، بل هو واجب آلهي، وأنَّ الحسين (عليه السلام) وكل إنسان سائر في خطه يجب عليه أن يسير في هذا الطريق، وأن يعمل من أجل تحقيق حكم الله وإقامة العدل الإلهي في الأرض، والإمام الحسين (عليه السلام) مسؤول عن هذا الأمر إذا تحققت شروطه الموضوعية، وهذا من الأمور الواضحة وليست مورد نقاش وشك، ولكن مع ذلك نرى أنّ الحسين (عليه السلام) لم يكن هدفه من وراء نهضته ذلك؛ لأنه كان يعرف النتيجة التي سوف يصل إليها، وأنّه لا يتمكّن من تحقيق ذلك الهدف بسبب إدراكه لطبيعة الظروف السياسية والنفسية والاجتماعية للأمة، وكان هذا الأمر واضحا له (عليه السلام)، فمع معرفته بذلك لا يمكن أن نفترض أنَّ الهدف من وراء حركته وثورته هو الوصول إلى السلطة؛ لأنَّ معنى ذلك أنَّ الحسين (عليه السلام) كان يسعى إلى هدف غير واقعي ويكون عمله حينئذٍ انتحاريا، وهذا لا ينسجم مع شخصيته (عليه السلام) وتجاربه السياسية والاجتماعية، كما لا ينسجم مع فرضيّة إمامته.
إذن، نحن نرفض هذه الفكرة التي تبنّاها أصحاب هذا التفسير؛ لأنَّ الحسين (عليه السلام) كان يعرف من أول الأمر أنه لا يصل إلى تحقيق وإقامة الحكم الإسلامي، ومع ذلك تحرّك لأنّ هدفه ليس الوصول إلى السلطة.
ويمكن معرفة هذه الحقيقة من خلال عدة أمور عند مراجعة تأريخ حركة الحسين(عليه السلام) بشكلٍ واضح:
الأمر الأول: إنّ العقلاء من خُلَّص أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، أو من غيرهم من أصحاب الرأي وممن لهم معرفة بالأوضاع السياسية في ذلك الزمان كانوا متفقين على أنّ الإطاحة بحكم يزيد لا يمكن أن يتحقق للإمام الحسين (عليه السلام)، فمثلاً عبد الله بن العبّاس الذي يعتبر من حكماء العرب، بحيث إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) اختاره مندوباً عنه في قضية التحكيم في صفين(8)، كان ينصح الحسين(عليه السلام) بعدم التوجه إلى الكوفة، لأنَّ أهلها سيخذلونه في النهاية، وهكذا كان موقف محمد بن الحنفية، وعبد الله بن جعفر، وجماعة أخرى ممَّن يحبّون الحسين ويخلصون له.
وقد جاءت نهاية المأساة متطابقة مع ما ذكره هؤلاء المخلصون والمحبّون للإمام الحسين (عليه السلام) ويمثّل الحقيقة بعينها.
وعلى هذا لا يمكن افتراض أن الحسين (عليه السلام) ـ الذي هو وريث محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن (عليهما السلام)، وقد عاش مختلف الظروف والتحولات السياسية والتأريخية ـ غير مدرك لهذه الحقيقة التي أدركها أمثال أولئك المخلصين، فهل من المعقول أن يكون أولئك الصحابة قد توصلوا إلى هذه الحقيقة وأدركوا هذا الأمر وبقى هذا الأمر بعيداً عن حسابات الحسين (عليه السلام) وتوقعاته؟! وهل كان الحسين (عليه السلام) يتصوَّر ـ نتيجةً لرسائل أهل الكوفة ولإصرارهم وإلحاحهم عليه بالثورة ـ أنَّه يتمكن أن يصل إلى هذا الهدف الخاص مع إجماع كل أُولئِك على خلاف ذلك؟!
الأمر الثاني: موقف الحسين (عليه السلام) وإصراره على المضي في طريقه، حتى بعد تدهور الوضع السياسي في الكوفة وتوارد الأنباء عليه بمقتل مسلم بن عقيل ورسوله مسهر بن قيس الصيداوي وغيرهما، وقد كانت تُقدَّم له النصائح بالرجوع عن قصده ومع ذلك كان يصرّ على الاستمرار في الحركة ويترك للآخرين أن يختاروا مصاحبته أو تركهم له.
الأمر الثالث: وهو أوضح من الأوليّن في رفض هذا التفسير، وهو النصوص التي وردت عن الإمام الحسين (عليه السلام) التي تؤكد أنَّه كان على علمٍ واطلاع بمصيره ومصير أهل بيته وبالنتيجة المأساوية وتفاصيلها.
فقد ورد على لسان الحسين (عليه السلام) خلال مسيرته نحو كربلاء في عدّة مواضع من أنَّ مصيره سيكون القتل والعطش هو وأهل بيته وأطفاله وعياله.
كقوله (عليه السلام) في كتابه لبني هاشم لما توجه إلى العراق: «بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى بني هاشم: أما بعد فانَّه من لحق بيَّ استشهد، ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح والسلام»(9).
وقوله (عليه السلام) لما عزم على الخروج من مكة قاصدا الكوفة قبل أن ينكشف له أي شيء عن أهل الكوفة، وكانت الكتب والرسائل تتوارد عليه منهم بالمئات، وأكَّدها سفيره وابن عمه مسلم بن عقيل (عليه السلام): «...خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأنَّي بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأنَّ مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم...»10.
وقوله لأخيه محمد بن الحنفية: «أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعدما فارقتك فقال: يا حسين اخرج فإنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلا... »(11).
وقوله (عليه السلام) لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: «...إنّي رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، ولست بمخبرٍ بها أحداً حتى ألاقي عملي»(12).
وقوله لأم سلمة: «...يا أماه والله إنَي لمقتول، وإنَي لا أفرّ من القدر والمقدور، والقضاء المحتوم، والأمر الواجب من الله تعالى، فقالت: واعجباه فأين تذهب وأنت مقتول؟! فقال: يا أمّه إن لم أذهب اليوم ذهبت غداً، وإن لم أذهب غداً لذهبت بعد غد، وما من الموت ـ والله يا أمّه ـ بدّ، وإنّي لأعرف اليوم والموضع الذي أقتل فيه، والساعة التي أقتل فيها، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك وأنظر إليها كما أنظر إليك... »(13).
