مرحبا
لم يتفق العلماء والباحثون العلميون على تعريف واحد للبحث العلمي، فهناك تعاريف عدة، لعل أبسطها أنه كل نشاط ذي منهج يهدف إلى إنتاج معارف جديدة ترتبط بفهم الإنسان للظواهر الطبيعية التي تحيط به، ويؤدي في النهاية إلى رفع قدرات الإنسان على التحكم في هذه الظواهر والسيطرة على الطبيعة.
وهكذا يتبين أن البحث العلمي يهدف إلى زيادة معرفة الإنسان ورفع قدرته على التكيف مع بيئته والسيطرة عليها واكتشاف الحلول للمشكلات التي تواجه المجتمعات والأفراد، وأنه ضروري لبناء دولة عصرية تتمتع بالرخاء. لذلك لابد من أن تكون البحوث التي تُنَفَّذ مرتبطة بخطة التنمية التي تضعها الدولة.
أنواع البحث العلمي
تصنف البحوث العلمية، نظرياً، في ثلاثة أصناف رئيسـية:
1 ـ البحوث البحتة (الأكاديمية): المهمة الأساسية لها هي القيام بتحقيق شامل ومعمق عن الطبيعة والمجتمع يؤدي إلى تكوين معارف جديدة تسهم في الإثراء العلمي، وتؤدي في النهاية إلى تحقيق تقدم تكنولوجي ومنافع اقتصادية. ومجالات هذا النوع من البحوث عادة الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها.
2 ـ البحوث التطبيقية: وهي تخدم خطة التنمية الاقتصادية.
3 ـ بحوث التطوير: وتهدف إلى نقل التكنولوجية المعاصرة وتطويعها لصالح البلد وتطوير تقانات محلية تناسـبه.
مستلزمات البحث العلمي وصعوباته
يحتاج البحث العلمي إلى مقومات، يمكن تلخيصـها في: الباحـث، وأداة البحـث (البنية التحتية)، والجو البحثي، والمُتَلَقّي أو المستفيد من البحث.
فالباحث يجب أن يكون مؤهلاً لإجراء البحوث العلمية. وتعد درجة الدكتوراه كافية لذلك، مع أن الكثير من الباحثين الناجحين لا يحملون هذه الدرجة العلمية.
ويتطلب البحث العلمي أدوات تتمثل بالأجهزة العلمية والأدوات اللازمة للعلوم البحتة والإنسانية والتطبيقية على حد سواء.
ولضخامة المعلومات التي تراكمت في كل اختصاص، صارت الحصيلة كبيرة تفوق طاقة أي فرد على حصرها والإحاطة بها. وهنا يأتي دور المكتبات: العادية والإلكترونية، التي توفر المعلومات المطلوبة للباحث عن طريق شبكات الاتصال بالمخازن الأخرى للمعلومات والمعطيات المتوافرة في أماكن بعيدة عن متناول الباحث. وقد صارت المعلوماتية في الوقت الحاضر العمود الفقري للبحوث العلمية وعاملاً مهماً في نجاح الباحثين في جهودهم.
أما التمويل فمن المسلم به أن المال هو الشرط الأساسي لتنمية العلم والبحث العلمي، ويجب أن يدرك صانعو القرار أن لابد من بذل المال لكي يتحقق ما تصبو إليه الدول من تقدم ورفعة.
ثم لا يمكن تحقيق أي تقدم علمي حقيقي من دون وضع سياسة عامة للبحث العلمي، وتحديد أهدافه ومحاوره وموضوعاته. ويجب أن تكون هذه الاستراتيجية واضحة لدى القطاعات المنتجة والخدمية، وتشير إلى الأثر الذي يمكن أن تسهم فيه البحوث العلمية المحلية في إيجاد الحلول المثلى للقضايا والمشكلات التي تعترض القطاعات الخاصة، مِن اعتمادها على الحلول الجاهزة المستوردة من الخارج. ومن هنا تأتي أهمية وجود هيئة خاصة تنظم البحث العلمي وتضع أسسه وتعمل على وضع الأولويات بما يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية.
البحث العلمي في الدول المتقدمة
يختلف تنظيم البحث العلمي وأساليب عمله في الدول المتقدمة من بلد إلى آخر. ومع الجهود المبذولة من قبل قيادة أوربة الموحدة، فإن التباين موجود بين الدول الأوربية. فمنها ما ابتعد كثيراً عن المركزية (مثل بريطانية)، ومنها وسط بين المركزية واللامركزية (مثل فرنسـة)، ومنها ما فضّل الإبقاء على مسـتوى لا بأس به من المركزية (مثل ألمانية).
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن القطاع الصناعي يضطلع بدور كبير في البحث العلمي والتطوير، ينفذ بنفسه نحو 73% من النشاط في هذا الميدان، في حين ينحصر أثر الحكومة الاتحادية بنحو 11% من النشاط، والجامعات والكليات والمعاهد بنحو 12%، وتنفذ المؤسسات غير الهادفة للربح البقية الباقية.