إلى غير ذلك من تصريحاته (عليه السلام)، ومضافا إلى ذلك أنّ هناك الكثير من الروايات عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) وعن الزهراء (عليها السلام) تؤكّد وقوع هذه المأساة(14).
إذن، فنحن عندما نلاحظ موقف الإمام الحسين (عليه السلام) ومسيرته نرى أنه (عليه السلام) كان متأكداً من هذه النتيجة، والمتأكد من هذه النتيجة لا يمكن أن يخطر في ذهنه أنه سيصل إلى الحكم. فكل هذه الأمور تؤكد بطلان النظرية المتقدمة.
النظرية الثالثة: العامل الأخلاقي
هناك تفسير آخر يعتمد على افتراض أنَّ ثورة الحسين (عليه السلام) ونهضته كانت بدوافع أخلاقية ذاتية تنطلق من العوامل النفسية والأخلاقية الإسلامية العربية التي كان يتمثّل بها الحسين (عليه السلام)، فيقال في توضيح ذلك: إنّ الحسين (عليه السلام) كان أبيّ الضيم، وإنساناً شريفاً وعزيزاً وكريماً، وهو ابن البيت المجيد، ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وابن علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، الذي لا يمكن أن يخضع لإنسان وضيع، ملحد، فاسق، فاجر، إلى غير ذلك من الصفات التي كان يتَّصف بها يزيد.
إذن، فأخلاقية الحسين (عليه السلام) وصفاته النفسية العالية كانت تأبى عليه مبايعة يزيد ووضع يده بيده، وقد عبَّر عن ذلك في عدَّة مواطن كقوله: «لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ لكم فرار العبيد».
وقوله لوالي المدينة: «أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله..»(15).
وقوله في خطبته الثانية يوم الطف وهو يعبّأ أصحابه للقتال: «... ألا وأنَّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتيّن السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وحجور طهرت ونفوس أبيّة وأنوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...».
إلى غير ذلك من كلماته وتصريحاته التي قد تدعم هذا التفسير، وتوجد عشرات الآلاف من الأدبيات الحسينية التي تنسجم مع هذا التفسير.
إنّ التفسير المذكور وإن كان يشكل جزءاً مهماً من حركة الحسين (عليه السلام)، حيث إن من أهدافه (عليه السلام) رفض الضيم والذل والخضوع للظالم، إلاّ أنها لايمكن أن تكون هي التفسير الكامل لهذه الحركة، وبالتالي فلايمكن أن يمثل هذا التفسير نظرية هذه الثورة وتفسيراً لكل تفاصيلها وبجميع أبعادها؛ وذلك لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ـ كإمام يتحمَّل مسؤوليات تجاه الأمة الإسلامية ـ لاينطلق في تحركه من المشاعر الخاصة والعواطف أو الأحاسيس الأخلاقية الذاتية فحسب، بل ينطلق أيضاً من المصالح الإسلامية العليا للدين، والواجبات والمسؤوليات العامة للأمة حتى لو كانت على حساب العواطف والأحاسيس النبيلة والأخلاق الإسلامية الذاتية الخاصة.
ولذا فقد يفرض على الإمام الحسين (عليه السلام) أحياناً أن يقف موقفاً يتَّسم بالتنازل من أجل مصلحة إسلامية أكبر وأعظم، كما وقف الإمام الحسن (عليه السلام) في الهدنة مع معاوية على خلاف ميوله (عليه السلام) وعواطفه النبيلة، وحينئذ لايمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ أن نفترض أنَّ أخلاقيَّة الإمام الحسن (عليه السلام) تختلف عن أخلاقيَّة الإمام الحسين (عليه السلام) بحيث يرضى أحدهما بالضيم والذل والأخر لايرضى بهما، ويؤكد ذلك قول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(16)، أي أنَّهما متساويان من حيث الإمامة، وقد تربَّيا في بيت واحد وحجر واحد ومن أم واحدة وأب وجدّ واحد، وعاشا (عليهما السلام) جنباً إلى جنب ينهلان من هذا البيت الطاهر، فهما لا يختلفان في شيء من الأشياء النفسية والأخلاقية والاجتماعية.
إذن، افتراض أنَّ حركة الحسين (عليه السلام) كانت منطلقة من قضية أخلاقية ذاتية فردية، تضعنا أمام تساؤل ـ لا جواب له ـ وهو: لماذا وجدت هذه الأخلاقية في الإمام الحسين (عليه السلام) ولم توجد في الإمام الحسن (عليه السلام) مع أنَّهما متساويان من حيث الإمامة، ومن حيث الأخلاقية والمستوى الاجتماعي والنسب والإنتماء العائلي، ومن حيث التربية وكل الخصوصيات الأخرى؟!
إذن، فالثورة الحسينية في الحقيقة ليست ثورة رفض ظلم وذل فقط، وإن كانت هذه المعاني عزيزة على الإنسان إلّا أنَّها ليست كلَّ شيءٍ في حياته، فالإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: «الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من ركوب النار» يريد بيان أنَّ الفرد الإنساني إذا تُرك له الخيار بين الموت وركوب العار، فالموت أهون وأقل شأناً من العار، ولكن لدى الإنسان هدف أعلى وأسمى من الموت، ومن الكرامة الذاتية، وهو رضا الله سبحانه وتعالى والدخول إلى الجنة، وفي سبيل ذلك يتحمَّل الإنسان ذو الأخلاقية الإنسانية العالية هذا العار في سبيل أن يكسب رضا الله سبحانه وتعالى، وفي سبيل الموقف الصحيح الذي يخدم به الإسلام(17).
التصور الإسلامي تجاه الضيم
إنَّ الإسلام يفرض على الإنسان أن يكون عزيزاً وكريماً في حياته كما دلَّت الآيات الكريمة على ذلك مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(18).
أو ما يفهم من موضوع الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم، وكذلك الآيات التي تشير إلى صفات المؤمنين بأنَّهم: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(19)، أو التي تقول: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}(20)، أو الأحاديث التي تؤكد أنَّ المؤمن لم يأذن الله تعالى له أن يذلَّ نفسه، أو التي تقول: «لاتكن عبدَ غيرك وقد جعلك الله حرّاً..»(21) فإنَّ كل ذلك يؤكد هذه الحقيقة.
ومن هنا أصبح الذل والضيم أشد على الإنسان من الموت نفسه، وصح للإنسان أن يجاهد ويقاتل من أجل الخلاص منهما والدفاع عن النفس.
إن الذل والضيم الذي يواجهه الإنسان على نوعين:
الأول: الذل والضيم الشخصي.
الثاني: الذل والضيم الاجتماعي الذي يتعرض له المجتمع بجميع مقوماته وأبعاده.
والنوع الثاني هو الأشد والأولى في المقاومة والمواجهة، وهو الذي يمارسه الطغاة والجبابرة تجاه المجتمعات الإنسانية.
ومن هنا دعا الإسلام والقرآن لمواجهة الذل والضيم، الذي يعبّر عنه بالظلم حينما يتعرّض المجتمع إلى ذلك، كما في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}(22)وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(23).
وبذلك أصبح رفض الظلم والضيم مبدأً أخلاقيَّاً رفيعاً وعالياً، وفي هذا المجال يجب الالتفات إلى نقطتين مهمتين لهما تأثير في فهم هذا المبدأ الأخلاقي ونتائجه وآثاره:
الأولى: إنّ َالإسلام ينظر إلى الحياة على أساس أنَّها طويلة وممتدة، وإنَّ الأصل فيها هي الحياة الأخروية، وإنَّ الذل الحقيقي هو الذي يواجهه الإنسان في الحياة الآخرة عندما يخرج عن طاعة الله تعالى في الحياة الدنيا.
ومن هنا أصبح رضا الله سبحانه وتعالى مقدَّماً على كلّ شيءٍ في هذه الحياة، وأن العبودية لله تعالى هي أفضل ألوان العزَّة والكرامة: «كفى بي عزَّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربَّاً»(24) وتصبح الذلَّة للمؤمنين وللوالدين والتواضع لهم من أفضل الأعمال والصفات؛ لأنَّها توجب رضا الله تعالى وتحقّق المصالح العليا في تماسك المجتمع، وكذلك الطاعة والتسليم لأولياء الأمور الشرعيين وللحكم والقضاء الشرعي: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(25).
وبهذا تختلف النظرة الإسلامية لهذا المبدأ عن النظرة الجاهلية، التي كانت تنظر إلى قضية الذل والضيم من زاوية الحميَّة الشخصية أو العائلية أو القبلية فقط.
الثانية: لابد من التمييز بين الذل والضيم الفردي، وبين الذل والضيم الاجتماعي بالنسبة إلى الأفراد الذين يتحمَّلون مسؤوليات اجتماعية كالأنبياء والأوصياء والأئمَّة الأطهار، أو أولياء الأمور من المؤمنين كالقادة والعلماء وغيرهم حسب اختلاف مراتبهم، فإنَّ هؤلاء لابّد لهم أن ينظروا إلى هذا المبدأ الأخلاقي من خلال مسؤولياتهم والحالة الاجتماعية العامة، لا من خلال أوضاعهم الفردية الشخصية الخاصة فإنَّ مسؤوليتهم ـ بالأصل ـ ترتبط بالجانب العام للمجتمع.
ولذا فقد يكون من الواجب على احدهم أن يتحمَّل بعض ألوان الذل والضيم لتحقيق مصالح إسلامية ذات بُعد اجتماعي عام مرتبط بالأمَّة أو العقيدة أو ذات مستوى عالٍ يضرُّ بمصالح المجتمع الكليَّة، وبهذا الصدد يمكن أن نفهم الموقف الذي وقفه الإمام علي (عليه السلام) حينما يقول: «ووالله لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصّة»(26)، أو موقف الإمام الحسن (عليه السلام) الذي أراد أن يحفظ قوة المجتمع الإسلامي من ناحية، واستمرار وجود الجماعة الصالحة من ناحية أخرى، وكشف الحقيقة للإدعاء الأموي من ناحية ثالثة، فتحمَّل شخصيَّاً هذا اللون من الأذى.
وعندما تطوَّرت الأوضاع في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) وأصبحت ممارسة الإذلال منهجاً لحكم (يزيد) تجاه المسلمين، وأدرك المسلمون ذلك، وأخذ الحكم ينظر إلى الجماعة الإسلامية والأموال الإسلامية على أنَّها ملك يده يتصرف بها كيف يشاء، وقد كشف يزيد عن هذه الحقيقة عملياً بموقفه عندما أخذ البيعة من أهل المدينة المنورة بعد عام من مقتل الحسين (عليه السلام) في واقعة الحرة على أنهم عبيد أرقاء ليزيد(27)، فعندما تصبح الأوضاع بهذا الشكل وتصل إلى هذا المستوى، يكون الموقف له منحاً واتجاها آخر.
وبذلك يمكن أن نعرف أن حركة الإمام الحسين (عليه السلام) وان كانت ذات منطلق أخلاقي أيضا، ولكنها ليست منطلقة من مبدأ الأخلاقية الذاتية، وليست هذه الأخلاقية هي مجرد رفض الظلم والضيم، بل إلى جانب ذلك شيء آخر مهم يرتبط بمصالح الأمة والإسلام.
إذن، فالنظرية التي تقول: بان الحسين إنسان عربي، من بيت شريف عظيم، وذو أخلاقية عالية تفرض عليه رفض الظلم والذل، وبالتالي تفرض عليه التضحية بكلِّ غال ونفيس، وقد ثار فعلاً وضحّى بنفسه وأهل بيته وأطفاله وأصحابه، وعرَّضهم للخطر من أجل هذا الإحساس مرفوضة، وأن كان الحسين (عليه السلام) يتصف بكل هذه الصفات الحميدة وقد يتعرض للموت من أجل رفض الذل، لكن حركته هذه لم تكن لهذا الهدف فحسب كما تقدم.
النظرية الرابعة: النظرية الغيبية
تنطلق هذه النظرية في تفسير ثورة الحسين (عليه السلام) من العنصر الغيبي فتقول: إنّ الحسين (عليه السلام) إمام معصوم، والله سبحانه وتعالى كتب عليه في عالم الذر أن يموت في كربلاء بهذا الوضع المأساوي المعيَّن، وبالطريقة التي يشرحها أرباب المقاتل.