أما في اليابان وكورية فيبرز أثر الدولة جلياً في التنظيم والتنسيق. فقد ارتكز البحث العلمي في اليابان على تكييف التقانة الأجنبية، ليصير بالإمكان توظيفها لإيجاد سلسلة من الاختراعات المتطورة ذات المزايا الجديدة التي تنسجم وأحوال الاقتصاد الياباني، معتمدة في ذلك على آلية السوق في توجيه أنشطة البحث العلمي والتطوير.
كما تعد تجربة الهند جديرة بالاهتمام من بين تجارب الدول النامية، فقد سبقت غيرها من الدول النامية في تشييد البنية التحتية للمعرفة العلمية والتقانية وتطويرها، وذلك باستحداث وزارات ومجالس وهيئات ومؤسسات بحث علمية . إلا أن الدراسات تشير إلى أن نتائج البحث العلمي والتطوير في هذه الهيئات لم تجد طريقها للاستخدام في القطاع الصناعي على نطاق واسع، لأسباب كثيرة أهمها: الافتقار إلى المعلومات عن آلية عمل السوق، وضعف عملية تطبيق المبتكرات المتطورة تجارياً، وميل المنشآت الصناعية والهندسية ميلاً كبيراً إلى التقانات الأجنبية. ومن أسباب ذلك أيضاً الافتقار إلى الموارد المالية والتقانية اللازمة، وضعف الترابط بين مختبرات البحث والتطوير الحكومية وحقل الإنتاج، مما أبقى أغلب الشركات الإنتاجية، تدور في فلك التقانة الأجنبية.
البحث العلمي في البلدان العربية
تواجه البلدان العربية تحدياً حضارياً كبيراً في مجال البحث العلمي والتطوير. وتزداد ضغوط هذا التحدي يوماً بعد يوم مع ظهور النظام العالمي الجديد وانتشار وسائل الاتصال والمعلوماتية.
أدركت هذه الدول ذلك، فسعت إلى تأسيس مراكز وأجهزة تقوم برسم برامج البحوث العلمية والثقافية وتخطيطها وتنسيقها وتنفيذها. وتنوعت المراكز من حيث طبيعتها وارتباطها الإداري، فمنها ما اتسم باستقلالية إدارية ومالية، مثل مركز البحث العلمي الكويتي، والجمعية العلمية الملكية في الأردن، والمركز القومي للبحوث في مصر، ومركز الدراسات والبحوث في البحرين، ومنها ما هو تابع للوزارات أو المؤسسات أو الجامعات كما في سورية. جاوز عدد مؤسسات البحث العلمي وأجهزته في الدول العربية ثلاثمئة مركز، نصفها تقريباً مراكز مستقلة، وربعها تابع للوزارات والمؤسسات، والربع الباقي تابع للجامعات.
إن أهم المشروعات الإنمائية في البلدان العربية تعتمد على التقانات المستوردة، وتُستورد غالباً من دون توصية ذوي الاختصاص والعلماء الباحثين، وأحياناً كثيرة من دون استشارتهم، حتى سماع رأيهم بالبدائل المطروحة والأسس التي يُختار بموجبها. وإذا سلَّمنا بأن بعض البلدان العربية وضعت سياسات بحثية في مجالات كثيرة، فإنها تكون قصيرة الأجل، وإن وجدت هذه السياسات والخطط فإنها تكون غير شاملة ولا توضع دائماً موضع التنفيذ الفعلي ولا تحظى بالمتابعة والحزم الكافيين، وربما لا يجري في كثير من الأحيان تقويم نتائجها واستخلاص الدروس اللازمة منها وتوظيفها في الخطط اللاحقة.
إن معدلات العلماء والفنيين والعاملين في البحث والتطوير (لكل مليون) في البلدان العربية تقل كثيراً عن مثيلاتها في البلدان المتقدمة، إذ تصل نسبة العلماء المشتغلين بالبحوث والعلوم التطبيقية إلى 1.4% للعرب مقابل 36.6% للأوربيين، لكنها تتقارب مع مثيلاتها في البلدان النامية الكبرى التي حققت نجاحات ملحوظة في مجال التقدم العلمي والتقني كالصين والهند والباكستان وإيران. وهذا يعني أن البلدان العربية هذه صارت تملك القاعدة البشرية الأساسية من العلماء والفنيين، مما يؤهلها للانطلاق في مسيرة البحث العلمي، وعلى التغلب على جميع الصعوبات التي تعترض مسيرة التنمية فيها. ويبقى على هذه البلدان أن توظف هذه القاعدة العلمية البشرية في مجال البحث العلمي والتطوير التقني وفق سياسات وخطط محددة واضحة المعالم بهدف بناء حضارة خاصة بها.