وإنَّ الإنسان العادي لا يمكن أن يعرف حكمة هذا السرّ الغيبي والقرار الإلهي؛ لأنه من أسرار الله سبحانه تعالى، وبالتالي فلا يمكننا السير في خط الحسين (عليه السلام)، أو التأسي بثورته والإقتداء بمنهجها ومضمونها وآثارها؛ لأنَّ هذه المسألة مسألة فريدة ومرتبطة بالله سبحانه وتعالى، بشّر بها الأنبياء، كما بشّر بها النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام).
مضافاً إلى كلمات الحسين (عليه السلام) وتصريحه في مواطن عدَّة بهذه النهاية المأساوية المفروضة عليه من الغيب.
إذن، فالقضية هي أمر آلهي خاص بالحسين (عليه السلام) يجب أن يُنفّذ بطريقة معيّنة.
ثمَّ جاء بعد ذلك موالوه وشيعته فأقاموا مجالس العزاء النافعة، فمنهم من يبكي، ومنهم من يبذل الطعام والشراب، ومنهم من يصعد المنابر للتحدّث عنه (عليه السلام)وعن أهل البيت (عليهم السلام) وعقائدهم وأخلاقهم ويثيرون، العواطف، ويستدرّون الدموع وما يعقب ذلك من الاجر والثواب، وبالتالي فهم يستفيدون ويفيدون الناس.
ونحن هنا لانريد أن نشكّك في حقيقة الأجر والثواب المترتّب على التفاعل مع مأساة الحسين (عليه السلام) خصوصاً في المجالس، والبكاء، والزيارة، وبذل الطعام، بل لا يمكن التشكيك بعد صدور عشرات الروايات عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) في الثواب المترتّب على مثل هذه الأعمال(28)، إلّا أنَّ ما نعنيه هو أنَّ هذه النظرية تريد أن تحوّل قضية الحسين(عليه السلام)بأكملها إلى هذه الأمور المستحبة، وتُرجعها إلى أمر غيبي مجهول دون أن يكون لها صلة بحياتنا وواقعنا السياسي والاجتماعي.
إن هذه النظرية مرفوضة لا لأننا نرى أن هذه المظاهر والشعائر لا تمثل شيئاً من الحسين (عليه السلام)، أو أننا نشكّك في حقيقة الأجر والثواب المترتّب على التفاعل مع مأساة الحسين (عليه السلام) خصوصاً في المجالس والبكاء والزيارة وبذل الطعام، بل إنَّ المظاهر والشعائر الصحيحة هي جزء من قضية الحسين، ولها أهمية في تحقيق أهداف ثورته (عليه السلام)، ولابدّ من التأكيد عليها، لأن هذه المظاهر والمجالس والأعمال هي أدوار حقيقية تعبّر عن شيء آخر حقيقي يمكن أن نسير على طريقه وعلى ضوئه ونقتدي به ونستضيء بهداه.
نعم، لو قال الله سبحانه وتعالى في شأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): إنّ هؤلاء لهم أحكام وأدوار خاصة، ولهم حياة وممارسات خاصة بهم، وأنَّهم عندما يقومون بعمل لايعنيكم أمرهم وعملهم، كان من الممكن في هذه الحالة تعقّل هذه النظرية، فنقول عندئذ إنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) مكلّفون بتكليف معيَّن ولهم دور معيَّن، وهذا الدور المعيَّن قام به هذا الإنسان الذي اختاره الله له، والله أعلم بهذا الدور، وبالسر الذي يكمن وراءه.
ولكن الصحيح عكس ذلك، فإنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) جعلهم الله سبحانه تعالى قدوة للمسلمين، كما ورد على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله): «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»(29). وأنَّ أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أكَّدوا على قضية الحسين (عليه السلام) وألفتوا إليها الأنظار في مختلف المناسبات، كما أكَّدوا دائماً على أهداف الحسين وأسباب نهضته والمظلوميَّة التي تعرَّض لها هو وأهل بيته، وعلى إدانة الحكم الأموي في نهجه وأهدافه وغاياته وأساليبه، وعلى ضرورة الأخذ بثأره، بل إنَّ أحد الأهداف الرئيسية لظهور مهدي أهل البيت الحجة المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) هو الأخذ بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) وتحقيق العدل الإلهي.
فهم أرادوا لها أن تكون قضيَّة مركزية في أوساط أتباع أهل البيت ليؤشروا بها إلى طريقهم ومنهجهم، ويؤكّد ذلك بقاء هذه النهضة حيَّة في تأريخ التشيُّع إلى يومنا هذا.
إذن، فما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) لايُراد منه أن يكون مختصاً به شخصيَّاً، وأن يكون سرَّاً لا يفهمه إلّا الله سبحانه والراسخون في العلم دون أن يكون للناس علاقة به، بل يراد من هذه النهضة أن يتأسّى بها الناس ويسيروا على ضوئها وهداها ويلتزموا بمنهجها ويتفاعلوا معها، كما أنها منطلقة من رؤية وفهم للإسلام والواجبات الإسلامية، وبالتالي فلابدَّ لنا أن نفهم التفسير الصحيح لها ونتعرَّف عليه، حتى يمكن أن نحقّق من خلال ذلك أهداف الحسين (عليه السلام) وغاياته.
وعندما نرفض التفسير الغيبي لا نريد من ذلك ـ كما قد يفهم البعض ـ أنّ قضية الحسين (عليه السلام) ليست مورداً للعناية الإلهية، بل إنَّ نهضته (عليه السلام)أُطروحة إلهية موضوعة من قبل الله تعالى ومصمَّمة على يد رسوله (صلى الله عليه وآله) ونفّذها إمام من الأئمَّة المعصومين الذين لا يعرفون إلا حكم الله، والله سبحانه وتعالى ـ في علمه الذي يحيط بكلِّ شيء ـ عندما وضع هذه الأطروحة للأمَّة أراد من ذلك خير الناس وخير البشرية، وأراد من المؤمنين والناس جميعاً الإقتداء بها، كما هو الحال والشأن في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم كتاب الله، وهو منزّل من قبله تعالى عن طريق وحيه، ولكن لا يراد من هذا الوحي أن يكون معلّقاً بين الأرض والسماء يمجّده الناس ويقدِّسونه فحسب، وإنما أريد به أن يكون هادياً للبشرية، تسير على تعاليمه وعلى منهجه، فكذلك الأمر بالنسبة لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وثورته. وقد فهم هذا التفسير الرسالي المسلمون بوجدانهم في الأدوار والعصور المختلفة وتفاعلوا معه، ولكن بعضهم فهمه بشكل تفصيلي، وبعضهم الآخر فهمه بشكل إجمالي، أي: تفاعلت ضمائرهم مع هذه القضية وساروا على هديها، ولو لم يعرفوا بالضبط الأهداف الخاصة التي كانت وراء حركة الحسين (عليه السلام) ووراء نهضته.
النظرية الخامسة: ثورة الحسين هزة ضمير
تقوم هذه النظرية على أن ثورة الحسين (عليه السلام) كانت من أجل تثبيت الموقف الشرعي والحكم الإسلامي تجاه ظاهرة الطغيان اليزيدي، والحكم الكسروي الجديد الذي جسّده هذا الحاكم المستهتر بالقيم والشعائر الإسلامية، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى المحافظة على وجود الرسالة الإسلامية واستمرارها من خلال تثبيت هذا الموقف، وما يمكن أن يحدث عنه من تفاعلات في الأمَّة.
ومن ناحية ثالثة إيقاظ ضمير الأمَّة وهزّ مشاعرها وأحاسيسها وتحريك وجدانها، من أجل العمل على مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة في حياتها.
فالدوافع الحقيقية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت ترتبط بهدف له أبعاد ثلاثة:
+ بُعد يرتبط بفهم الرسالة الإسلامية، وذلك بتوضيح الموقف الشرعي تجاه الظاهرة الخطيرة.
+ وبُعد آخر يرتبط بحركة رسالة الإسلام المستقبلية.
+ وبُعد ثالث يرتبط بحركة الأمَّة الفعلية وأوضاعها السياسية والاجتماعية والنفسية.
لقد استهدف الإمام الحسين (عليه السلام) في مجمل حركته هذه الأبعاد والأهداف المترابطة فيما بينها، وقد تمكَّن (عليه السلام) بتضحيته الكبيرة، وبذله وعطائه الذي قدَّمه للإسلام، وبالتخطيط الرائع والتصميم المحكم والقوي من تحقيق هذه الأهداف العظيمة.
وبهذا التفسير لحركة (عليه السلام) الحسين وثورته يمكن أن نحتفظ بكرامة الحسين (عليه السلام) وعظمته، فإنَّ هذا الإنسان الذي قدَّم كل ذلك القدر الكبير من البذل والعطاء استطاع تحقيق أهدافه، بمعنى أن بذله وعطاءه لم يكن بلا هدف، بل كانت ثورته لها هدف، وقد نجحت وانتصرت في تحقيقه، بل هي فتح إلهي كما عبَّر عنها الحسين (عليه السلام) حينما قال: «ومن تخلَّف لم يبلغ الفتح»، ومن هنا نجد أن الحسين كان على بصيرة من أمره، ويؤكد هذه الحقيقة الدرجة العالية من العزم والتصميم والإصرار على تنفيذ هذه المهمَّة، ممَّا يدلّل على أنَّ الهدف الذي أراد تحقيقه من وراء هذه المهمة هدف عظيم وواضح، وفي الوقت نفسه لديه ثقة عالية بتحقيقه.
لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يمثّل الضمير الحي للأمَّة الإسلامية، والعقل الواعي والمدرك للأخطار التي تتهدَّدها وطبيعة المشاكل والظروف التي تحيط بها، وكان(عليه السلام) يدرك أنَّ في مقدمة هذه الأخطار خطر موت الضمير والوجدان لدى الأمة، والذي يتحوَّل بعد ذلك ـ عادة ـ من خلال الاستمرار والقبول بالأمر الواقع إلى نسيانها لدورها وفقدانها لخصوصيتها وتشويه الحقيقة والواقع، والتحوّل عن الصراط المستقيم إلى الانحراف والطغيان.
أهداف الثورة الحسينية
ومن أجل اتضاح الصورة بشكل أفضل سنتناول أهداف الثورة بشيء من التوضيح:
الهدف الأول: تحويل الموقف النظري إلى موقف عملي
أراد الحسين (عليه السلام) تحويل الموقف النظري للأُمَّة تجاه يزيد إلى موقف عملي، حيث كان (عليه السلام) يدرك أنَّ الناس يعرفون حقيقة يزيد وطغيانه واستهتاره العلني بالقيم والمثل والأحكام الإسلامية، فقد كان يلعب بالقردة والخنازير، ويشرب الخمر علناً، وكان فاسقاً فاجراً، وأنَّه ليس أهلاً للخلافة، وأنَّ معاوية فرض خلافته على المسلمين مع رفضهم واستنكارهم لها(30).
هذه الحقيقة كان يعرفها الناس، ولكن مع ذلك هم الذين قتلوا الحسين ووقفوا في الصف المعادي له، بل ظهروا وكأنهم أعدى أعدائه مع علمهم ـ أيضاً ـ بأنَّه على حق وأنَّه ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحقّ من يزيد بالخلافة، وأنه يقيم العدل والقسط بين الناس، ويحقّق لهم العزَّة والكرامة إن جاء إلى الحكم، بل إنَّ الكثير من هؤلاء قد حرَّضوا الحسين (عليه السلام) على الثورة، وكتبوا له، وتحرَّكوا في سبيل تحقيق هذا الهدف.
كلّ هذه الحقائق كان يعرفها ويدركها الناس، وقد أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في بعض خطبه، كخطبته في أصحاب الحر بن يزيد الرياحي حيث قال فيها: «أيها الناس، إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وأن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقُّ ممن غيَّر. وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم، أنَّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن أتممتم عليَّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، ولكم فيَّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، فالمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيَّعتم، ومن نكث فإنَّما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(31).