ولكن لا يبدو هذا الأمر سهلاً وممكناً، لأن نسبة الإنفاق على البحث العلمي من الناتج الإجمالي في الدول العربية متدنية جداً مقارنة مع مثيلاتها في الدول المتقدمة أو إسرائيل. إن الناتج الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1997 بلغ 7690 مليار دولار، خصصت منه 2.9% للبحث العلمي، أي إنها أنفقت على البحث العلمي في ذلك العام ما يعادل 223 مليار دولار سنوياً. أما إسرائيل فكان ناتجها الإجمالي 87.6 مليار دولار في ذلك العام، أنفقت منه 3.1% على البحث العلمي، مما يعني أنها أنفقت على البحث العلمي في عام 1997 ما يعادل 2.716 مليار دولار سنوياً. أما الناتج الإجمالي لمصر في ذلك العام فقد بلغ 71.2 مليار دولار، أنفقت منه 0.4 % على البحث العلمي، أي ما يساوي 0.285 مليار دولار. أما سورية فقد بلغ ناتجها الإجمالي عام 1997 نحو17.1 مليار دولار ونسبة إنفاقها على البحث العلمي 0.1 %، أي إن مقدار ما أنفقته على البحث العلمي يساوي 0.017 مليار دولار سنوياً.
يمكن حل مشكلات البحث العلمي في الدول العربية بوضع سياسة عامة للبحث العلمي في كل بلد عربي، والتنسيق بين هذه السياسات، وذلك بإحداث هيئة علمية مركزية في كل دولة عربية، وهيئة عربية مركزية لتخطيط البحوث العربية المحلية والمشتركة وتنسيقها وإدارتها وتسويقها، وزيادة نسبة الإنفاق من الناتج الإجمالي على البحث العلمي، والاهتمام بأحوال الباحثين وضمان استقرارهم الاقتصادي والاجتماعي، والعمل على رفع تأهيلهم العلمي باستمرار، ودعوة القطاعين العام والخاص لتمويل البحوث العلمية لمعالجة المشكلات التي يعانونها، وإنشاء مخابر ومراكز علمية متميزة، وإحداث معامل لتنفيذ البحوث المتخصصة، وتوفير منافذ كافية بأسعار مناسبة، على شبكات المعلومات العلمية اللازمة للبحوث العلمية، وتوفير المراجع والدوريات الضرورية لتلك البحوث.
وفيما يلي استعراض سريع موجز عن مؤسسات البحث العلمي في بعض الدول العربية:
ففي الأردن يتولى المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، الذي يرأسه ولي العهد، إقرار السياسة العامة للعلوم والتكنولوجيا، ووضع برامجها والخطط المنبثقة عنها، ومتابعة تنفيذها وتقويمها، وتنظيم التعاون العلمي والتقاني مع الجهات المحلية والعربية والإقليمية والدولية في القطاعات المختلفة. وتقوم بتنفيذ البحوث العلمية فيها الجمعية الملكية الأردنية، والجامعات، وأجهزة البحث العلمي الأخرى المرتبطة بالوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية.
وفي تونس يتولى تخطيط سياسة البحث العلمي وتنسيقها ورسمها جهتان: إدارة البحث العلمي وتتبع لوزارة التربية والتعليم والبحث العلمي، ومجلس البحث العلمي والتقني. أما الأجهزة المنفذة للبحوث فهي المعهد الوطني للبحث العلمي والتقني الذي يتألف من أحد عشر مركزاً .
أما في الجزائر فتخطط للبحوث العلمية المحافظة السامية للبحث العلمي والتقني، وهي تتبع لرئاسة الجمهورية. أما وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فترسم السياسة العلمية والتربوية للجامعات. أما التنفيذ فتقوم به مراكز البحوث التابعة للمحافظة السامية للبحث، والمراكز البحثية التي تتبع الكثير من الوزارات، والمعهد التقني لتنمية الزراعة الصحراوية، والمعهد الوطني للبحث الزراعي التابعين لوزارة الفلاحة والصيد البحري.
وفي العراق يخطط للبحوث وينسق بينها ويرسم سياسة البحث العلمي مجلس البحث العلمي، الذي يرتبط برئاسة مجلس الوزراء، وكذلك وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تعنى برسم السياسات العلمية للجامعات ومنها البحوث التي تجرى فيها. أما تنفيذ البحوث فيتم في المراكز البحثية التابعة لمجلس البحث العلمي وفي الجامعات المختلفة.
وتعد جمهورية مصر العربية، من بين الدول العربية، رائدة في مجال البحث العلمي، ففيها يخطط للبحث العلمي وينسق بين المراكز ويرسم السياسة العامة لها، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجية، التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، إضافة إلى المجلس الأعلى للجامعات الذي يرتبط بوزارة التعليم العالي. وينفذ البحوث في مصر المراكز البحثية والمعاهد التابعة لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجية، وهي نحو عشرة مراكز، إضافة إلى البحوث التي تجري في الجامعات.