فهذه الحقائق كانت معروفة في أذهان الناس وعقولهم، وهم يعلمون أنهم أمام مأساة حلَّت بالمجتمع الإسلامي، وهي أن يأتي إنسان إلى دفة الحكم الإسلامي ويدّعي أنه خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومطبّق لأحكام الإسلام، وهو يقوم بخرق هذه الأحكام والاستهتار بها بشكل علني فظيع، ولكن الموقف العملي تجاهها لم يكن واضحاً عندهم، ولم يعرفوا ماذا يصنعون، ومتحيّرون في اتخاذ الموقف المناسب، ولذلك فمنهم من وقع تحت تأثير الشهوات والإغراءات والأموال والوعود، ومنهم من كان موقفه الاعتياد على سلوك الظلم والذل والخنوع والاستسلام للأمر الواقع، كما حدث بالنسبة لبني إسرائيل في زمن فرعون، ومنهم من تعرَّض إلى عمليات التضليل وغسيل الدماغ تحت شعار حرمة الخروج على السلطان مهما بغى وانحرف وتجبّر؛ لأنَّ ذلك شق لعصا المسلمين وخروج على الجماعة، وهناك ممَّن يدرك الحكم الشرعي ولكن كان يعتقد ضرورة توفّر القدرة على الحركة، بحيث تنتهي إلى الإطاحة بالحكم وتغييره، وبدون ذلك تصبح الحركة ـ بنظرهم ـ بدون هدف، إلى غير ذلك من العوامل الأخرى التي يطول ذكرها.
كل هذه العوامل كانت تُوجِد حالة من الانفصام والتمزّق في موقف الأمَّة العملي، فهي من ناحية تدرك حقيقة يزيد وحكمه وأنَّه إنسان خارج عن حكم الله والإسلام وليس أهلاً للخلافة، ومن ناحية أخرى تتردَّد في اتخاذ الموقف الذي يجب أن تتخذه وتسير عليه في مواجهة هذه الظاهرة.
ولهذا أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحوّل هذا الفهم النظري للموقف من حكم يزيد إلى موقف عملي ووظيفة شرعية واضحة يُبرّر لهم التحرك والعمل ويفك الحصار عن إرادتهم، وينهي حالة التردد والحيرة في موقفهم.
وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) الإنسان الأصلح للقيام بهذه المهمة، لما يتمتع به من مواصفات فريدة في عقول الناس وتأريخهم ووجدانهم ومشاعرهم، والوضوح في طبيعة انتساب موقفه إلى الشرع والإسلام؛ لأنّ َالإمام الحسين (عليه السلام) هو من أهل بيت النبوة وأقربهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأكثرهم حرصاً على الإسلام ومعرفة بأحكامه وإدراكاً لظروف الأمَّة وأوضاعها السياسية وأوسعهم ارتباطاً في أوساطها.
وهذا الأمر يمكن أن نلمسه بشكل واضح في وصيته الفريدة لأخيه محمد بن الحنفية عند خروجه من المدينة بعد رفضه لبيعة يزيد حيث جاء فيها: «هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب الى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا آله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عند الحق، وأنَّ الجنة والنار حق، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث مَن في القبور، وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب»(32).
ومن الواضح أنَّ تثبيت هذا الموقف الشرعي عملياً لا يكفي فيه إعلان الثورة أو بيان الحكم الشرعي ونشره بين الناس، بل يحتاج إلى موقف عملي يتَّسم بالبذل والعطاء والتضحية والفداء، ليكون واضحاً بيَّناً لا يمكن أن تستره الشبهات أو تشوَّهه الشكوك والاحتمالات، وقويَّاً لا تقف في وجهه الرغبات والشهوات ومحاولات التضليل.
الهدف الثاني: تحويل الإدراك العقلي إلى إدراك وجداني
إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام)لم يكتف بتثبيت الموقف الشرعي وتوضيحه عملياً من خلال موقفه الجهادي، بل اهتمَّ بشكل خاص أن يحوَّل الإدراك العقلي للأمَّة تجاه حكم يزيد وطغيانه إلى موقف وجداني يتَّسم بالشعور بالمسؤولية، وذلك من خلال نقل الصورة من العقل والذهن إلى القلب والوجدان، ولا يتم ذلك إلا من خلال إيقاظ ضمائر الناس وهزّ وجدانهم وتحريك مشاعرهم وأحاسيسهم.
فإنَّ ضمائر هؤلاء الناس كانت مخدّرة، أو تكاد أن تموت تدريجياً، فالإنسان قد يدرك بعقله أشياء كثيرة وصحيحة، ولكن موقفه ووجدانه وحركته قد تختلف عن ذلك الإدراك الصحيح، وكل إنسان في حياته العملية يتمكن أن يدرك هذا الواقع وهذا الانفصال والإنفصام، فمثلاً يدرك أنَّ شرب الخمر حرام ومضر بعقله وصحته، أو أنَّ الظلم قبيح، أو أنَّ الذل والاستسلام يؤدي إلى الفساد في الأرض، ولكن مع ذلك يرتكب أحيانا هذه الأعمال؛ لأنّ هناك ميولاً وشهوات، وهناك إرادة مفقودة أو أسباباً أُخرى تضغط عليه وتمنعه من الحركة.
لقد كان الناس في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) يعيشون هذه الحالة، فأراد (عليه السلام) من خلال حركته وثورته أن يقول للناس: إنّ الموقف العملي تجاه الظاهرة اليزيدية هو أن نموت وأن نستشهد ونبذل ونضحّي من أجل الخلاص، كما أراد أن يحرَّكهم لهذا البذل والعطاء.
وليس واجب التضحية والفداء لإيقاظ ضمير الأمة مختصا بالإنسان الكبير، بل يشمل الصغير أيضاً، كما أنَّه ليس مختصاً بالرجال دون النساء، ولا يختص القتال بالإنسان الذي له أصحاب وأنصار كثيرون، بل يجب حتى مع القلّة من الأصحاب والأنصار، فيجب على الإنسان أن يقاتل وأن يموت من أجل قضاياه العليا حتى يحيي الحكم الإسلامي ويحقق العدل الإلهي في الأرض.
فحينما يأتي على دفَّة الحكم إنسان مثل يزيد يستهتر بالإسلام والمسلمين، ويتصف بكل صفات الرذيلة، فيجب على الناس حينئذ أن يرفضوا هذا الوضع ويتحرَّكوا من أجل أن يحطّموا هذا الطاغوت، وهذا الشيء هو الذي أراده الحسين (عليه السلام) واستهدفه، ولم يستهدف الوصول إلى السلطة، لأنّه كان يعرف مصيره، ولكنه أراد(عليه السلام) أن يهزّ ضمائر الناس ووجدانهم لا من خلال المنطق والبرهان وحده، بل كان عليه أن يقدم دمه الغالي رخيصاً في سبيل هذا الهدف، وكان عليه أن يقتل ويذبح عطشاناً وبالطريقة المأساوية المعروفة التي شملت الشيوخ والغلمان والنساء والأطفال حتى تتحرَّك هذه الضمائر والقلوب والمشاعر.
لقد وجد الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ الطريق الوحيد لهزّ ضمائر الناس وتحريكهم هو أن يضع أمامهم هذه الملحمة التأريخية وهذه المأساة الإنسانية من أجل كشف الحقيقة لهم كشفاً وجدانيَّاً من خلال السلوك بأن يضحَّي ويبذل كل ما لديه من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل. ولم يكن هذا البذل من قبله (عليه السلام) بذلاً عشوائيَّاً، بل خطَّط ومهَّد له تخطيطاً عظيماً ورائعاً يصبُّ في هذا الهدف الكبير، ونرى معالم ذلك في كل خطواته وحتى النفس الأخير، وأنّ هذا التخطيط ضروري لمثل هذا البذل، إذ مجرد أن يتخذ الإنسان هذا الموقف لا يكفي لتحقيق هذه الهزّة، بل لابد من تغطية سياسية وإعلامية، وتخطيط دقيق ومحكم، وهذا ما فعله الإمام الحسين(عليه السلام) حيث خطّط في مواقف عديدة من أجل تحقيق هذه الهزة، وقد تحققت بالفعل، ففي السنة الثانية لملحمة كربلاء ثارت المدينة المنوّرة على يزيد فكانت المأساة الأخرى في واقعة الحرّة التي استباح فيها يزيد مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتل خيرة أبناء الأنصار(33)، ثم ثارت مكة بعد ذلك، وتتفاعل هذه الهزَّة في ضمير الأمَّة وتتوالى الثورات ويثور الثائرون ضد نظام بني أُميَّة حتى تمّ أسقاطه(34).
وبقيت ثورة الحسين (عليه السلام) ونهضته مشعلاً تحرّك الضمائر بشكل متواصل إلى يومنا هذا؛ لأنّ ثورته وحركته تذكّر الناس بالهدف السامي الذي من أجله ضحّى بنفسه وعياله، وبهذا يكون الإمام الحسين (عليه السلام) قد حقّق غرضه تحقيقاً كاملاً.
الهدف الثالث: حفظ الخط الإسلامي الأصيل من الانحراف
إن حفظ الخط الأصيل للإسلام هو الهدف الأسمى والأقصى الذي عمل من أجله الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام) وشاركوا الحسين في تحقيقه، فقد كان الإسلام في ذلك العصر مهدّداً بالتغيير والتحريف، كما حُرِّفت وشُوِّهت ديانات سماوية أُخرى.
ولايمكن القول: إنّ الإسلام لمّا كان دين الحقّ، ودين منزل من قِبَل الله سبحانه تعالى فلابد أن يبقى، وقد وعد الله تعالى ببقائه وحفظه في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}(35)، فإنَّ ذلك وأن كان حقاًً وصحيحاً إلّا أنَّ الوعد الإلهي إنَّما يتحقَّق من خلال السنن والنظام الذي يحكم حركة التأريخ، ومن خلال الأسباب والوسائل التي تؤثر في حركة الجماعة الإنسانية، وقد كان لهذا الدم الشريف الأثر الكبير في تحقيق هذا الوعد والمحافظة على الإسلام والخط الأصيل له بشكل خاص.
فإنّ الديانة اليهودية ديانة سماوية أيضاً جاء بها رسول مبعوث من قبل الله سبحانه تعالى وجاهد من أجل الحق والتوحيد وإقامة المجتمع الإنساني الصالح، ووصلت هذه الديانة إلى الحكم، ولكن بعد ذلك ونتيجة لتغيُّر الظروف ومجيء الطغاة والمحرِّفين انحرفت هذه الديانة عن مسارها الصحيح، بحيث إنّ الإنسان لو أراد ـ الآن ـ أن يبحث عن الدين والشريعة التي جاء بها موسى (عليه السلام) لما تمكن أن يتعرَّف على هذه الحقيقة؛ لأنّ معالم تلك الديانة قد ضاعت بشكل لا يتمكن حتى الإنسان الصادق مع ربّه أن يتوصّل إلى معرفتها.
وكذلك الديانة النصرانية مرَّت بمثل هذه المأساة أيضاً، فعيسى (عليه السلام) رسول من قِبَل الله تعالى ومن أولي العزم، وجاهد جهاداً عظيماً، وكان معه أصحاب آمنوا به وبثّوا ديانته، إلاّ أنها تعرّضت فيما بعد إلى التحريف نتيجة لحكم الطغاة والمنحرفين، بحيث لا يمكن لأي إنسان الآن على وجه الأرض مهما كان باحثاً وعالماً صادقاً أن يصل إلى حقيقة الديانة النصرانية التي جاء بها عيسى (عليه السلام).
أمّا الديانة الإسلامية فإنَّها تتميَّز عن هاتين الديانتين بأنَّ الحقيقة والذكر الإلهي فيها بقِيَ محفوظاً على مرّ العصور والأزمان.
صحيح، توجد بين المسلمين جماعات منحرفة عن الإسلام تعتقد باعتقادات تظن أنَّها هي الإسلام ولكنَّها بعيدة عنه، وفيها تغيير لبعض معالمه، إلّا أنَّ الإنسان لو كان صادقاً مع نفسه وأراد إدراك الحقيقة والتعرَّف على حقيقة الإسلام، فإنَّه يتمكن من الوصول إلى الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله).
ولكن كيف حصل هذا الأمر ؟ وما الذي أوصل لنا الإسلام مع الفاصل الزمني الطويل بيننا وبين مصدره؟ خصوصا وأنَّه تعرَّض أيضاً إلى محاولات تحريف واعتداءات كثير، ويمكن ملاحظة هذه المحاولات الكثيرة في مراجعة للتأريخ الإسلامي سواء في العصر الأول الذي حاول فيه المنافقون القيام بهذا الدور،أم في عصر الأمويين والعباسيين والحركات الأخرى المضادة.
إنَّ الشيء الذي كان له الأثر الكبير في المحافظة على الإسلام النقي هو دور أهل البيت (عليهم السلام) إلى جانب القرآن الكريم، وخصوصاً الدم الشريف الذي بذله الحسين (عليه السلام) في سبيل ذلك، وبقي نوراً هادياً للمسلمين ومؤشّراً على الانحرافات ومثيراً للأحاسيس والمشاعر ضدها والموقف العملي منها، بل إنَّ المحافظة على فهم القرآن فهماً صحيحاً كان بسبب الدور العظيم لأئمَّة أهل البيت ولدم الحسين (عليه السلام)، وقد أكَّد أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) على قضية الحسين(عليه السلام)؛ لأنَّهم كانوا يدركون هذا الدور العظيم لها.
وهناك أدلة قاطعة تؤكد وجود هذه الحقيقة حتى في أوساط أولئك الذين لا يلتزمون بإمامة الحسين والأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، ويرون فيه أنَّه من رجال الإسلام العظام، فالحقيقة عندما تنكشف للناس فإنَّها لا تختص بمذهب دون آخر، خصوصاً إذا كان عنوانها وشعارها شمولياً، والهزة الوجدانية تتفاعل مع الفطرة والأحاسيس الإنسانية إذا كانت منطلقة من الحاجات الإنسانية والوجدان الحي والفطرة النقية، مع قطع النظر عن متبنياتها المذهبية.
وصرخة الحق مدوَّية وقوية تصل إلى أعماق النفس البشرية والعقول المدركة والأسماع الواعية، ولا يمكن أن تحدّها الأغلال والقيود المصطنعة، فكيف إذا كانت هذه الحقيقة وهذه الهزَّة والصرخة مرتبطة بالنبي وعلي والزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام).
وهناك بعض الظواهر البارزة المؤشرة على تفاعل عامة المسلمين مع قضية الحسين (عليه السلام):
منها: ظاهرة اتفاق جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم بأنَّ الموقف الحسيني كان يمثل موقفاً إسلامياً شرعياً، وأنَّ يزيد كان مرتدّاً ومتمرِّدا على الإسلام والشرع والموازين الدينية.
وهذه الظاهرة ثابتة في التأريخ الإسلامي من خلال الاحترام والتقديس لهذا الموقف والدم الطاهر بالرغم من استمرار الحكم الأموي بعد يزيد لعشرات السنين وبشكل قوي وفعّال، وبالرغم من وجود بعض الروايات الموضوعة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) أو المتبنيات الفقهية لبعض الأدعياء.
ومنها: تحرّك المجتمع الإسلامي بعد نهضة الحسين(عليه السلام) بقوة لم تتمكن من السيطرة عليها أو مواجهتها جميع محاولات القمع الأموي حتى انتهى الأمر بالمسلمين أن يتمكنوا من إسقاط الحكم الأموي إلى الأبد.
ومنها: بقاء الرأي الفقهي الذي يربط أصل مشروعيَّة الحكم الإسلامي بالعلم والاجتهاد وانتخاب الأمّة أو النص من المعصومين بالرغم من أنَّ الحكم الإسلامي من الناحية الواقعية في القرون المتوالية له كان يتم بطريقة أخرى وعلى أساس الوراثة تقريباً، الأمر الذي يعني أنَّ هناك عاملا ًمهماً ومؤثراً في المجتمع الإسلامي كان قادراً على أن يحفظ هذه الرؤية الصحيحة للحكم الإسلامي، وهذا العامل لا يمكن أن يكون مجرَّد الفتاوى التي كان يصدرها الفقهاء؛ لأنَّهم تعرَّضوا للتحريف أيضا، وكانوا يخضعون في كثير من مواقفهم إلى الضغوط أو الإغراءات.
صحيح إنَّ بعض الآراء الفقهية تقبل نظرية التسليم والطاعة للحكم الجائر والمنحرف، إلّا أنَّ هذه الآراء أيضاً ـ فضلاً عن غيرها ـ بقيت تؤكد على أنَّ هذه الحالة استثنائية لمعالجة الموقف الشاذ.
ومنها: إنَّ جميع العصور الإسلامية لم تخلُ من المحولات البطولية التي كان يقوم بها الثوّار والمصلحون لمواجهة الظلم والانحراف الذي يصدر من الحكّام، وهذه المحاولات وإن كانت تستمد حيويتها من الفطرة الإنسانية، إلّا أنَّ الغطاء الشرعي والوقود الإنساني لها كان يتمثَّل بالثورة الحسينية.
وكانت هذه المحاولات ـ بالرغم من عمليات القمع ـ تسجّل انتصارات كبيرة على المستوى السياسي، ولكن انتصارها الأكبر أنَّما هو في الواقع الفكري والوجداني والثقافي والأخلاقي للأمَّة وفي استمرارها الواعي والمدرك للحقائق الإلهية.
لقد كان من الممكن أن تتغير كل معالم الإسلام بسبب الظروف القاسية التي تعرَّض لها المجتمع الإسلامي ويصلنا شيء آخر بعيد عن الإسلام تمام البعد ويتحول إلى صيغة مشوَّهة، كما نرى ذلك في بعض المذاهب الشاذة في الفقه الإسلامي، ولكن ببركة دم الإمام الحسين (عليه السلام) وببركة هذه الدفعة التي كان لها تأثير على كل الساحة الإسلامية والتأريخ الإسلامي بقي الإسلام محفوظاً من هذا الخطر العظيم، وكان محور هذه الحركة هو الخط الأصيل للإسلام، خط أهل البيت (عليهم السلام) الذي وصلنا ببركة هذا الدم الشريف.
هذا هو التفسير الصحيح للنهضة الحسينية والذي نراه منسجماً مع حركة الحسين (عليه السلام) منذ البداية وحتى استشهاده.